الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 311 ] ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون وقالوا قلوبنا غلف بل لعنهم الله بكفرهم فقليلا ما يؤمنون )

                          عهد في سيرة البشر أن الأمة توعظ وتنذر ، فتتعظ وتتدبر ، فإذا طال عليها الأمد بعد النذير تقسو القلوب ، ويذهب أثر الموعظة من الصدور ، وتفسق عن أمر ربها ، وتنسى ما لم تعمل به مما أنذرت به ، أو تحرفه عن موضعه بضروب التأويل ، وزخرف القال والقيل ، ولقد يكون للمتأخر منها بعض العذر لجهله بما فعل المتقدم ، وأخذه ما يؤثر عنه بالتسليم لكمال الثقة وحسن الظن .

                          بين الله - تعالى - هذه السنة الاجتماعية في سورة الحديد بقوله : ( ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون ) ( 57 : 16 ) ولهذا كان - تعالى - يرسل الرسل بعضهم في أثر بعض حتى لا يطول أمد الإنذار على الناس فيفسقوا ويضلوا ، ولا يعرف التاريخ شعبا جاءت فيه الرسل تترى كشعب إسرائيل ؛ لذلك كانوا بمعزل عن صحة العذر بطول الأمد على الإنذار ، وفي ناحية عما يرجى قبوله من التعلل والاعتذار ؛ لهذا قال - تعالى - بعد كل ما تقدم : ( ولقد آتينا موسى الكتاب وقفينا من بعده بالرسل ) فلم يمر زمن بين موسى وعيسى آخر أنبيائهم إلا وكان فيه نبي مرسل ، أو أنبياء متعددون يأمرون وينهون ، كأنه يقول : اعلموا يا بني إسرائيل أنه إن كان لطول الأمد على النبوة وبعد العهد بالرسل يد في تغيير الأوضاع ونسيان الشرائع ، وكان في ذلك وجه لاعتذار بعض المتأخرين ، فإن ذلك لا يتناولكم ، فإن الرسل قد جاءتكم تترى ثم كان من أمركم معهم ما كان .

                          ذكر رسل بني إسرائيل بالإجمال لبيان ما ذكر ، ثم خص بالذكر المسيح - عليه السلام - فقال : ( وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ) ، فأما البينات : فهي ما يتبين به الحق من الحجج القيمة والآيات الباهرة . وقال الأستاذ الإمام : المراد بها ما عاد إليه من أحكام التوراة . وأما روح القدس فهو روح الوحي الذي يؤيد الله - تعالى - به أنبياءه في عقولهم ومعارفهم [ ص: 312 ] وهو هو المراد بقوله - تعالى - : ( وكذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا وما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ) ( 42 : 52 ) الآية . ويطلق عليه روح القدس ؛ لأن التعليم الذي يكون به مقدس ، أو لأنه يقدس النفوس كما يطلق عليه " الروح الأمين " ؛ لأن النبي الموحى إليه يكون على بينة من ربه فيه يأمن معها التلبيس فيما يلقى إليه ، قال - تعالى - في القرآن : ( نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين ) ( 26 : 193 ، 194 ) .

                          ( ثم قال الأستاذ ) : ذهب جمهور المفسرين إلى أن المراد بروح القدس الملك المسمى بجبريل الذي ينزل على الأنبياء ، ومنه يستمدون الشرائع عن الله - تعالى - ، وهو على حد قولهم " حاتم الجود " ، وذكر بعضهم وجها آخر ، وهو أن المراد بها روح عيسى نفسه ، ووصفها بالقداسة والطهارة بمعنى إعاذته من الشيطان أن يكون له حظ فيه ، أو لأنه أنزل عليه الإنجيل بالتعاليم التي تقدس النفوس ، بل قال بعضهم : إن روح القدس هو الإنجيل ، والمراد من الكل واحد ، وهو أن الله - تعالى - أرسل إليهم عيسى بعد ظهور رسل كثيرين فيهم بعد موسى ، وأعطاه ما لم يعط كل رسول من أولئك من الوحي أو من قوة الروح ، وزكاء النفس ومكارم الأخلاق ، ونسخ بعض الأحكام ، وقد كان حظه مع ذلك منهم كحظ سابقيه الذين لم يؤتوا من المواهب مثل ما أوتي .

                          ماذا كان حظ أولئك الرسل من بني إسرائيل ؟ كان حظهم منهم ما أفاده الاستفهام التوبيخي في قوله : ( أفكلما جاءكم رسول بما لا تهوى أنفسكم استكبرتم ) ، فاتبعتم الهوى وأطعتم الشهوات ، وعصيتم الرسل واحتميتم عليهم أن أنذروكم ودعوكم إلى أحكام كتابكم ، ( ففريقا كذبتم وفريقا تقتلون ) كان المعهود في التخاطب وكلام الناس أن تذكر هذه المساوئ ثم يوبخون عليها ، ولكن طواها في الخطاب وأدمجها في الاستفهام لتفاجئ النفوس بقوة التشنيع والتقبيح ، وتبرز لها في ثوب الإنكار والتوبيخ ، وفي ذلك الإيماء إلى أن هذه المعاملة السوءى مما لا يخفى خبرها ، ولا تغيب عن الإنكار صورها ، فلا ينبغي الإلماع إليها إلا في سياق تقريع مجترحيها ، وهذا من إيجاز القرآن الذي لا يعرج إليه فكر الإنسان ، وانظر كيف أورد خبر القتل بصيغة المضارع التي تدل على الحال لاستحضار تلك الصورة الفظيعة ، وتمثيلها للسامع حتى يمثلها في الخيال ، وإن مرت عليها القرون والأحوال ؛ لأنها أفاعيل لا تخلق جدتها ، ودماء لا تطير رغوتها ، وإن مثل هذا التعبير ليمثل تلك الصورة المشوهة ؛ لأن الألفاظ إذا قرعت الذهن بمفهومها ، يتناول الخيال ذلك المفهوم ويصوره بالصورة اللائقة به ، فيكون له من التأثير ما يناسبه .

                          قتلوا من الأنبياء المرسلين زكريا ويحيى - عليهما السلام - ويروى أنهم قتلوا في يوم واحد مائة وخمسين نبيا ، فإن صح هذا ، فالمراد بأولئك الأنبياء من كانت نبوتهم محصورة في الدعوة [ ص: 313 ] إلى إقامة التوراة ، ودليلها محصور في الإنباء ببعض المغيبات ، وكان هذا الفريق منتشرا في أسباط بني إسرائيل وكثيرا بكثرتهم .

                          وفي هذه الآية حجتان للنبي - صلى الله عليه وسلم - : حجة على بني إسرائيل ، وحجة على الذين يعجبون لعدم إيمانهم به وإجابتهم دعوته ، وبيان أن المجاحدة والمعاندة من شأنهم ، ومما عرف من شنشنتهم ، وناسب بعد هذا أن يذكر ما كانوا يعتذرون به عن الإيمان به ، والاهتداء بكتابه بعد تقرير الدعوة وإقامة الحجة ، فقال : ( وقالوا قلوبنا غلف ) والغلف : بضم وسكون وبضمتين جمع أغلف ، وهو ما يحيط به غلاف يمنع أن يصيبه شيء . والمراد أننا لا نعقل قولك ، ولا ينفذ إلى قلوبنا مفهوم دعوتك ؛ فهو بمعنى قوله - تعالى - : ( وقالوا قلوبنا في أكنة مما تدعونا إليه وفي آذاننا وقر ومن بيننا وبينك حجاب ) ( 41: 5 ) .

                          وقد رد الله - تعالى - عليهم بما يشعر بكذبهم وعنادهم فقال : ( بل لعنهم الله بكفرهم ) أي أن قلوبهم ليست غلفا لا تفهم الحق بطبعها ، وإنما أبعدهم الله - تعالى - من رحمته بسبب كفرهم بالأنبياء السابقين ، وبالكتاب الذي تركوا العمل به وحرفوه اتباعا لأهوائهم ، فهم قد أنسوا بالكفر وانطبعوا عليه ، فكان ذلك سببا في حرمانهم من قبول الرحمة الكبرى بإجابة دعوة خاتم النبيين ، هذا هو معنى اللعن ، وقد ذكرت معه علته ؛ ليعلم أنه جرى على سنة الله - تعالى - في الأسباب والمسببات ، وأن الله لم يظلمهم بهذا ، وإنما ظلموا أنفسهم بالكفر الذي يستتبع الكفر ، والعصيان الذي يجر إلى التمادي في العصيان ، كما هي السنة في أخلاق الإنسان ، ولما ذكر اللعن معللا بالكفر الذي هو نتيجة تأثير أعمالهم السابقة في أنفسهم ، وكان مما يخطر بالبال أن أولئك القوم لم يكونوا كافرين بل مؤمنين بالله وكتابه ورسله إليهم استدرك فقال : ( فقليلا ما يؤمنون ) ، وإنما القلة في الإيمان باعتبار ما يؤمن به من أصول الدين وأحكام الشريعة ، وبالنسبة إلى اليقين في الإيمان وتحكيمه في الفكر والوجدان .

                          ولقد كان القوم يؤمنون بالشريعة في الجملة وكما تعطيه ظواهر الألفاظ ، ولكنهم لم يلبسوها مفصلة تفصيلا ولم يفقهوا حكمها وأسرارها ، فلم يكن لها سلطان على قلوبهم ، ولم تكن هي المحركة لإرادتهم في أعمالهم ، وإنما كان يحركها الهوى والشهوة ، ويصرفها عامل اللذة ، فالإيمان إنما كان عندهم قولا باللسان ، ورسما يلوح في الخيال ، تكذبه الأعمال وتطمسه السجايا الراسخة والخلال ، وهذا هو الإيمان الذي لا قيمة له عند الله - تعالى - ، ومن العجب أن نرى آيات القرآن تبطله بالحجج القيمة والأساليب المؤثرة ، وأهل القرآن عن ذلك غافلون ، فقليلا ما يعتبرون ويتذكرون .

                          ومن مباحث اللفظ في الآية : أن كثيرا من المفسرين يزعمون أن ( ما ) زائدة وما هي بزائدة وفاقا لابن جرير الطبري ، وجل القرآن أن يكون فيه كلم زائد ، وإنما تأتي ( ما ) هذه لإفادة العموم تارة ولتفخيم الشيء تارة ، ويقول ابن جرير : إنما يؤتى بها في مثل هذا [ ص: 314 ] المقام كمبتدأ كلام جديد يفيد العموم ، كأنه قال : فإيمانا قليلا ذلك الذي يؤمنون به . وأما التي لتفخيم الشيء فكقوله - تعالى - : ( فبما رحمة من الله لنت لهم ) ( 3 : 159 ) أي فبسبب رحمة عظيمة الشأن خصك الله بها لنت لهم على ما لقيت منهم ، وقد بين - تعالى - هذه الرحمة بقوله في وصفه - صلى الله عليه وسلم - : ( بالمؤمنين رءوف رحيم ) ( 9 : 128 ) وقوله : ( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ) ( 21 : 107 ) .

                          هذا ما اختاره الأستاذ الإمام في تفسير قوله - تعالى - : ( فقليلا ما يؤمنون ) ، وهناك وجه آخر أورده ابن جرير في تفسيره ، وهو أنه لا يؤمن بالنبي وما جاء به إلا قليل منهم ، والاستدراك على هذا الوجه أظهر ؛ فإنه لما بين أن كفرهم المستقر ، وعصيانهم المستمر ، كان سببا في لعنهم وإبعادهم ، كان للوهم أن يذهب إلى أنهم قوم قد سجل عليهم الشقاء وعمهم حتى لا مطمع في إيمان أحد منهم ، فجاء قوله - تعالى - : ( فقليلا ما يؤمنون ) يبين أن هذا الوهم لا يصح أن ينطلق على إطلاقه ، وأن تأثير ما ذكر في مجموع الشعب لم يستغرق أفراده استغراقا ، وإنما غمر الأكثرين ، ويرجى أن ينجو منه النفر القليل ، وكذلك كان .

                          أقول : وفيه من دقة القرآن في الصدق وتحديد الحق ما لا يعهد في كلام الناس .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية