الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في الوتر بثلاث

                                                                                                          460 حدثنا هناد حدثنا أبو بكر بن عياش عن أبي إسحق عن الحارث عن علي قال كان النبي صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث يقرأ فيهن بتسع سور من المفصل يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن قل هو الله أحد قال وفي الباب عن عمران بن حصين وعائشة وابن عباس وأبي أيوب وعبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب ويروى أيضا عن عبد الرحمن بن أبزى عن النبي صلى الله عليه وسلم هكذا روى بعضهم فلم يذكروا فيه عن أبي وذكر بعضهم عن عبد الرحمن بن أبزى عن أبي قال أبو عيسى وقد ذهب قوم من أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وغيرهم إلى هذا ورأوا أن يوتر الرجل بثلاث قال سفيان إن شئت أوترت بخمس وإن شئت أوترت بثلاث وإن شئت أوترت بركعة قال سفيان والذي أستحب أن أوتر بثلاث ركعات وهو قول ابن المبارك وأهل الكوفة حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني حدثنا حماد بن زيد عن هشام عن محمد بن سيرين قال كانوا يوترون بخمس وبثلاث وبركعة ويرون كل ذلك حسنا

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( عن الحارث ) هو ابن عبد الله الأعور صاحب علي أحد كبار الشيعة قال الشعبي وابن المديني كذاب .

                                                                                                          قوله : ( يقرأ في كل ركعة بثلاث سور آخرهن ( قل هو الله أحد ) زاد في مسند أحمد قال : أسود بن عامرشيخ أحمد يقرأ في الركعة الأولى : ألهاكم التكاثر ، و إنا أنزلناه في ليلة القدر و [ ص: 450 ] إذا زلزلت الأرض " ، وفي الركعة الثانية : والعصر ، و إذا جاء نصر الله والفتح ، و إنا أعطيناك الكوثر " ، وفي الركعة الثالثة : قل يا أيها الكافرون و تبت يدا أبي لهب و قل هو الله أحد " . كذا في قوت المغتذي .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن عمران بن حصين وعائشة وابن عباس وأبي أيوب وعبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب ) أما حديث عمران بن حصين فأخرجه النسائي والطبراني ومسلم وفيه يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي أربعا فلا تسأل عن حسنهن وطولهن ، ثم يصلي ثلاثا الحديث . ولعائشة رضي الله عنها أحاديث أخرى في الإيتار بثلاث . وأما حديث ابن عباس فأخرجه مسلم وفيه : ثم أوتر بثلاث ، ولابن عباس حديث أخرجه الترمذي في الباب الآتي . وأخرجه النسائي وابن ماجه أيضا . وأما حديث أبي أيوب فأخرجه الأربعة إلا الترمذي وصححه ابن حبان ، ورجح النسائي وقفه . وسيأتي لفظه في هذا الباب . وأما حديث عبد الرحمن بن أبزى عن أبي بن كعب فأخرجه الخمسة إلا الترمذي . قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بـ سبح اسم ربك الأعلى أو قل يا أيها الكافرون و قل هو الله أحد ، وفي رواية النسائي يقرأ في الوتر بـ سبح اسم ربك الأعلى ، وفي الركعة الثانية بـ قل يا أيها الكافرون وفي الثالثة بـ قل هو الله أحد " ويروى أيضا عن عبد الرحمن بن أبزى عن النبي صلى الله عليه وسلم " أخرجه النسائي والطحاوي وأحمد وعبد بن حميد " هكذا روى بعضهم إلخ " قال الشوكاني في النيل : وعبد الرحمن بن أبزى قد وقع الاختلاف في صحبته ، وقد اختلفوا هل هذا الحديث من روايته عن النبي صلى الله عليه وسلم أو من روايته عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم ، انتهى . قلت : قال الحافظ في التقريب : صحابي صغير وكان في عهد عمر رجلا وكان على خراسان لعلي ، انتهى . وقال الخزرجي في الخلاصة : قال البخاري : له صحبة ، ووقع في رواية الطحاوي أنه صلى مع النبي صلى الله عليه وسلم فالراجح أنه صحابي ، وروي هذا الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم بواسطة أبي بن كعب وبغير واسطة أيضا والله تعالى أعلم . قال العراقي : وكلاهما عند النسائي بإسناد صحيح ، انتهى .

                                                                                                          [ ص: 451 ] قوله : ( قال سفيان إن شئت أوترت بخمس ، وإن شئت أوترت بثلاث ، وإن شئت أوترت بركعة ) روى أبو داود والنسائي وابن ماجه وآخرون عن أبي أيوب الأنصاري قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : الوتر حق واجب على كل مسلم فمن أحب أن يوتر بخمس فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بثلاث فليفعل ، ومن أحب أن يوتر بواحدة فليفعل . قال الحافظ في التلخيص : صحح أبو حاتم والذهلي والدارقطني في العلل والبيهقي ، وغير واحد وقفه وهو الصواب ، انتهى . وقال الأمير اليماني في سبل السلام : وله حكم الرفع إذ لا مسرح للاجتهاد فيه ، انتهى . فهذا الحديث والأحاديث الأخرى تدل على ما قال سفيان . وقال محمد بن نصر في قيام الليل : الأمر عندنا أن الوتر بواحدة وبثلاث وخمس وسبع وتسع كل ذلك جائز حسن على ما روينا من الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده ، انتهى . قلت : وهو الحق " قال والذي استحب أن يوتر بثلاث ركعات " وقد كره بعض أهل العلم أن يوتر بثلاث ركعات كما ستقف عليه " وهو قول ابن المبارك وأهل الكوفة " واستدلوا بأحاديث الباب وقال الحنفية الوتر ثلاث ركعات لا يجوز أكثر من ذلك ولا أقل . وقولهم هذا باطل ظاهر البطلان ، فإنه قد ثبت الإيتار بأكثر من ثلاث ركعات وبأقل منها بالأحاديث الصحيحة والآثار القوية كما عرفت وكما ستعرف .

                                                                                                          قوله : ( حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني ) أبو بكر ثقة صاحب حديث قال ابن حبان : ربما أخطأ ( عن هشام ) هو ابن حسان الأزدي القردوسي بالقاف وضم الدال البصري ثقة من أثبت الناس في ابن سيرين وفي روايته عن الحسن وعطاء مقال ؛ لأنه قيل كان يرسل عنهما " قال كانوا يوترون " أي الصحابة والتابعون " بخمس وبثلاث وبركعة ويرون كل ذلك حسنا " ولم يقل أحد [ ص: 452 ] منهم ما قال الحنفية من أنه لا يجوز الإيتار بأكثر من ثلاث ركعات ولا بأقل . قال محمد بن نصر في قيام الليل : وزعم النعمان أن الوتر ثلاث ركعات لا يجوز أن يزاد على ذلك ولا ينتقص منه ، فمن أوتر بواحدة فوتره فاسد والواجب عليه أن يعيد الوتر فيوتر بثلاث إلى أن قال محمد بن نصر : وقوله هذا خلاف للأخبار الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وخلاف لما أجمع عليه أهل العلم ، انتهى .

                                                                                                          تنبيه : قال الحنفية إن العلماء قد أجمعوا على جواز الإيتار بثلاث واختلفوا فيما عداه فأخذنا ما أجمعوا عليه وتركنا ما عداه وقلنا لا يجوز بأقل من ثلاث ولا بأكثر .

                                                                                                          قلت : دعوى الإجماع مردودة عليهم ، وقد ثبت الإيتار بأقل من ثلاث وبأكثر منها بأحاديث صحيحة صريحة فلا تترك باختلاف العلماء ألبتة ، قال محمد بن نصر : قد احتج بعض أصحاب الرأي للنعمان في قوله : إن الوتر لا يجوز بأقل من ثلاث ولا بأكثر بأن زعم أن العلماء قد أجمعوا على أن الوتر بثلاث جائز حسن ، واختلفوا في الوتر بأقل من ثلاث وأكثر فأخذ بما أجمعوا عليه وترك ما اختلفوا فيه ، وذلك من قلة معرفة المحتج بهذا بالأخبار واختلاف العلماء .

                                                                                                          وقد روي في كراهة الوتر بثلاث أخبار بعضها عن النبي صلى الله عليه وسلم وبعضها عن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ، ثم ذكر حديث أبي هريرة مرفوعا : لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب ولكن أوتروا بخمس أو بسبع أو بتسع أو بإحدى عشرة أو أكثر من ذلك . قال وفي الباب عن عائشة وميمونة ، وعن ابن عباس : الوتر سبع أو خمس ولا نحب ثلاثا بترا ، وفي رواية : إني لأكره أن تكون ثلاثا بترا لكن بسبع أو خمس ، وعن عائشة رضي الله عنها الوتر سبع أو خمس وإني لأكره أن تكون ثلاثا بترا ، وفي لفظ أولى للوتر خمس ، وعن يزيد بن حازم قال : سألت سليمان بن يسار عن الوتر بثلاث فكره الثلاث وقال لا تشبه التطوع بالفريضة أوتر بركعة أو بخمس أو بسبع ، انتهى .

                                                                                                          قلت : وقال الحافظ في الفتح بعد ذكر حديث أبي هريرة : لا توتروا بثلاث إلخ من رواية محمد بن نصر ما لفظه : وقد صححه من طريق عبد الله بن الفضل عن أبي سلمة عن الأعرج عن أبي هريرة مرفوعا نحوه ، وإسناده على شرط الشيخين ، وقد صححه ابن حبان والحاكم ومن طريق مقسم عن ابن عباس وعائشة كراهة الوتر بثلاث وأخرجه النسائي أيضا ، وعن سليمان بن يسار أنه كره الثلاث في الوتر ، فهذه الآثار تقدح في الإجماع الذي نقله ، انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          فإن قلت : ما وجه الجمع بين حديث أبي هريرة المذكور الذي يدل على المنع من الإيتار بثلاث والتشبيه بصلاة المغرب وبين الأحاديث التي تدل على جواز الإيتار بثلاث موصولة ؟

