الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز أن يستنجي بيمينه ، لما روت عائشة رضي الله عنها قالت " { كانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم اليمنى لطهوره وطعامه وكانت يده اليسرى لخلائه وما كان من أذى } " فإن كان يستنجي بغير الماء أخذ ذكره بيساره ومسحه على ما يستنجي به من أرض أو حجر ، فإن كان الحجر صغيرا غمز عقبه عليه وأمسكه بين إبهامي رجليه ومسح ذكره عليه بيساره ، وإن كان يستنجي بالماء صب الماء بيمينه ومسحه بيساره ، فإن خالف واستنجى بيمينه أجزأه لأن الاستنجاء يقع بما في اليد لا باليد فلم تمنع صحته ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عائشة صحيح . رواه أحمد وأبو داود بإسناد صحيح ، وروى جماعة من الصحابة في النهي عن الاستنجاء باليمين فروى أبو قتادة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " { إذا أتى أحدكم الخلاء فلا يمس ذكره بيمينه ، ولا يتمسح بيمينه } " رواه البخاري ومسلم . وعن سلمان الفارسي رضي الله عنه قال " { نهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستنجي باليمين } " رواه مسلم . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { إنما أنا لكم بمنزلة الوالد أعلمكم ، فإذا أتى أحدكم الغائط فلا يستقبل القبلة ولا يستدبرها ولا يستطب بيمينه . وكان يأمر بثلاثة أحجار وينهى عن الروث والرمة } " حديث صحيح رواه أبو داود والنسائي وغيرهما بأسانيد صحيحة ، وهذا لفظ أبي داود وقوله صلى الله عليه وسلم : " إنما أنا لكم بمنزلة الوالد " فيه تفسيران ذكرهما صاحب الحاوي وآخرون ، أظهرهما - ولم يذكر الخطابي وغيره - أنه كلام بسط وتأنيس للمخاطبين ، لئلا يستحيوا عن مسألته فيما يحتاجون إليه من أمر دينهم ، لا سيما ما يتعلق بالعورات ونحوها ، فقال : أنا كالوالد فلا تستحيوا مني في شيء من ذلك كما لا تستحيون من الوالد . والثاني : معناه يلزمني تأديبكم وتعليمكم أمر دينكم ، كما يلزم [ ص: 126 ] الوالد ذلك ، ويجوز أن يكون المراد كالوالد في الأمرين جميعا . وفي ثالث أيضا وهو الحرص على مصلحتكم والشفقة عليكم والله أعلم .

                                      ( وأما حكم المسألة ) فقال الأصحاب : يكره الاستنجاء باليمين كراهة تنزيه ولا يحرم ، هكذا صرح به الجمهور ، قال الشيخ أبو حامد في تعليقه : يستحب أن يستنجي بيساره ، وهو منهي عن الاستنجاء بيمينه نهي تنزيه لا تحريم . وقال إمام الحرمين : الاستنجاء باليمين مكروه غير محرم ، قال : وحرمه أهل الظاهر وقال ابن الصباغ وآخرون : الاستنجاء باليسار أدب ، وليس اليمين معصية ، وقال القاضي أبو الطيب وآخرون : يستحب أن يستنجي بيساره ، وقال المحاملي والفوراني والغزالي في البسيط ، والبغوي والروياني وصاحب العدة وآخرون : يكره باليمين وقال أبو محمد الجويني في الفروق والبغوي في شرح السنة : النهي عن اليمين نهي تأديب ، وعبارات الجمهور ممن لم أذكرهم نحو هذه العبارات . وقال الخطابي : النهي عن الاستنجاء باليمين عند أكثر العلماء نهي تأديب وتنزيه ، وقال بعض أهل الظاهر : لا يجزئه . وأما قول المصنف لا يجوز الاستنجاء باليمين ، فكذلك قاله سليم الرازي في الكفاية والمتولي والشيخ نصر في كتبه التهذيب والانتخاب والكافي ، وكذا رأيته في موضع من تعليق أبي حامد ، وظاهر هذه العبارة تحريم الاستنجاء باليمين ، ولكن الذي عليه جمهور الأصحاب أنه مكروه كراهة تنزيه كما ذكرنا ، ويؤيده قول الشافعي في مختصر المزني : النهي عن اليمين أدب ، ويمكن أن يحمل كلام المصنف وموافقيه على أن قولهم : لا يجوز ، معناه ليس مباحا مستوي الطرفين في الفعل والترك ، بل هو مكروه راجح الترك ، وهذا أحد المذهبين المشهورين في أصول الفقه ، وقد استعمل المصنف لا يجوز في مواضع ليست محرمة وهي تتخرج على هذا الجواب . فإن قيل : هذا غير معتاد في كتب المذهب ، قلنا : هو موجود فيها وإن كان قليلا ، ولا يمتنع استعماله على اصطلاح الأصول ، وقد حكي أن المصنف ضرب في نسخة أصله بالمهذب على لفظة : " يجوز أن " وبقي قوله لا يستنجي باليمين ، وهذا يصحح ما قلناه والله أعلم .

