الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
( الفرق التاسع والخمسون والمائة بين قاعدة أولاد الصلب والأبوين في إيجاب النفقة لهم خاصة وبين قاعدة غيرهم من القرابات )

اعلم أن مالكا أوجب النفقة لأولاد الصلب والأبوين خاصة وأوجبها الشافعي لكل من هو بعض من الآباء والأمهات وإن علوا والأولاد وإن سفلوا لقوله تعالى { وبالوالدين إحسانا } ولقوله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } وليس من الإحسان تركهما بالجوع والعري ولقوله عليه السلام في البخاري يقول لك ولدك إلى من تكلني الحديث وأب الأب أب وأم الأم أم وابن الابن ابن وقال أبو حنيفة رضي الله عنه تجب النفقة لكل ذي رحم محرم لقوله تعالى { وآت ذا القربى حقه } وأجمعنا على تخصيص من ليس بمحرم وبقي من عداه على العموم ولقوله تعالى { وأولو الأرحام بعضهم أولى ببعض } [ ص: 147 ] والجواب عما قاله الشافعي أولا أنا لا نسلم أن لفظ الأب والأم والابن يتناول غير الأدنين من هذه الفرق ويدل على ذلك أن الله تعالى فرض للأم الثلث ولم تسحقه الجدة وحجب الإخوة بالأب ولم يحجبهم بالجد وأن بنت الابن لها السدس مع بنت الصلب بخلاف بنت الصلب مع أختها فلو كانت هذه الألفاظ تتناول هذه الطبقات على اختلافها بطريق التواطؤ حقيقة لزم تعميم الحكم فيها كلها على السواء وإلا لزم ترك العمل بالدليل وهو خلاف الأصل فدل ذلك على أن اللفظ إنما يتناول هذه الطوائف بطريق المجاز والأصل عدم المجاز حتى يدل دليل عليه بل يجب التمسك بالحقيقة والاقتصار عليها حتى يدل دليل على غيرها ثم اللازم هنا الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو مجاز مختلف فيه بين العلماء هل يجوز في لسان العرب أم لا ونحن المجاز المجمع عليه في لسان العرب لا نعدل باللفظ إليه إلا بدليل والحمل عليه من غير دليل خطأ قطعا فههنا بطريق الأولى لكونه ضعيفا من جهة أنه مجاز وأنه مختلف في جوازه لغة وهذا هو الفرق .

وهو فرق جلي جدا والجواب عما قاله أبو حنيفة رضي الله عنه عن الأول أن الله تعالى إنما أمر بما هو حق لذوي القربى والنزاع في النفقة هل هي حق لهم أم لا فلا نسلم تناول اللفظ لها حينئذ فلا دليل [ ص: 148 ] في الآية والجواب عن الثاني أنه عام في ذوي الأرحام مطلق فيما هم فيه أولى فإن لفظ أولى نكرة في سياق الإثبات وذلك لا عموم فيه فنحمله على ولاية النكاح والمعاوضة والمناصرة المجمع عليها فإنهم أولى بنصر بعضهم بعضا والإحسان إلى بعضهم بعضا بالنصرة إجماعا وإذا أجمع على إعمال المطلق في صورة وأنها مرادة من النص سقط الاستدلال به إجماعا إذ لو عدي حكمه إلى صورة أخرى لكان عاما لا مطلقا والتقدير أنه مطلق وهذا خلف وكما يمتنع جعل العام مطلقا بغير دليل يمتنع جعل المطلق عاما بغير دليل فظهر من هذه الاستدلالات وهذه الأجوبة صحة مذهب مالك وتفضيله على غيره في هذه المسألة وظهر الفرق أيضا من خلال ذلك ظهورا بينا .

التالي السابق


حاشية ابن الشاط

[ ص: 146 ] قال ( الفرق التاسع والخمسون والمائة بين قاعدة أولاد الصلب والأبوين في إيجاب النفقة لهم خاصة وبين قاعدة غيرهم من القرابات إلى قوله ولقوله تعالى { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } )

قلت ما قاله حكاية أقوال ومستندها ولا كلام في ذلك [ ص: 147 ] قال ( والجواب عما قاله الشافعي أولا أنا لا نسلم أن لفظ الأب والأم والابن يتناول غير الأدنين إلى قوله بل يجب التمسك بالحقيقة والاقتصار عليها حتى يدل دليل على غيرها ) قلت لا دليل له فيما استدل به على مراده من أن لفظ الأب وما معه لا يتناول غير الأدنين إلا مجازا لاحتمال أن يكون الأمر في تلك الألفاظ بعكس دعواه وذلك أن يكون يتناول الأدنين وغيرهم لكن وقع التجوز بقصرها على الأدنين فيحتاج إذ ذاك إلى قرينة تخصها بالأدنين أو إلى دليل يدل على أن هذا المجاز انتهى إلى أن صار عرفا .

قال ( ثم اللازم هنا الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو مجاز مختلف فيه بين العلماء هل يجوز في لسان العرب أم لا إلى قوله وهذا هو الفرق وهو فرق جلي جدا ) قلت ما قاله مبني على دعوى أن تناول تلك الألفاظ لغير الأدنين مجاز وقد تبين احتمال عكس ذلك وما قاله من أن الجمع بين الحقيقة والمجاز مختلف فيه مسلم لكن لو سلم له أن تناول تلك الألفاظ لغير الأدنين مجاز وذلك غير مسلم وما قاله من الجواب عما قاله أبو حنيفة مسلم صحيح [ ص: 148 ]

قال ( فظهر من هذه الاستدلالات وهذه الأجوبة صحة مذهب مالك وتفضيله على غيره في هذه المسألة وظهر الفرق أيضا من خلال ذلك ظهورا بينا ) قلت لم يظهر ما قاله لاحتمال أن تكون تلك الألفاظ تتناول غير الأدنين بالوضع الأصلي ووقع التجوز بقصرها على الأدنين والله أعلم .



حاشية ابن حسين المكي المالكي

( الفرق التاسع والخمسون والمائة بين قاعدة أولاد الصلب والأبوين الأدنين في إيجاب النفقة لهم خاصة وبين قاعدة غيرهم من القرابات )

لا تجب لهم النفقة عند مالك رحمه الله تعالى لا عند غيره من الأئمة فقد قال الشافعي وأحمد رحمهما الله تعالى بإيجابها لكل من هو بعض من الآباء والأمهات وإن علوا والأولاد وإن سفلوا لقوله تعالى { وبالوالدين إحسانا } ومن الإحسان الإنفاق عليهما عند حاجتهما إذ ليس من الإحسان تركهما بالجوع والعري ولقوله تعالى { وصاحبهما في الدنيا معروفا } ومن المعروف قيام بكفايتهما ولقوله عليه الصلاة والسلام { إن أطيب ما أكلتم من كسبكم وإن أولادكم من كسبكم } رواه أبو داود والترمذي وحسنه ولقوله عليه الصلاة والسلام في البخاري يقول لك ولدك إلى من تكلني الحديث وأب الأب أب وأم الأم أم وابن الابن ابن قال الشيخ منصور بن إدريس الحنبلي في كشافه من المتن تجب عليه نفقة والديه وإن علوا ونفقة ولده وإن سفل لقوله تعالى { وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف } ولأن الإنسان يجب عليه أن ينفق على نفسه وزوجته فكذا على بعضه وأصله ويجب عليه إكمال ما عجزوا عن إكمالها حتى ذوي الأرحام من والديه وإن علوا وولده وإن سفلوا ولو حجبه معسر بالمعروف من حلال إذا كانوا أي الأصول والفروع فقراء ا هـ محل الحاجة .

وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى تجب النفقة لكل ذي رحم محرم لقوله تعالى { وآت ذا القربى حقه } وأجمعنا [ ص: 184 ] على تخصيص من ليس بمحرم وبقي من عداه على العموم ولقوله تعالى { وأولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض } .

( وسبب ) الاختلاف ( أما أولا ) فهو أنهم بعد أن أجمعوا على أن نفقة الوالدين الفقيرين اللذين لا كسب لهما ولا مال واجب في مال الولد كما حكاه في كشاف القناع عن ابن المنذر وكذا على أن نفقة الأولاد الفقراء الذين لا كسب لهم ولا مال واجب في مال الأب لما سبق اختلفوا في أن لفظ الأب والأم والابن فيما سبق من الأدلة هل تتناول غير الأدنين بالوضع الأصلي وحينئذ التجوز بقصرها عن الأدنين يحتاج إلى قرينة أو ما يدل على أن هذا المجاز انتهى إلى أن صار عرفا وإذا لم يتحقق ذلك وجب التمسك بالحقيقة والاقتصار عليها أو لا تتناول بالوضع الأصلي غير الأدنين بدليل أن الله تعالى فرض للأم الثلث ولم تستحقه الجدة وحجب الإخوة بالأب ولم يحجبهم بالجد وأن بنت الابن لها السدس مع بنت الصلب مع أختها فلو كانت هذه الألفاظ تتناول هذه الطبقات على اختلافها بطريق التواطؤ حقيقة لزم تعميم الحكم فيها كلها على السواء وإلا لزم ترك العمل بالدليل وهو خلاف الأصل فلم يبق إلا أن هذه الألفاظ إنما تتناول هذه الطوائف بطريق المجاز فيلزمه هنا الجمع بين الحقيقة والمجاز وهو مجاز مختلف فيه بين العلماء هل يجوز في لسان العرب أم لا ونحن في المجاز المجمع على جوازه في لسان العرب لا نعدل باللفظ إليه إلا بدليل والحمل عليه من غير دليل خطأ قطعا فهاهنا بطريق الأولى لكونه ضعيفا من جهة أنه مجاز وأنه مختلف في جوازه بلغة .

وأما ثانيا فهو اختلافهم في أن النفقة هل هي حق لذوي القربى فيتناولها لفظ الحق في الآية أم لا فلا يتناولها قال ابن الشاط وهو الصحيح وأما ثالثا فهو اختلافهم في أن أولى في الآية وإن كان نكرة في سياق الإثبات لا عموم فيه بل هو مطلق فيما ذوو الأرحام فيه أولى من ولاية النكاح ومن المعاضدة والمناصرة المجمع عليها فإنهم أولى بالإحسان إلى بعضهم بعضا بالنصرة إجماعا فهل يمتنع جعله عاما بأن يعدى حكمه إلى صورة أخرى بغير دليل كما يمتنع جعل العام مطلقا بغير دليل قال ابن الشاط وهو الصحيح أو لا يمتنع .

قال الأصل فظهر من هذه الاستدلالات أي لمالك وغيره صحة مذهب مالك وتفضيله على غيره في هذه المسألة وظهر الفرق أيضا من خلال ذلك ظهورا بينا لكن قال ابن الشاط لم يظهر ما قاله لاحتمال أن تكون تلك الألفاظ تتناول غير الأدنين أيضا بالوضع الأصلي لكن وقع التجوز بقصرها على الأدنين فيحتاج هذا المجاز إلى قرينة أو ما يدل على أنه انتهى إلى أن صار عرفا ولا دليل له فيما استدل به على أن لفظ الأب وما معه لا يتناول غير الأدنين إلا مجازا فافهم والله أعلم .




الخدمات العلمية