                                                                                                          [ ص: 453 ] قلت : قد جمع بينهما بأن النهي عن الثلاث إذا كان يقعد للتشهد الأوسط ؛ لأنه يشبه المغرب ، وأما إذا لم يقعد إلا في آخرها فلا يشبه المغرب . قال الأمير اليماني : وهو جمع حسن . وقال الحافظ في فتح الباري : وجه الجمع أن يحمل النهي عن صلاة الثلاث بتشهدين وقد فعله السلف يعني الإيتار بثلاث بتشهد واحد ، فروى محمد بن نصر من طريق الحسن أن عمر كان ينهض في الثالثة من الوتر بالتكبير ، ومن طريق المسور بن مخرمة أن عمر أوتر بثلاث لم يسلم إلا في آخرهن ، ومن طريق ابن طاوس عن أبيه أنه كان يوتر بثلاث لا يقعد بينهن ، ومن طريق قيس بن سعد عن عطاء وحماد بن زيد عن أيوب مثله ، وروى محمد بن نصر عن ابن مسعود وأنس وأبي العالية أنهم أوتروا بثلاث كالمغرب وكأنهم لم يبلغهم النهي المذكور ، انتهى كلام الحافظ .

                                                                                                          قلت : يؤيد هذا الجمع حديث عائشة رضي الله عنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يوتر بثلاث لا يقعد إلا في آخرهن ، وهذا وتر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعنه أخذه أهل المدينة . رواه الحاكم في المستدرك من طريق أبان بن يزيد العطار عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عنها .

                                                                                                          فإن قلت : هذا الحديث بهذا اللفظ غير محفوظ والمحفوظ ما رواه الحاكم في المستدرك من طريق سعيد بن أبي عروبة عن قتادة عن زرارة بن أوفى عن سعد بن هشام عن عائشة بلفظ : قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر ، فإن سعيد بن أبي عروبة ثقة حافظ أثبت الناس في قتادة ، وأبان بن يزيد العطار وإن كان من الثقات لكنه دون سعيد فيكون ما رواه سعيد عن قتادة أرجح مما رواه أبان عنه .

                                                                                                          قلت : لا مخالفة بين قوله : لا يسلم في الركعتين الأوليين من الوتر وقوله : لا يقعد إلا في آخرهن فتفكر . على أن أبان بن يزيد ثقة ثبت قال الحافظ في تهذيب التهذيب : قال أحمد : ثبت في كل المشايخ . وقال ابن معين : ثقة ، انتهى ، وكان صاحب كتاب . قال ابن عدي في الكامل : وهو حسن الحديث متماسك يكتب حديثه ، انتهى . ومع هذا لم يكن فيه شيء من الاختلاط قط . وأما سعيد بن أبي عروبة فلم يكن صاحب كتاب . قال أبو حاتم : سمعت أحمد بن حنبل يقول : لم يكن لسعيد بن أبي عروبة كتاب إنما يحفظ ذلك كله ، انتهى ، ومع هذا كان قد اختلط في آخر عمره . قال الأزدي : اختلط اختلاطا قبيحا . قال ابن حبان في الثقات : بقي في اختلاطه خمس سنين ، وقال الذهلي عن عبد الوهاب الخفاف خولط سعيد سنة ( 148 ) وعاش بعدما خولط تسع [ ص: 454 ] سنين ، انتهى . وروي عن سعيد بن أبي عروبة هذا فكيف يكون ما رواه سعيد عن قتادة أرجح مما رواه أبان عن قتادة ؟ فإن قلت : قد رواه هشام الدستوائي ومعمر وهمام عن قتادة مثل رواية سعيد .

                                                                                                          قلت : لم أقف على رواية هؤلاء ، فمن يدعي صحة متابعة هؤلاء لسعيد فعليه أن يذكر رواياتهم سندا ومتنا لينظر هل هي صالحة للمتابعة أم لا . هذا ما عندي والله تعالى أعلم .

                                                                                                          تنبيه : قال صاحب آثار السنن متعقبا على هذا الجمع ما لفظه : هذا الجمع سخيف جدا بعيد في غاية البعد ، لا يذهب إليه ذهن الذاهن بل هو غلط صريح ، ثم بين معنى حديث لا توتروا بثلاث تشبهوا بالمغرب . فقال : المعنى أنه لا يترك تطوعا قبل الإيتار بثلاث فرقا بينه وبين المغرب .

                                                                                                          قلت : كلام صاحب آثار السنن هذا مبني على فرط التعصب ، فإن حسن الجمع المذكور لا يخفى على أهل العلم والإنصاف . وأما قوله في بيان معنى حديث لا توتروا بثلاث إلخ أنه لا يترك تطوعا قبل الإيتار بثلاث فكفى لبطلانه أنه يلزم منه أن يكون التطوع قبل الإيتار بثلاث واجبا ، واللازم باطل فالملزوم مثله فتفكر ، ولبطلانه وجوه أخرى لا تخفى على المتأمل .




                                                                                                          الخدمات العلمية