                                      [ ص: 127 ] قال أصحابنا : ويستحب أن لا يستعين بيمينه في شيء من أمور الاستنجاء إلا لعذر ، وقول المصنف : إن كان الحجر صغيرا غمز عقبه عليه أو أمسكه بين إبهامي رجليه ، كذا قاله أصحابنا ، لئلا يستنجي بيمينه ولا يمس ذكره بيمينه ، فإن لم يمكنه ذلك واحتاج إلى الاستعانة باليمين فالصحيح الذي قاله الجمهور أنه يأخذ الحجر بيمينه ، والذكر بيساره ، ويحرك اليسار دون اليمين ، فإن حرك اليمين أو حركهما كان مستنجيا باليمين مرتكبا لكراهة التنزيه . ومن أصحابنا من قال : يأخذ الذكر بيمينه والحجر بيساره ويحرك اليسار ، لئلا يستنجي باليمين ، حكاه صاحب الحاوي وغيره وهو غلط ، فإنه منهي عن مس الذكر بيمينه . وذكر الرافعي وجها أنه لا طريق إلى الاحتراز من هذه الكراهة إلا بالإمساك بين العقبين أو الإبهامين ، وكيف استعمل اليمين بإمساك الحجر أو غيره فمكروه ، وهذا الوجه غلط أيضا ، قال أصحابنا : فلو كان بيده اليسرى مانع كقطع وغيره فلا كراهة في اليمين للضرورة والله أعلم .



                                      ( فرع ) في مسائل تتعلق بالفصل ( إحداها ) السنة أن يستنجي قبل الوضوء ليخرج من الخلاف وليأمن انتقاض طهره ; قال أصحابنا : ويستحب أن يبدأ في الاستنجاء بالماء بقبله .



                                      ( الثانية ) إذا أراد الرجل الاستنجاء من البول مسح ذكره على ثلاثة مواضع من الحجر طاهرة فلو مسحه ثلاثا على موضع واحد لم يجزئه وتعين الماء . قال القاضي حسين : ولو وضع رأس الذكر على جدار ومسحه من أسفل إلى أعلى لم يجزئه ، وإن مسحه من أعلى إلى أسفل أجزأه وفي هذا التفصيل نظر .



                                      ( الثالثة ) إذا أراد الاستنجاء في الدبر بالماء استحب أن يعتمد على أصبعه الوسطى لأنه أمكن ، ذكره الماوردي وغيره ويستعمل من الماء ما يظن زوال النجاسة به فإن فعل ذلك ثم شم من يده رائحة النجاسة فوجهان حكاهما [ ص: 128 ] الماوردي وغيره ( أحدهما ) يدل ذلك على بقاء النجاسة فتجب إزالتها بزيادة الغسل وعلى هذا يستحب شم الأصبع . قال الماوردي : وهذا مستبعد ، وإن كان مقولا ( والثاني ) لا يدل على بقاء النجاسة في محل الاستنجاء ، ويدل على بقائها في الأصبع ، فعلى هذا لا يستحب شم الأصبع . وهذان الوجهان مأخوذان من القولين فيما إذا غسلت النجاسة وبقيت رائحتها هل يحكم بطهارة المحل ؟ وقد ذكرهما المصنف في باب إزالة النجاسة وهناك نشرحهما ونبسط الكلام فيه إن شاء الله تعالى .

                                      قال الغزالي في الإحياء : يدلك دبره مع الماء حتى لا يبقى أثر تدركه الكف بالمس قال : ولا يستقصي فيه بالتعرض للباطن فإن ذلك منبع الوسواس ; قال : وليعلم أن كل ما لا يصل الماء إليه فهو باطن ولا يثبت للفضلات الباطنة حكم النجاسة حتى تبرز وما ظهر ثبت له حكم النجاسة وحد ظهوره أن يصله الماء ، وقوله : لا يثبت للفضلات الباطنة حكم النجاسة ، يحتمل أنه أراد في وجوب إزالتها ، ويحتمل أنها لا يحكم بكونها نجاسة مطلقا . وفي المسألة خلاف سبق مبسوطا في أول باب ما ينقض الوضوء .



                                      ( الرابعة ) قال أصحابنا : الرجل والمرأة والخنثى المشكل في استنجاء الدبر سواء ، وأما القبل فأمر الرجل فيه ظاهر ، وأما المرأة فنص الشافعي رحمه الله على أن البكر والثيب سواء ، فيجوز اقتصارهما على الحجر ، وبهذا قطع جماهير الأصحاب في الطريقتين وقطع الماوردي بأن الثيب لا يجزئها الحجر ، حكاه المتولي والشاشي وصاحب البيان وجها وهو شاذ والصواب الأول . قال الأصحاب : لأن موضع الثيابة والبكارة في أسفل الفرج والبول يخرج من ثقب في أعلى الفرج فلا تعلق لأحدهما بالآخر ، فاستوت البكر والثيب إلا أن الثيب إذا جلست انفرج أسفل فرجها ، فربما نزل البول إلى موضع الثيابة والبكارة وهو مدخل الذكر ومخرج الحيض والمني والولد ، فإن تحققت نزول البول إليه وجب غسله بالماء ، وإن لم تتحقق استحب غسله ولا يجب . نص الشافعي على استحبابه إذا لم تتحقق ، واتفق الأصحاب عليه ، واتفقوا على وجوب غسله إذا تحققت نزوله ، قال صاحب البيان وغيره : [ ص: 129 ] يستحب للبكر أن تدخل أصبعها في الثقب الذي في الفرج فتغسله ولا يلزمها ذلك بالاتفاق . قال الشافعي والأصحاب : ويلزم الثيب أن توصل الحجر إلى الموضع الذي يجب إيصال الماء إليه في غسل الجنابة ويجب إيصال الماء إلى ما يظهر عند جلوسها على قدميها ، وإن لم يظهر في حال قيامها ، نص عليه الشافعي والأصحاب وشبهه الشافعي بما بين الأصابع ولا يبطل صومها بهذا ، قال الروياني : قال أصحابنا : ما وراء هذا في حكم الباطن ، فلا تكلف إيصال الماء والحجر إليه ، ويبطل الصوم بالواصل إليه ، ولنا وجه ضعيف ، أنه لا يجب إيصال الماء إلى داخل فرج الثيب . وأما الخنثى المشكل فقطع الأكثرون بأنه يتعين الماء في قبليه ، ممن قطع به الماوردي والقاضي حسين والفوراني والغزالي في البسيط ، والبغوي والروياني وصاحب العدة وقال المتولي والشاشي وصاحب البيان : هل يتعين الماء في قبليه ؟ أم يجزئ الحجر ؟ فيه وجهان كمن انفتح له مخرج دون المعدة مع انفتاح الأصلي . وقلنا ينقض الخارج منه ، الأصح يتعين الماء وهذه الطريقة أصح ، ولعل مراد الأكثرين التفريع على الأصح ، فإن قلنا : يجزئه الحجر وجب لكل فرج ثلاثة أحجار والله أعلم .



                                      ( الخامسة ) السنة أن يدلك يده بالأرض بعد غسل الدبر ، ذكره البغوي والروياني وآخرون لحديث ميمونة رضي الله عنها قالت : " { وضع رسول الله صلى الله عليه وسلم وضوءا للجنابة فأكفأ بيمينه على شماله مرتين أو ثلاثا ، ثم غسل فرجه ثم ضرب بيده الأرض أو الحائط مرتين أو ثلاثا } " رواه البخاري ومسلم وهذا لفظ البخاري وفي رواية مسلم : " ثم أفرغ على فرجه وغسله بشماله ، ثم ضرب بشماله الأرض فدلكها دلكا شديدا " وعن أبي هريرة : " { كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى الخلاء أتيته بماء فاستنجى ثم مسح يده على الأرض ثم أتيته بإناء آخر فتوضأ } " رواه أحمد وأبو داود وابن ماجه وغيرهم وهو حديث حسن وعن جرير بن عبد الله رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم : دخل الغيضة فقضى حاجته ، ثم استنجى من إداوة ومسح يده بالتراب } " رواه النسائي وابن ماجه بإسناد جيد .



                                      [ ص: 130 ] السادسة ) يستحب أن يأخذ حفنة من ماء فينضح بها فرجه وداخل سراويله أو إزاره بعد الاستنجاء دفعا للوسواس ، ذكره الروياني وغيره . وجاء به الحديث الصحيح في خصال الفطرة وهو الانتضاح ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية