الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق الثالث والسبعون والمائة بين قاعدة ما يبطل التتابع في صوم الكفارات والنذور وغير ذلك وبين قاعدة ما لا يبطل التتابع )

اعلم أن هذه من المواضع المشكلة فإن مالكا رحمه الله تعالى قال في المدونة إذا أكل في صوم [ ص: 195 ] الظهار أو القتل أو النذر المتتابع ناسيا أو مجتهدا أو مكرها أو وطئ نهارا غير المظاهر منها ناسيا قضى يوما متصلا بصومه فإن لم يفعل ابتدأ الصوم من أوله فإن وطئ المظاهر منها ليلا أو نهارا أول صومه أو آخره ناسيا أو عامدا ابتدأ الصوم ، وقال الشافعي رحمه الله إن وطئها ليلا لم يبطل صومه ووافقنا أبو حنيفة في هذه المسألة ، وقال الشافعي وأبو حنيفة الفطر يبطل التتابع مطلقا وخالفهما أحمد بن حنبل وعللا ذلك بأن الفطر باختياره بخلاف المرض والإغماء عند الشافعي كالمرض خلافا لأبي حنيفة ، وكذلك الحامل والمرضع كالمريض عنده .

وقال أبو الطاهر من أصحابنا إن أفطر جاهلا فقولان نظرا إلى أن الجاهل هل يلحق بالعامد أم لا وفي السهو والخطأ ثلاثة أقوال ثالثها التفرقة بين السهو فيجزئ والخطأ فلا يجزئ ويبتدي لأن معه تمييزه بخلاف السهو وسبب الخلاف هل التتابع مأمور به فيقدح فيه النسيان أو التفريق محرم فلا تضر ملابسته سهوا فإن المحرمات لا يأثم الإنسان بملابستها مع عدم القصد كشرب الخمر ساهيا أو وطئ أجنبية جاهلا بأنها أجنبية أو أكل طعاما نجسا أو حراما مغصوبا غير عالم به فإن الإجماع منعقد في هذه الصور كلها على عدم الإثم ( قلت ) وهذه الفتاوى كلها مشكلة من جهة أن لفظ الكتاب العزيز أمر متعلق بطلب وهو قوله تعالى { فصيام شهرين متتابعين } ومعناه ليصم شهرين متتابعين فيكون خبرا معناه الأمر أو يكون التقدير فالواجب عليه صيام شهرين [ ص: 196 ] متتابعين .

وهذا هو الأظهر ؛ لأنه أقرب لموافقته الظاهر من بقاء الخبر خبرا على حاله ونستفيد الوجوب من قوله تعالى فالواجب عليه واللفظ على كل تقدير متعلق بطلب لا يدفع فكيف يتخيل أنه من باب النهي على أحد الاحتمالين اللذين ذكرهما ابن بشير ولا يمكن الاعتماد في ذلك على أن التتابع إذا كان واجبا كان تركه محرما فإن كل واجب تركه محرم وكل محرم تركه واجب فالوجوب من لوازم التحريم والتحريم من لوازم الوجوب في النقيض المقابل فالذي يصح في الآية أن التتابع ليس من باب المحرم وأنه يرجع إلى تحريم التفريق هذا بعيد ، وإذا تقرر أنه ليس من المحرمات بقي الإشكال من جهة أن المطلوب صوم شهرين متتابعين ولم يأت بهما المكلف في تلك الصور كلها الناسي والمجتهد والمكره وكل هؤلاء فرقوا ولم يقع فعلهم مطابقا لمقتضى الطلب فوجب البقاء في العهدة كما أن الله تعالى طلب الصلاة بالنية والطهارة والستارة ونحوها من الشروط فمن نسي أحد هذه الأشياء أو اجتهد فأخطأ فيها أو أكره على عدمها بطلت الصلاة ، وكذلك إذا أكره على الأكل والشرب في رمضان أو نسي أو اجتهد فأخطأ فإن صومه يبطل ونظائره كثيرة في الشريعة فما بال التتابع خرج عن هذا النمط في الكفارات والمنذورات هذا وجه الإشكال .

وكذلك ما قاله الشافعي أيضا في الإغماء فينبغي أن يبطل التتابع كما تبطل الصلاة والصوم بالإغماء ، وكذلك المرض عند الشافعي وأبو حنيفة مثله فالكل مشكل والذي [ ص: 197 ] يظهر في بادي الرأي أن التفريق متى حصل بأي طريق كأن وجب ابتداء الصوم كما قلناه في جميع النظائر المتقدمة لأن الصوم بوصف التتابع لم يحصل ومتى لم يحصل المطلوب الشرعي مع إمكان الإتيان به وجب الإتيان به هذا هو القاعدة

( والجواب ) عن هذا الإشكال ببيان قاعدة وهي أن الأحكام الشرعية على قسمين خطاب وضع وخطاب تكليف فخطاب الوضع هو نصب الأسباب والشروط والموانع والتقديرات الشرعية وخطاب التكليف هو الأحكام الخمسة الوجوب والتحريم والندب والكراهة والإباحة فأما خطاب الوضع فلا يشترط فيه علم المكلف ولا قدرته ولا إرادته كالتوريث بالأنساب والإنسان لا يعلم بذلك ولا هو من قدرته ولا إرادته فيدخل الميراث في ملكه وإن لم يشعر به ولذلك نوجب الضمان على الصبيان والمجانين والغافلين ونطلق بالإضرار ونوجب الظهر بالزوال والصوم برؤية الهلال إلى غير ذلك مما هو من خطاب الوضع وخطاب التكليف يشترط فيه العلم والقدرة والإرادة فما لا قدرة له عليه لا يكلف به ، وكذلك ما لم يبلغه لا يلزمه حتى يعلم به غير أن التمكن من العلم يقوم مقام العلم في التكليف

. وقد تقدمت هذه القاعدة مبسوطة فإذا وضحت فنقول المتابعة من باب خطاب التكليف ؛ لأن الصوم مكلف به وصفة المكلف به مكلف بها والتتابع صفة الصوم فتكون مكلفا بها ، فيكون من باب التكليف فلذلك يسقط التكليف بها في تلك [ ص: 198 ] الأحوال لمنافاة النسيان والإكراه والمرض والإغماء ونحوها التكليف لطفا من الله تعالى بالعباد وعدم وطء المظاهر منها قبل التكفير شرط لقوله تعالى { من قبل أن يتماسا } والمفهوم من قول القائل افعل كذا قبل كذا أن التقدم شرط ولذلك يصدق قولنا استأذن المرأة في النكاح وأحضر الولي قبل العقد أن هذين شرطان ، وكذلك استتر قبل الصلاة وتطهر وانو أن هذه الأمور شروط ، وإذا كان هذا الكلام يفيد الشرطية كان تقدم العدم شرطا فلذلك قدح فيه النسيان وغيره فإن ما لا يشترط فيه العلم والقدرة يثبت مطلقا وما يثبت مطلقا اعتبر مطلقا ، فيكون شرطا في جميع الحالات فيؤثر فقده والتكليف لما كان العلم والقدرة شرطين فيه فقد التكليف عند عدمهما فإذا علمت ذلك فالمفهوم من قوله تعالى { من قبل أن يتماسا } أنه يصوم شهرين متتابعين ليس قبلهما وطء ولا في أثنائهما وطء فهذان أمران قد يتغير أحدهما بتقدم الوطء فاستحال بعد ذلك أن يصدق أنه يصوم شهرين متتابعين ليس قبلهما وطء لأجل تقدم الوطء وبقي الآخر وهو أنه يصوم شهرين متتابعين ليس في خلالهما وطء والقاعدة أن المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف لقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } ، ولقوله عليه السلام { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فلذلك قلنا يبتدي الصوم في الظهار متتابعا إذا وطئها قبله وإن كان وصف تقدم عدم الوطء قد تعذر ؛ لأنه الممكن الباقي .

وأما في النذر ونحوه فيأتي [ ص: 199 ] بيوم غير اليوم الذي أفطر فيه ناسيا يصله بآخر صيامه تكملة للعدة لا لتحصيل وصف التتابع في جميع الصوم ، بل في آخره فقط ؛ لأن تحصيله في أثناء الصوم قد تعذر فأفطر ناسيا وبقي تحصيله في آخره ممكنا فوجب الممكن وسقط المتعذر على القاعدة المتقدمة ، وكذلك في جميع الكفارات وأنواع الصوم المتتابع فاندفع الإشكال بهذه القاعدة بفضل الله تعالى .

( مسألة ) قال مالك رحمه الله إذا تطوع بالصوم أو بالصلاة ونحوهما مما يجب بالشروع وعرض عارض يقتضي فساده ناسيا أو مجتهدا لم يجب قضاء الصوم والصلاة وإن أفطر متعمدا أو أبطل الصلاة وجب القضاء على قاعدة الوجوب بالشروع مع أن قاعدة الوجوب بالشروع تقتضي القضاء مطلقا ألا ترى أن الصلوات الخمس وصوم رمضان يقضيهما إذا فسدا بأي طريق كان فكان يلزمه هنا كذلك وهو إشكال كبير فإن الواجب ينبغي أن لا يختلف حاله

( والجواب ) عنه أن وجوب التطوعات عنده مأخوذ من قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } نهى سبحانه وتعالى عن الإبطال ، فيكون الإكمال واجبا مكلفا به والتكليف يشترط فيه القدرة والعلم على القاعدة المتقدمة فلا يجب الإتمام حالة عدم القدرة والعلم فلا يجب القضاء كذلك .

وإذا تعمد الإفساد اندرجت هذه الحالة في التكليف لحصول القدرة والعلم فوجب القضاء لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح لعائشة وحفصة رضي الله عنهما في صوم التطوع { اقضيا يوما مكانه } وكانتا عامدتين لإفساد [ ص: 200 ] ذلك اليوم في حالة يثبت فيها التكليف فبقيت الحالة التي لا يثبت فيها التكليف على مقتضى الأصل ؛ لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد فيقتصر به حيث ورد ( فإن قلت ) الصوم في رمضان والصلوات الخمس يقضيان مطلقا فلم لا أقضي هذا مطلقا ، قلت المشهور في علم الأصول أن القضاء إنما يجب بأمر جديد فيتبع ذلك الأمر على حسب وروده ، وقد ورد الأمر بالقضاء في الواجب المتصل مع العذر وعدمه لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } والمرض عذر ، وقد وجب معه القضاء فلذلك أوجبنا القضاء مطلقا ولم يرد لنا في التطوعات مثل ذلك ، بل في صورة عدم العذر خاصة فاقتصر عليها ؛ لأن وجوب القضاء تبع للأمر به كما تقدم فهذا هو تلخيص الفرق بين قاعدة ما يبطل التتابع وقاعدة ما لا يبطله وشرط قاعدة خطاب الوضع وقاعدة خطاب التكليف .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

قال ( الفرق الثالث والسبعون والمائة بين قاعدة ما يبطل التتابع في صوم الكفارات والنذور وغير ذلك وبين قاعدة ما لا يبطل التتابع )

قلت جميع ما قاله فيه صحيح إلا قوله فالمفهوم من قوله تعالى { من قبل أن يتماسا } أنه يصوم شهرين متتابعين ليس قبلهما وطء ولا في أثنائها وطء فإنه ظهر منه بحسب مساق كلامه أن الآية تقتضي عدم تقدم الوطء مطلقا .

وهذا لا يصح أن تقتضيه الآية لاشتمال الآية على من تقدم وطؤها وإنما المراد بالآية أن لا يتقدم الصوم وطء بعد الظهار والله أعلم ، وجميع ما قاله بعده في الفروق الستة صحيح



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق الثالث والسبعون والمائة بين قاعدة ما يبطل التتابع في صوم الكفارات والنذر وغير ذلك وبين قاعدة ما لا يبطل التتابع )

وذلك أن ما يبطله ثلاثة أنواع

( الأول ) وطء المظاهر منها على خلاف فيه بين الأئمة فقال مالك رحمه الله تعالى في المدونة إذا حصل منه ابتدأ الصوم مطلقا ليلا كان أو نهارا أول صومه أو آخره ناسيا كان لظهاره أو عامدا ووافقه في ذلك أحمد بن حنبل قال في الإقناع وإن أصاب المظاهر منها ليلا أو نهارا ، ولو ناسيا أو مع عذر يبيح الفطر أي كمرض وسفر انقطع أي التتابع ا هـ .

وكذلك أبو حنيفة إلا أنه اشترط في ذلك العمد .

وقال الشافعي لا يستأنف على حال كما في بداية المجتهد لحفيد ابن رشد ، وسبب الخلاف [ ص: 225 ] تشبيه كفارة الظهار بكفارة اليمين والشرط الذي ورد في كفارة الظهار أعني أن تكون قبل المسيس في قوله تعالى { من قبل أن يتماسا } فإن المفهوم من قول القائل افعل كذا قبل كذا أن التقدم شرط ولذلك يصدق لنا استأذن المرأة في النكاح وأحضر الولي قبل العقد أن هذين شرطان ، وكذلك قولنا استتر قبل الصلاة وتطهر وانو أن هذه الأمور شروط فمن اعتبر هذا الشرط قال يستأنف الصوم إذ المراد بالآية أن يتقدم الصوم وطء المظاهر منها بعد الظهار ، ومن شبهه بكفارة اليمين قال لا يستأنف ؛ لأن الكفارة في اليمين ترفع الحنث بعد وقوعه باتفاق ا هـ بتوضيح

( النوع الثاني ) الاستمتاع بالمظاهر منها بما دون الوطء على خلاف فيه أيضا قال حفيد ابن رشد في بدايته فذهب مالك إلى أنه كما يحرم الجماع يحرم ما دونه من الوطء فيما دون الفرج واللمس والتقبيل والنظر للذة ما عدا وجهها وكفيها ويديها من سائر بدنها ومحاسنها وبه قال أبو حنيفة إلا أنه إنما كره النظر للفرج فقط قال الشافعي إنما يحرم الظهار لوطء في الفرج فقط المجمع عليه لا ما عد بذلك ا هـ .

ومذهب أحمد ما في الإقناع وشرحه من أنه إن لمس المظاهر منها أو باشرها دون الفرج على وجه يفطر به بأن أنزل قطع التتابع لفساد صومه وإلا بأن لم يكن على وجه يفطر به بأن لم ينزل فلا يقطع التتابع لعدم فساد الصوم ا هـ قال حفيد ابن رشد في بدايته ودليل قول مالك أن ظاهر لفظ التماس في قوله تعالى { من قبل أن يتماسا } يقتضي المباشرة فما فوقها ؛ ولأنه أي الظهار لفظ حرمت عليه به فأشبه لفظ الطلاق ، ودليل قول الشافعي أولا أن المباشرة وإن كانت تدل على ما فوق الجماع إلا أنها دلالة مجازية ؛ لأنهم قد اتفقوا على أنها تدل على الجماع ، فيكون هو الحقيقة التي تنتفي بها الدلالة المجازية إذ لا يدل لفظ واحد دلالتين حقيقة ومجازا نعم لا يبعد عند من يرى أن اللفظ المشترك له عموم أن يكون اللفظ الواحد يتضمن المعنيين جميعا أعني الحقيقة والمجاز وإن كان لم يجر به عادة للعرب حتى عد القول به لذلك في غاية الضعف لكن لو علم أن للشرع فيه تصرفا لجاز

وثانيا أن الظهار مشبه عندهم بالإيلاء فوجب أن يختص عندهم بالفرج ا هـ ملخصا .

قلت ودليل قول أحمد أن الجماع يطلق شرعا على موجب الغسل وفساد الصوم فتأمل بإمعان

( النوع الثالث ) وطء غير المظاهر منها والأكل نهارا على خلاف فيه أيضا فقال مالك في المدونة إذا تعمد الأكل في صوم الظهار أو القتل أو النذر المتتابع نهارا أو تعمد وطء غير المظاهر منها نهارا ابتدأه ا هـ بالمعنى ، وقال أبو الطاهر من أصحابنا وفي إلحاق الجاهل أي بالعامد قولان وفي السهو والخطأ ثلاثة أقوال

ثالثها التفرقة بين السهو فيجزئ والخطأ فلا يجزئ ويبتدئ ؛ لأن معه تمييزه بخلاف السهو ومثل ما لمالك في الجملة لأحمد بن حنبل كما يفيده كلام الإقناع الآتي ، وقال الشافعي وأبو حنيفة الفطر يبطل التتابع مطلقا أي ناسيا أو جاهلا ؛ لأنه باختياره بخلاف المرض فقط عند أبي حنيفة وبخلاف المرض ونحوه كالإغماء والحامل والمرضع عند الشافعي قال الأصل وسبب الخلاف هل التتابع مأمور به فيقدح فيه النسيان أو التفريق محرم فلا تضر ملابسته سهوا فإن المحرمات لا يأثم الإنسان بملابستها مع عدم القصد كشرب الخمر ساهيا أو وطئ أجنبية جاهلا بأنها أجنبية أوأكل طعاما نجسا أو حراما مغصوبا غير عالم به فإن الإجماع منعقد في هذه الصور كلها على عدم الإثم ا هـ .

منه بلفظه يعني أن سبب الخلاف هذان الاحتمالان اللذان ذكرهما ابن بشير وسيأتي ما في الاحتمال الثاني فترقب ( وأن ما لا يبطله ) فأنواع أيضا على الخلاف المتقدم فقال مالك رحمه الله تعالى في المدونة إذا أكل نهارا في صوم الظهار أو القتل أو النذر المتتابع ناسيا أو مجتهدا أو مكرها أو وطئ نهارا غير المظاهر منها ناسيا قضى يوما متصلا بصومه فإن لم يفعل ابتدأ الصوم من أوله .

ا هـ فأولى إذا أفطر لعذر كمرض ، وقد تقدم حكاية الخلاف في الجهل والسهو والخطأ عن أبي الطاهر من أصحابنا ومثل ما لمالك في الجملة لأحمد بن حنبل قال في الإقناع وإن تخلل صومهما أي الشهرين صوم رمضان أو فطر واجب كفطر العيدين وأيام التشريق أو الحيض أو نفاس أو جنون أو إغماء أو مرض ، ولو غير مخوف أو لسفر مبيحان أي المرض والسفر الفطر أو فطر الحامل أو المرضع [ ص: 226 ] لخوفهما على أنفسهما أو ولديهما أو فطر لإكراه أو نسيان أو لخطأ لا لجهل أو وطئ غير المظاهر منها ليلا ، ولو عمدا أو نهارا ناسيا للصوم أو لعذر يبيح الفطر لم ينقطع التتابع أي بجميع ذلك فيبنى على ما قدمه ويتمه ا هـ محل الحاجة منه .

وقال أبو حنيفة الفطر لمرض لا يبطله وبه قال الشافعي إلا أنه قال الإغماء كالمرض والحامل والمرضع كالمريض ، وقد تقدم عن حفيد ابن رشد في البداية عن الشافعي أنه قال إن وطئ المظاهر منها لا يستأنف على حال نظرا لكون كفارة الظهار ككفارة اليمين ترفع الحنث بعد وقوعه باتفاق وحكى الأصل عنه أنه قال إن وطئ المظاهر منها ليلا لم يبطل صومه . ا هـ .

فحرر هذا توضيح الفتاوى على المذاهب الأربعة والفرق بين القاعدتين حاصل على كل فتوى مذهب منها إلا أن سره لا يظهر إلا على الفتوى من مذهبي مالك وأحمد بن حنبل رحمهما الله وذلك أنهما جعلا وطء المظاهر منها مطلقا ليلا أو نهارا أول الصوم أو آخره ناسيا أو عامدا موجبا لابتداء الصوم ، ووطء غير المظاهر منها والأكل نهارا عمدا فقط موجبا لابتدائه ، وأما الشافعي وأبو حنيفة رحمهما الله فعلى عكس ذلك فقد جعلا وطء غير المظاهر منها والأكل نهارا مطلقا أي ناسيا أو جاهلا موجبا لابتداء الصوم وأبو حنيفة وطء المظاهر منها عمدا فقط لابتدائه والشافعي وطؤها إما لا يوجب الابتداء على حال ، وأما ليلا فقط لا يوجبه كما توضح وسر الفرق هو أن التتابع صفة الصوم المكلف بوجوبه وصفة المكلف بوجوبه مكلف بوجوبها وعدم وطء المظاهر منها قبل التكفير عن الظاهر شرط لقوله تعالى { من قبل أن يتماسا } فإن المفهوم من قول القائل افعل كذا أن التقدم شرط كما تقدم والقاعدة التي تقدمت مبسوطة أن الوجوب كسائر الأحكام الخمسة من قبيل خطاب التكليف يشترط فيه علم المكلف وقدرته وإرادته فما لا قدرة له عليه لا يكلف لك وكذبه ما لم يبلغه لا يلزمه حتى يعلم به .

غير أن التمكن من العلم يقوم مقام العلم في التكليف فيسقط بالنسيان والإكراه والمرض والإغماء ونحوها لمنافاتها التكليف بمنافاتها لشرطه لطفا من الله بالعباد وأن الشرط كالسبب والمانع ونحوهما من قبيل خطاب الوضع لا يشترط فيه علم ولا قدرة ولا إرادة كالتوريث بالأنساب والإنسان لا يعلم بذلك ولا هو من قدرته ولا إرادته فيقدح فيه النسيان وغيره ؛ لأن ما لا يشترط فيه العلم والقدرة يثبت مطلقا وما يثبت مطلقا اعتبر مطلقا ، فيكون شرطا في جميع الحالات وعلى هذه القاعدة فالمفهوم من قوله تعالى { فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا } أنه بعد الظهار يجب عليه أن يصوم شهرين ليس قبلهما وطء ولا في أثنائهما وطء ؛ لأن الآية إما خبر معناه الأمر أي ليصم شهرين متتابعين وإما خبر باق على حقيقته حذف منه إما المبتدأ أي فالواجب عليه صيام شهرين متتابعين وإما الخبر أي فصيام شهرين متتابعين واجب عليه وكونهما ليس قبلهما وطء ولا في أثنائهما وطء أمران قد يتغير أحدهما بتقدم الوطء فيستحل بعد ذلك أي بعد تغير أحدهما بتقدم الوطء أن يصدق أنه يصوم شهرين متتابعين ليس قبلهما وطء ويبقى الآخر وهو أن يصوم شهرين متتابعين ليس في خلالهما وطء والقاعدة أن المتعذر يسقط اعتباره والممكن يستصحب فيه التكليف لقوله تعالى { فاتقوا الله ما استطعتم } ، ولقوله عليه السلام { إذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم } فلذلك قلنا نحن وأحمد بن حنبل يبتدئ الصوم متتابعين إذا وطئها قبله مطلقا وأبو حنيفة عمدا فقط .

وإن كان وصف تقدم عدم الوطء قد تعذر ؛ لأنه أي التتابع هو الممكن الباقي ، وأما في فطره ناسيا النذر المتتابع ونحوه من أنواع الصوم المتتابع فيأتي بيوم غير اليوم الذي أفطر فيه ناسيا يصله بآخر صيامه تكملة للعدة لا لتحصيل وصف التتابع في جميع الصوم ، بل في آخره فقط ؛ لأن تحصيله في أثناء الصوم قد تعذر وبقي تحصيله في آخره ممكنا فوجب الممكن وسقط المتعذر على القاعدة المتقدمة وبهذا يندفع الإشكال الوارد هنا على الفتاوى المذكورة كلها من جهة [ ص: 227 ] أن قوله تعالى { فصيام شهرين متتابعين } على كل تقدير من التقادير المتقدمة أعني كونه خبرا بمعنى الأمر أو على حقيقته حذف منه المبتدأ أو الخبر هو متعلق بطلب لا يدفع فكيف يتخيل أنه من باب النهي عن التفريق ، فيكون محرما .

والمحرم لا يأثم الإنسان بملابسته مع عدم القصد كما هو على أحد الاحتمالين المتقدمين عن ابن بشير ويبعد الاعتماد في ذلك على أن التتابع إذا كان واجبا كان تركه محرما فإن كل واجب تركه محرم وكل محرم تركه واجب فالوجوب من لوازم التحريم والتحريم من لوازم الوجوب في النقيض المقابل فالذي يصح في الآية أن التتابع من باب الواجب وأن المطلوب طلبا أكيدا صوم شهرين متتابعين والمكلف الناسي والمجتهد والمكروه كل واحد منهم قد فرق ولم يقع فعله مطابقا لمقتضى الطلب فوجب البقاء في العهدة كما أن الله تعالى طلب الصلاة بالنية والطهارة والستارة ونحوها من الشروط فمن نسي أحد هذه الأشياء أو اجتهد فأخطأ فيها أو أكره على عدمها بطلت الصلاة ، وكذلك إذا أكره على الأكل أو الشرب في رمضان أو نسي أو اجتهد فأخطأ فإن صومه يبطل ونظائره كثيرة في الشريعة فما بال التتابع خرج عند مالك وأحمد بن حنبل عن هذا النمط في الكفارات والمنذورات ، وكذلك عند الشافعي في قوله في الإغماء فينبغي أن يبطل التتابع كما تبطل الصلاة والصوم بالإغماء ، وكذلك عنده في الحامل والمرضع فينبغي أن يبطلا التتابع كما تبطل الصلاة والصوم بهما ، وكذلك عنده ، وعند أبي حنيفة في قولهما في المرض والذي يظهر في بادئ الرأي أن التفريق متى حصل أي طريق كان وجب ابتداء الصوم كما قلنا في جميع النظائر المتقدمة ؛ لأن الصوم بوصف التتابع لم يحصل ومتى لم يحصل المطلوب الشرعي مع إمكان الإتيان به وجب الإتيان به هذه هي القاعدة وحاصل الدفع أن النظائر المذكورة شروط من قبيل خطاب الوضع الذي لا يشترط فيه علم المكلف ولا قدرته ولا إرادته فهي شروط في جميع الحالات فيؤثر فقدها والتتابع المذكور ليس كذلك ؛ لأنه صفة الصوم المكلف بوجوبه وصفة المكلف بوجوبه مكلف بوجوبها فهو من قبيل خطاب التكليف الذي يشترط فيه علم المكلف وقدرته وإرادته .

والقاعدة أن المتعذر منه يسقط اعتباره والممكن منه يستصحب فيه التكليف لما تقدم ، والله سبحانه وتعالى أعلم ( مسألة )

قال مالك رحمه الله إذا تطوع بالصوم أو بالصلاة ونحوهما مما يجب بالشروع أي من النوافل السبع المجموعة في قول ابن كمال باشا :

: من النوافل سبع تلزم الشارع أخذا لذلك مما قاله الشارع صوم صلاة عكوف حجه الرابع
طوافه عمرة إحرامه السابع

. وأراد بقوله إحرامه السابع الائتمام في قول ابن عرفة السابق :

صلاة وصوم ثم حج وعمرة طواف عكوف وائتمام تحتما
وفي غير ذا كالوقف والطهر خيرن فمن شاء فليقطع ومن شاء تمما

وعرض عارض يقتضي فساده ناسيا أو مجتهدا لم يجب قضاء الصوم والصلاة وإن أفطر متعمدا أو أبطل الصلاة وجب القضاء ا هـ .

وهذا وإن توجه عليه إشكال كبير هو أن قاعدة الوجوب بالشروع تقتضي أن يكون ما يجب بالشروع نظير الواجب المتصل كالصلوات الخمس وصوم رمضان في كون ما فسد من كل يقضي بأي طريق كان فإن الواجب ينبغي أن لا يختلف حاله إلا أن وجهه هو أن وجوب التطوعات عنده مأخوذ من قوله تعالى { ولا تبطلوا أعمالكم } حيث نهى سبحانه وتعالى عن الإبطال ، فيكون الإكمال واجبا مكلفا به والتكليف يشترط فيه القدرة والعلم على القاعدة المتقدمة فلا يجب الإتمام حالة عدم القدرة والعلم .

وإذا لم يجب الإتمام حالة القدرة والعلم فإذا تعمد الإفساد ولم يحصل الإتمام حالة القدرة والعلم وجب [ ص: 228 ] القضاء لاندراج هذه الحالة في التكليف نعم لما كان المشهور في علم الأصول أن القضاء إنما يجب بأمر جديد فيتبع ذلك الأمر على حسب وروده ، وقد ورد الأمر بالقضاء مع العذر وعدمه في الواجب المتصل كالصوم في رمضان لقوله تعالى { فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر } ، فإنه أوجب القضاء مع المرض وهو عذر ولم يرد لنا في التطوعات التي تجب بالشروع مثل ذلك ، بل إنما ورد فيها الأمر بالقضاء في صورة عدم العذر خاصة لقوله عليه السلام في الحديث الصحيح لعائشة وحفصة رضي الله عنهما في صوم التطوع { اقضيا يوما مكانه } وكانتا عامدتين لإفساد ذلك اليوم في حالة يثبت فيها التكليف على مقتضى الأصل أوجبنا القضاء في الواجب المتصل مطلقا واقتصرنا على القضاء بصورة عدم العذر خاصة في التطوعات التي تجب بالشروع فهذا هو تلخيص الفرق بين قاعدة ما يبطل التتابع وقاعدة ما لا يبطله وشرط قاعدة خطاب الوضع وقاعدة خطاب التكليف مع تنقيح كلام الأصل في ذلك على ما قاله ابن الشاط وما في بداية المجتهد وما في الإقناع وشرحه ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




الخدمات العلمية