الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    89 - ( فصل )

                    الطريق الثاني والعشرون أخبار الآحاد : وهو أن يخبره عدل يثق بخبره ويسكن إليه بأمر ، فيغلب على ظنه صدقه فيه ، أو يقطع به لقرينة به ، فيحمل ذلك مستندا لحكمه ، وهذا يصلح للترجيح والاستظهار بلا ريب ، ولكن هل يكفي وحده في الحكم ، هذا موضع تفصيل . [ ص: 171 ]

                    فيقال : إما أن يقترن بخبره ما يفيد معه اليقين أم لا ، فإن اقترن بخبره ما يفيد معه اليقين جاز أن يحكم به ، وينزل منزلة الشهادة ، بل هو شهادة محضة في أصح الأقوال ، وهو قول الجمهور ، فإنه لا يشترط في صحة الشهادة ذكر لفظ " أشهد " بل متى قال الشاهد : رأيت كيت وكيت ، أو سمعت ، أو نحو ذلك : كانت شهادة منه ، وليس في كتاب الله ، ولا في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم موضع واحد يدل على اشتراط لفظ " الشهادة " ، ولا عن رجل واحد من الصحابة ، ولا قياس ، ولا استنباط يقتضيه ، بل الأدلة المتضافرة من الكتاب والسنة ، وأقوال الصحابة ، ولغة العرب تنفي ذلك .

                    وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة ، وظاهر كلام أحمد ، وحكي ذلك عنه نصا .

                    قال تعالى : { قل هلم شهداءكم الذين يشهدون أن الله حرم هذا ، فإن شهدوا فلا تشهد معهم } ومعلوم قطعا : أنه ليس المراد التلفظ بلفظة " أشهد " في هذا ، بل مجرد الإخبار بتحريمه .

                    وقال تعالى : { لكن الله يشهد بما أنزل إليك } ولا تتوقف صحة الشهادة على أنه يقول سبحانه " أشهد بكذا " .

                    وقال تعالى : { ولا يملك الذين يدعون من دونه الشفاعة إلا من شهد بالحق } أي أخبر به ، وتكلم به عن علم ، والمراد به التوحيد .

                    ولا تفتقر صحة الإسلام إلى أن يقول الداخل فيه : " أشهد أن لا إله إلا الله " بل لو قال : " لا إله إلا الله محمد رسول الله " كان مسلما بالاتفاق .

                    وقد قال صلى الله عليه وسلم : { أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله } فإذا تكلموا بقول : " لا إله إلا الله " حصلت لهم العصمة ، وإن لم يأتوا بلفظ " أشهد "

                    وقال تعالى : { فاجتنبوا الرجس من الأوثان واجتنبوا قول الزور حنفاء لله غير مشركين به } وصح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : { عدلت [ ص: 172 ] شهادة الزور الإشراك بالله } .

                    وقال : { ألا أنبئكم بأكبر الكبائر ؟ الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله ، وقول الزور . وفي لفظ ألا ، وشهادة الزور } .

                    فسمى قول الزور شهادة ، وإن لم يكن معه لفظ " أشهد " .

                    وقال ابن عباس : شهد عندي رجال مرضيون - وأرضاهم عندي عمر - " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم { : نهى عن الصلاة بعد العصر ، حتى تغرب الشمس ، وبعد الصبح حتى تطلع الشمس } ومعلوم أن عمر لم يقل لابن عباس " أشهد " عندك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن ذلك ، ولكن أخبره فسماه ابن عباس شهادة .

                    وقد تناظر الإمام أحمد وعلي بن المديني في العشرة - رضوان الله عليهم - فقال علي : أقول " هم في الجنة ، ولا أشهد بذلك " بناء على أن الخبر في ذلك خبر آحاد ، فلا يفيد العلم ، والشهادة إنما تكون على العلم ، فقال له الإمام أحمد : " متى قلت : هم في الجنة ، فقد شهدت " حكاه القاضي [ ص: 173 ] أبو يعلى ، وذكره شيخنا رحمه الله .

                    فكل من أخبر بشيء فقد شهد به ، وإن لم يتلفظ بلفظ " أشهد " . ومن العجب : أنهم احتجوا على قبول الإقرار بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم } .

                    قالوا : هذا يدل على قبول إقرار المرء على نفسه ، ولم يقل أحد ، إنه لا يقبل الإقرار حتى يقول المقر " أشهد على نفسي " وقد سماه الله شهادة .

                    قال شيخنا : فاشتراط لفظ " الشهادة " لا أصل له في كتاب الله ، ولا سنة رسوله ، ولا قول أحد من الصحابة ، ولا يتوقف إطلاق لفظ " الشهادة " لغة على ذلك ، وبالله التوفيق .

                    وعلى هذا : فليس الإخبار طريقا آخر غير طريق الشهادة .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية