الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 350 ] ( ياأيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين فترى الذين في قلوبهم مرض يسارعون فيهم يقولون نخشى أن تصيبنا دائرة فعسى الله أن يأتي بالفتح أو أمر من عنده فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين ويقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين ) من المعلوم في السيرة النبوية الشريفة أن النبي صلى الله عليه وسلم وادع اليهود حين قدم المدينة ، وأقرهم على دينهم وأموالهم ، وأثبت ذلك في الكتاب الذي كتبه في المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار وحقوق القبائل والبطون ، ومما جاء في ذلك الكتاب : " وأنه من تبعنا من اليهود فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصر عليهم " ومنه في حقوق الحلف والولاء في الحرب : " وأن اليهود ينفقون مع المؤمنين ما داموا محاربين ، وأن يهود بني عوف أمة مع المؤمنين ، لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ، مواليهم وأنفسهم ، إلا من ظلم أو أثم فإنه لا يوتغ ( أي يهلك ) إلا نفسه وأهل بيته ، وأن ليهود بني النجار مثل ما ليهود بني عوف " ثم أعطى مثل ما لبني عوف ليهود بني الحارث وساعدة وجشم والأوس وثعلبة - ومنهم جفنة - والشطنة .

                          قال ابن القيم في الهدي النبوي : " ولما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة صار الكفار معه ثلاثة أقسام : قسم صالحهم ووادعهم على ألا يحاربوه ، ولا يظاهروا عليه ، ولا يوالوا عليه عدوه ، وهم على كفرهم آمنون على دمائهم وأموالهم ، وقسم حاربوه ونصبوا له العداوة ، وقسم تاركوه فلم يصالحوه ولم يحاربوه ، بل انتظروا ما يئول إليه أمره وأمر أعدائه ثم من هؤلاء من كان يحب ظهوره وانتصاره في الباطن ، ومنهم من دخل معه في الظاهر ، [ ص: 351 ] وهو مع عدوه في الباطن ؛ ليأمن الفريقين ، وهؤلاء هم المنافقون ، فعامل كل طائفة من هذه الطوائف بما أمره به ربه تبارك وتعالى فصالح يهود المدينة ، وكتب بينهم وبينه كتاب أمن . وكانوا ثلاث طوائف حول المدينة ; بني قينقاع ، وبني النضير ، وبني قريظة ، فحاربته بنو قينقاع بعد ذلك بعد بدر ، وأظهروا البغي والحسد " ، ثم قال في فصل آخر : " ثم نقض العهد بنو النضير ، قال البخاري : وكان ذلك بعد بدر بستة أشهر " وبين كيف تآمروا على قتل النبي صلى الله عليه وسلم وتقدم ذكر ذلك في تفسير قوله تعالى من هذه السورة : ( يا أيها الذين آمنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا إليكم أيديهم فكف أيديهم عنكم ) ( 5 : 11 ) إذ ورد أن الآية نزلت في ذلك ، ثم بين في فصل آخر أن قريظة كانت أشد عداوة للنبي صلى الله عليه وسلم وأنهم نقضوا صلحه لما خرج إلى غزوة الخندق ، وبين كيف حارب كل طائفة وأظهره الله عليها . فهذا هو السبب العام في النهي عن موالاة أهل الكتاب في هذه الآيات . وكان نصارى العرب ، وكذا الروم بالطبع ، حربا له كاليهود .

                          وأما السبب الخاص الذي ذكروه في سبب النزول فهاك ملخصه : أخرج رواة التفسير المأثور ، والبيهقي في الدلائل ، وابن عساكر ، عن عبادة بن الوليد ، أن عبادة بن الصامت قال : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمره عبد الله بن أبي ابن سلول ( زعيم المنافقين ) وقام دونهم ، ومشى عبادة بن الصامت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج ، وله من حلفهم مثل الذي كان لعبد الله بن أبي ، فخلعهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : " أتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ إلى الله ورسوله من حلف هؤلاء الكفار وولايتهم " ، قال : وفيه وفي عبد الله نزلت الآيات في المائدة ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء ) إلى قوله : ( فإن حزب الله هم الغالبون ) .

                          وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، إن لي موالي من اليهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية موالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : " يا أبا الحباب ! أرأيت الذي نفست به من ولاء يهود على عبادة ، فهو لك دونه " قال : إذن أقبل ، فأنزل الله : ( يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى ) إلى أن بلغ ( والله يعصمك من الناس ) ( 5 : 67 ) .

                          وأخرج ابن جرير ، وابن المنذر ، عن عكرمة في الآية ، أنها نزلت في بني قريظة ؛ [ ص: 352 ] إذ غدروا ونقضوا العهد بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في كتابهم إلى أبي سفيان بن حرب ؛ يدعونه وقريشا ليدخلوهم حصونهم ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم أبا لبابة بن عبد المنذر إليهم يستنزلهم من حصونهم ، فلما أطاعوا له بالنزول أشار إلى حلقه بالذبح ، وفيها أن بعض المسلمين كانوا يكاتبون النصارى بالشام ، وأن بعضهم كان يكاتب يهود المدينة بأخبار النبي صلى الله عليه وسلم يمنون إليهم لينتفعوا بما لهم ولو بالقرض ، فنهوا عن ذلك . وروى ابن جرير أن بعضهم قال : لما خافوا أن يدال للمشركين يوم أحد أنه يلحق بفلان اليهودي فيتهود معه . وقال آخر : إنه يلحق بفلان النصراني فيتنصر معه ، وأن الآية نزلت في ذلك ، وكان هؤلاء من المنافقين .

                          أقول : الظاهر أن الآيات نزلت بعد تلك الوقائع وغيرها مما ذكروه ، إن صحت الروايات ، وأن معنى جعلها أسبابا لنزولها أنها نزلت في المعنى الذي ينتظمها ، وهو النهي عن موالاة النصر والمظاهرة لهؤلاء الناس ; إذ كانوا حربا للنبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين ، وكانوا هم المعتدين في ذلك ; فإن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقاتل إلا من نصبوا أنفسهم لقتاله ، ومعناها عام في كل حال كالحال التي نزلت فيها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية