الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 339 ] ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه فاحكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم في ما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون وأن احكم بينهم بما أنزل الله ولا تتبع أهواءهم واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم وإن كثيرا من الناس لفاسقون أفحكم الجاهلية يبغون ومن أحسن من الله حكما لقوم يوقنون ) هذه الآيات تتمة السياق ؛ بين الله تعالى شأنه إنزال التوراة ثم الإنجيل على بني إسرائيل ، وما أودعه فيها من هدى ونور ، وما حتم عليهم من إقامتهما ، وما شدد عليهم من إثم ترك الحكم بهما فناسب بعد ذلك أن يذكر إنزاله القرآن على خاتم النبيين والمرسلين ، ومكانه من الكتب التي قبله ، وكون حكمته تعالى اقتضت تعدد الشرائع ومناهج الهداية ، فتلك مقدمات ووسيلة ، وهذا هو المقصد والنتيجة ، قال : ( وأنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب ومهيمنا عليه ) أي وأنزلنا إليك الكتاب الكامل الذي أكملنا به الدين ، فكان هو الجدير بأن ينصرف إليه معنى الكتاب الإلهي عند الإطلاق ، وهو القرآن المجيد ، هذه حكمة التعبير بالكتاب بعد التعبير عن كتاب موسى باسمه الخاص ( التوراة ) وعن كتاب عيسى باسمه الخاص ( الإنجيل ) ومثل هذا إطلاق لفظ النبي ، حتى في كتبهم ، وقوله : ( بالحق ) . . . إلخ ، معناه أنزلناه متلبسا بالحق ، مؤيدا به ، مشتملا عليه ، مقررا له ، بحيث لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، [ ص: 340 ] مصدقا لما تقدمه من جنس الكتب الإلهية ; كالتوراة والإنجيل ; أي ناطقا بتصديق كونها من عند الله ، وأن الرسل الذين جاءوا بها لم يفتروها من عند أنفسهم .

                          وأما قوله : ( ومهيمنا عليه ) أي على جنس الكتاب الإلهي ، فمعناه أنه رقيب عليها وشهيد ، بما بينه من حقيقة حالها في أصل إنزالها ، وما كان من شأن من خوطبوا بها ، من نسيان حظ عظيم منها وإضاعته ، وتحريف كثير مما بقي منها وتأويله ، والإعراض عن الحكم والعمل بها ، فهو يحكم عليها ; لأنه جاء بعدها . روى ابن جرير عن ابن عباس أنه قال : ( ومهيمنا عليه ) يعني أمينا عليه ، يحكم على ما كان قبله من الكتب ، وفي رواية عنه عند الفريابي وسعيد بن منصور والبيهقي ورواة التفسير المأثور قال : مؤتمنا عليه ، وفي رواية أخرى قال : شهيدا على كل كتاب قبله .

                          لسان العرب : وقال ابن الأنباري في قوله " ومهيمنا عليه " قال : المهيمن ( أي من أسماء الله ) : القائم على خلقه ، وأنشد :

                          ألا إن خير الناس بعد نبيه مهيمنه التاليه في العرف والنكر

                          ( قال ) معناه : القائم على الناس بعده ، وقيل : القائم بأمور الخلق .

                          ( قال ) وفي المهيمن خمسة أقوال : قال ابن عباس : المهيمن المؤتمن . وقال الكسائي : المهيمن : الشهيد . وقال غيره : هو الرقيب ، يقال هيمن يهيمن هيمنة : إذا كان رقيبا على الشيء ، وقال أبو معشر : ( ومهيمنا عليه ) معناه وقبانا عليه ، وقيل : وقائما على الكتب . اهـ . والظاهر من مجموع الأقوال أن المهيمن على الشيء هو من يقوم بشئونه ، ويكون له حق مراقبته والحكم في أمره بحق ، كما وصف بذلك أبو بكر رضي الله عنه في قيامه بأعباء خلافة الرسول صلى الله عليه وسلم ، والقيام بالأمر يستلزم المراقبة والشهادة عليه .

                          ومن الغرائب أن بعض المفسرين فهم من هيمنة القرآن على الكتب التي قبله أنه يشهد لها بالحفظ من التحريف والتبديل . واللفظ لا يدل على هذا المعنى ، فإذا كان معنى المهيمن : الشهيد ، فهل يصح أن يتحكموا في شهادته كما يشاءون ؟ أم الواجب عليهم الرجوع إلى ما قاله في شأن هذه الكتب وأهلها ; لأنه هو نص شهادته لها ولهم أو عليها وعليهم ؟ والقرآن يفسر بعضه بعضا ، وحسبهم أنه قال في هذه السورة نفسها في كل من أهل التوراة والإنجيل أنهم نسوا حظا مما ذكروا به ، كما قال في سورة النساء قبلها إنهم " أوتوا نصيبا من الكتاب " ، وقال فيهما جميعا إنهم كانوا يحرفون الكلم عن مواضعه ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : " لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم ، وقولوا : ( آمنا بالله وما أنزل إلينا ) ( 2 : 136 ) الآية " رواه البخاري في صحيحه ، وذكر أن سببه أنه كان بعض أهل الكتاب يقرءون التوراة بالعبرانية ، ويفسرونها لبعض المسلمين بالعربية ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم [ ص: 341 ] عن الاستماع إليهم وقبول كلامهم بهذا الحديث . يوضحه ما رواه أحمد والبزار - واللفظ له - من حديث جابر قال : نسخ عمر كتابا من التوراة بالعربية ، فجاء به إلى النبي صلى الله عليه وسلم فجعل يقرأ ، ووجه النبي صلى الله عليه وسلم يتغير ، فقال له رجل من الأنصار : ويحك يا ابن الخطاب ، ألا ترى وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ; فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، وإنكم إما أن تكذبوا بحق ، أو تصدقوا بباطل ، والله لو كان موسى بين أظهركم ما حل له إلا اتباعي " وورد في هذا المعنى أحاديث أخرى ضعيفة . والمراد من النهي عن سؤالهم النهي عن سؤال الاهتداء وتلقي ما يروونه بالقبول لأجل العلم بالشرائع الماضية وأخبار الأنبياء ; لزيادة العلم أو لتفصيل بعض ما أجمله القرآن . وسببه ما هو ظاهر من السياق ، وهو أنهم لنسيانهم بعض ما أنزل إليهم ، وتحريفهم لبعضه ، بطلت الثقة بروايتهم ، فالمصدق لها عرضة لتصديق الباطل ، والمكذب لها عرضة لتكذيب الحق ، إذ لا يتيسر لنا أن نميز فيما عندهم بين المحفوظ السالم من التحريف وغيره ، فالاحتياط ألا نصدقهم ولا نكذبهم إلا إذا رووا شيئا يصدقه القرآن أو يكذبه ، فإنا نصدق ما صدقه ، ونكذب ما كذبه ; لأنه مهيمن على تلك الكتب ، وشهيد عليها ، وشهادته حق ; لأنه نزل بالحق ، وحفظه الله من التحريف والتبديل بتوفيق المسلمين لحفظه في الصدور والسطور ، من زمن النبي صلى الله عليه وسلم إلى اليوم ، وسيحفظه كذلك إلى آخر الزمان ( إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) ( 15 : 9 ) ولا يعارض هذا قوله تعالى : ( فاسألوا أهل الذكر ) لأن ذلك ورد في السؤال عن أمر متواتر قطعي ، وهو أن الرسل كانوا رجالا يوحى إليهم .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية