الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ( وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ثم أقررتم وأنتم تشهدون ثم أنتم هؤلاء تقتلون أنفسكم وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان وإن يأتوكم أسارى تفادوهم وهو محرم عليكم إخراجهم أفتؤمنون ببعض الكتاب وتكفرون ببعض فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب وما الله بغافل عما تعملون أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة فلا يخفف عنهم العذاب ولا هم ينصرون )

                          كان التذكير في الآية السابقة بأهم المأمورات التي أخذ الله - تعالى - الميثاق على بني إسرائيل بها بعد توحيد الله - تعالى - وإفراده بالعبادة وبيان أنهم نقضوا ميثاق الله - تعالى - ولم يأتمروا بها ، وفي هاتين الآيتين التذكير بأهم المنهيات التي أخذ الله - تعالى - الميثاق عليهم باجتنابها ، وبيان أنهم نقضوا ميثاقه ولم ينتهوا عنها ، وقد قال هناك : ( وإذ أخذنا ميثاق بني إسرائيل ) أي الذين نزلت عليهم التوراة ، ثم التفت إلى خطاب الحاضرين في زمن التنزيل فقال : ( ثم توليتم ) وقال هنا : ( وإذ أخذنا ميثاقكم ) تماديا في سياق الالتفات ، وتذكيرا بوحدة الأمة واعتبارها كالشخص الواحد ، يصيب الخلف أثر ما كان عليه السلف من خير وشر ما استنوا بسنتهم ، وجروا على طريقتهم ، كما تؤثر أعمال الشخص السابقة في قواه النفسية ، وطبع ملكاته [ ص: 308 ] بعد انحلال مادة تلك الأعضاء التي ابتدأت العمل ، وحلول مواد أخرى في محلها تتمرن على مثل ذلك العمل ، فما يفعله الشخص في صغره ، يبقى أثره في قواه في كبره ، فكذلك الأمم .

                          وقد أورد النهي عن سفك بعضهم دم بعض ، وإخراج بعضهم بعضا من ديارهم وأوطانهم بعبارة تؤكد معنى وحدة الأمة ، وتحدث في النفس أثرا شريفا يبعثها على الامتثال إن كان هناك قلب يشعر ، ووجدان يتأثر ، فقال : ( لا تسفكون دماءكم ) فجعل دم كل فرد من أفراد الأمة كأنه دم الآخر عينه ، حتى إذا سفكه كان كأنه بخع نفسه وانتحر بيده . وقال : ( ولا تخرجون أنفسكم من دياركم ) على هذا النسق . وهذا التعبير المعجز ببلاغته خاص بالقرآن . فهذه الأحكام لا تزال محفوظة عند الإسرائيليين في الكتاب وإن لم يجروا عليها في العمل ، ولكن العبارة عنها عندهم لا تطاول هذه العبارة التي تدهش صاحب الذوق السليم والوجدان الرقيق ، فهذا إرشاد حكيم طلع من ثنايا الأحكام يهدي إلى أسرارها ويومئ إلى مشرق أنوارها ، من تدبره علم أنه لا قوام للأمم إلا بالتحقق بما تضمنته هذه الحكم ، وشعور كل فرد من أفرادها بأن نفسه نفس الآخرين ودمه دمهم ، لا فرق في الاحترام بين الروح التي تجول في بدنه والدم الذي يجري في عروقه ، وبين الأرواح والدماء التي يحيا بها إخوانه الذين وحدت بينه وبينهم الشريعة العادلة والمصالح العامة ، هذا هو الوجه الوجيه في الآية ، وقيل : معناها لا ترتكبوا من الجرائم ما تجازون عليه بالقتل والإخراج من الديار . ويقال في قوله : ( لا تسفكون ) كما قيل قبله في قوله : ( لا تعبدون إلا الله ) من تضمن صيغة الخبر للتأكيد .

                          وقوله - تعالى - : ( ثم أقررتم وأنتم تشهدون ) فيه وجهان :

                          ( أحدهما ) : أنه يخاطبهم بما كان من اعتراف سلفهم بالميثاق وقبوله ، وشهودهم الوحي الذي نزل به على موسى - عليه الصلاة والسلام .

                          ( ثانيهما ) : أن المراد الحاضرون أنفسهم ، أي أنكم أيها المخاطبون بالقرآن قد أقررتم بهذا الميثاق وتعتقدونه في قلوبكم ، ولا تنكروا بألسنتكم ، بل تشهدون به وتعلنونه ، فالحجة ناهضة عليكم به .

                          ثم بعد بيان هذا الميثاق وتسجيله عليهم بأنهم يعرفونه لا ينكرون منه شيئا ، ذكر نقضهم إياه فقال : ( ثم أنتم هؤلاء ) الحاضرون الشاهدون المشاهدون ( تقتلون أنفسكم ) أي يقتل بعضكم بعضا ، كما كان يفعل من قبلكم ، مع اعترافكم بأن الميثاق مأخوذ عليكم كما كان مأخوذا عليهم ؛ كان ( بنو قينقاع ) من اليهود أعداء بني قريظة إخوانهم في الدين ، وكان الأولون حلفاء الأوس ، والآخرون مع بني النضير حلفاء الخزرج ، ثم افترقوا فبقي بنو النضير مع الخزرج ، وخالف بنو قريظة الأوس ، وكان الأوس والخزرج قبل الإسلام أعداء ، وكانوا يقتتلون ، ومع كل حلفاؤه ، فهذا ما احتج الله - تعالى - على بني إسرائيل بقتلهم [ ص: 309 ] أنفسهم في عصر التنزيل ، ويتبع هذا القتال الأسر ، ومن لوازمه الإخراج من الديار ولذلك قال : ( وتخرجون فريقا منكم من ديارهم تظاهرون عليهم بالإثم والعدوان ) . والتظاهر : التعاون ، وتظاهرون أصله تتظاهرون كما قرأ الجمهور ، وقرأ عاصم وحمزة والكسائي بحذف إحدى التاءين للتخفيف وهو مقيس مشهور . كان كل فريق من اليهود يظاهر حلفاءه من العرب ويعاونهم على إخوانه من اليهود بالإثم كالقتل والسلب ، وبالعدوان كالإخراج من الديار .

                          ومن مثارات العجب أنه كانوا إذا اتفقوا على فداء الأسرى يفدي كل فريق من اليهود أسرى أبناء جنسه ، وإن كانوا من أعدائه ، ويعتذرون عن هذا بأنهم مأمورون في الكتاب بفداء أسرى شعب إسرائيل ، فإن كانوا مستمسكين بالكتاب ، فلم قاتلوا شعب إسرائيل وأخرجوهم من ديارهم ، وهم منهيون عن ذلك في الكتاب ؟ هذا لعب بالكتاب واستهزاء بالدين ولذلك قال - تعالى - : ( وإن يأتوكم أسارى تفادوهم ) بعد أن كنتم أسرتموهم وأخرجتموهم بالتظاهر عليهم مع العرب ، ( وهو محرم عليكم إخراجهم ) بميثاق أغلظ من طلب مفاداتهم . ( أفتؤمنون ببعض الكتاب ) وهو فداء الأسرى ، ( وتكفرون ببعض ) آخر منه وهو النهي عن القتل والإخراج ؟ أليس من الحماقة والهزء والسخرية أن يدعي مدع مثل هذا الإيمان بأهون الأمور مع الكفر بأعظمها ؟ والإيمان لا يتجزأ ، فالكفر بالبعض كالكفر بالكل .

                          قال الأستاذ الإمام : في التعبير عن المخالفة والمعصية بالكفر دليل على ما سبق بيانه في معنى قوله - تعالى - : ( وأحاطت به خطيئته ) فالقرآن يصرح هنا في آيات كثيرة بأن من يقدم على الذنب لا تضطرب نفسه قبل إصابته ، ولا يتألم ويندم بعد وقوعه فيرجع إلى الله - تعالى - تائبا ، بل يسترسل فيه بلا مبالاة بنهي الله - تعالى - عنه وتحريمه له ، فهو كافر به ؛ لأن المؤمن بأن هذا شيء حرمه الله - تعالى - ، المصدق بأنه من أسباب سخطه وموجبات عقوبته لا يمكن ألا يكون لإيمان قلبه أثر في نفسه ، فإن من الضروريات أن لكل اعتقاد أثرا في النفس ، ولكل أثر في النفس تأثير في الأعمال . وهذا هو الوجه في الأحاديث الصحيحة الناطقة بأنه ( ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر شاربها وهو مؤمن ) ) .

                          ولقد سمى الله الذنب هاهنا كفرا لما تقدم ، وتوعد عليه بوعيد الكفر فقال : ( فما جزاء من يفعل ذلك منكم إلا خزي في الحياة الدنيا ) . . . إلخ . أوعدهم الله - تعالى - كما أوعد من قبلهم ومن بعدهم بأنهم يعاقبون على نقض ميثاق الدين الذي يجمعهم ، والشريعة التي هي مناط وحدتهم ورباط جنسيتهم بالخزي العاجل ، والعذاب الآجل ، وقد دل المعقول ، وشهد الوجود بأنه ما من أمة فسقت عن أمر ربها ، واعتدت حدود شريعتها ، إلا وانتكث فتلها ، وتفرق شملها ، ونزل بها الذل والهوان ، وهو الخزي المراد في القرآن ، وهذه هي سنة الخليقة ، ذكرها ليعتبر بها من صرفته الغفلة عنها .

                          [ ص: 310 ] وأما العذاب الآجل الذي عبر عنه بقوله : ( ويوم القيامة يردون إلى أشد العذاب ) فهو على كونه من عالم الغيب معقول المعنى ، وهاد إلى حكمة عليا ؛ ذلك أن النفوس البشرية إذا سحل مريرها ، واختلت بفساد الأخلاق أمورها ، وكثرت في ذا العالم شرورها ، حتى سلبت ما أعده الله - تعالى - لمن حافظوا على الحقيقة ، واستقاموا على الطريقة ، تكون جديرة بأن تسلب في الآخرة ما أعده الله - تعالى - للأرواح العالية ، وما وعد به أصحاب النفوس الزكية ، فإن سعادة الدار الدنيا لم تكن أجرا على أعمال بدنية لا تتعلق بصلاح النفس في خلق ولا نية ، وإنما هي ثمرة تزكية النفس التي يتوسل إليها بعمل الحس ، فإذا كان هذا شأن سعادة الدنيا ، فكيف يكون نعيم الآخرة جزاء حركات جسدية ، وهي الدار التي تغلب فيها الروحانية ؟ ( ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها قد أفلح من زكاها وقد خاب من دساها ) ( 91 : 7 - 10 ) .

                          ( وما الله بغافل عما تعملون ) بل هو محيط به لا يخفى عليه منه شيء . وقد قرأ عاصم في رواية المفضل ( تردون ) بالخطاب لمناسبة قوله : ( منكم ) كما قرأ الجمهور ( تعملون ) بالخطاب لذلك ، وقرأ ابن كثير ونافع وعاصم في رواية أبي بكر ويعقوب ( يعملون ) على الغيبة لرجوع الضمير إلى ( من يفعل ) .

                          ثم أكد الله - تعالى - ذلك الوعيد الشديد وبين سببه بقوله : ( أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة ) أي جعلوا حظوظهم من الحياة الدنيا بدلا من الآخرة بما فرطوا في جنب الله ، وأهملوا من شريعته ، حتى لم يتبعوا منها إلا ما يوافق أهواءهم ، ولا يعارض شهواتهم كالحمية التي حملت كل حليف على الانتصار لمحالفه المشرك ومظاهرته إياه على قومه الذين تجمعه بهم رابطة الدين والنسب ( فلا يخفف عنهم العذاب ) ؛ لأن علته ذاتية فيهم ، وهي ظلمة أرواحهم وفساد أخلاقهم ( ولا هم ينصرون ) بشفاعة شافع ، أو ولاية ولي من دون الله ( من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه ) ( 2 : 255 ) ؟ وأنى يؤذن بالشفاعة لمن سجلت عليهم الشقاء أعمالهم بإحاطة الخطايا بهم من كل جانب ، حتى أخذت عليهم طريق الرحمة ، وقطعت عليهم باختيارهم سبيل الرضوان الإلهي ، فمن الجهل إهمالهم الأمر والنهي ، ونقضهم ميثاق الله - تعالى - في أهم ما واثقهم به ، واعتمادهم مع هذا كله على الشفعاء ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى وهم من خشيته مشفقون ) ( 21 : 28 ) .

                          ومن مباحث الألفاظ في قوله : ( وهو محرم عليكم ) أن الضمير للشأن عند المفسر والجماهير . وقال الأستاذ الإمام : إن المعهود في كلام العرب أن الجملة التي تقضي الحال فيها بتقدم الاسم وتأخر الفعل ، أو ما يشتق منه لا بد أن تصدر بضمير تعتمد عليه ، ولهذا شواهد في كلام البلغاء يتفق فيها ذوقهم ، وإن اختلف النحاة في إعرابها .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية