الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    85 - ( فصل )

                    الطريق التاسع عشر الحكم بعلمه :

                    وقد اختلف في ذلك قديما وحديثا ، وفي مذهب الإمام أحمد ثلاث روايات إحداها : - وهي الرواية المشهورة عنه ، المنصورة عند أصحابه - أنه لا يحكم بعلمه لأجل التهمة .

                    والثانية : يجوز له ذلك مطلقا في الحدود وغيرها .

                    والثالثة : يجوز إلا في الحدود .

                    ولا خلاف عنه أنه يبني على علمه ، في عدالة الشهود وجرحهم ، ولا يجب عليه أن يسأل غيره عما علمه من ذلك . ولأصحاب الشافعي طريقان : أحدهما : يقضي بعلمه قطعا .

                    والثاني : أن المسألة على قولين أظهرهما عند أكثر الصحابة يقضي به .

                    قالوا : لأنه يقضي بشاهدين ، وذلك يفيد ظنا ، فالعلم أولى بالجواز . وأجابوا عما احتج به المانعون من ذلك من التهمة ; أن القاضي لو قال ثبت عندي وصح كذا وكذا ألزم قبوله بلا خلاف . ولم يبحث عما ثبت به وصح والتهمة قائمة . ووجه هذا أنه لما ملك الإنشاء ، ملك الإخبار . ثم بنوا على القولين ما علمه في زمن ولايته ومكانها ، وما علمه في غيرها .

                    قالوا : فإن قلنا : لا يقضي بعلمه فذلك إذا كان مستنده مجرد العلم ، أما إذا شهد رجلان يعرف عدالتهما ، فله أن يقضي ، ويغنيه علمه بهما عن تزكيتهما . وفيه وجه ضعيف : لا يغنيه ذلك عن [ ص: 164 ] تزكيتهما للتهمة . قالوا : ولو أقر بالمدعى به في مجلس قضائه قضى ، وذلك قضاء بالإقرار لا بعلمه ، وإن أقر عنده سرا فعلى القولين ، وقيل : يقضي قطعا .

                    ولو شهد عنده واحد ، فهل يغنيه علمه عن الشاهد الآخر ؟ على قول المنع فيه وجهان ، وهذا تحصيل مذهب الشافعي وأصحابه .

                    وأما مذهب مالك : فإنه لا يقضي بعلمه في المدعى به بحال ، سواء علمه قبل التولية أو بعدها ، في مجلس قضائه أو غيره ، قبل الشروع في المحاكمة أو بعد الشروع ، فهو أشد المذاهب في ذلك .

                    وقال عبد الملك وسحنون : يحكم بعلمه فيما علمه بعد الشروع في المحاكمة . قالوا : فإن حكم بعلمه - حيث قلنا لا يحكم - فقال أبو الحسن اللخمي : لا ينقض عند بعض أصحابنا ، وعندي أنه ينقض . قالوا : ولا خلاف في أن ما رآه القاضي ، أو سمعه في غير مجلس قضائه أنه لا يحكم به ، وأنه ينقض إن حكم به ، وينقضه هو وغيره ، وإنما الخلاف فيما يتقارر به الخصمان في مجلسه ، فإن حكم به نقضه هو ، ولا ينقضه غيره .

                    قال اللخمي : وقد اختلف إذا أقر بعد أن جلسا للخصومة ، ثم أنكرا فقال مالك وابن القاسم : لا يحكم بعلمه .

                    وقال عبد الملك وسحنون : يحكم ، لأن الخصمين إذا جلسا للمحاكمة فقد رضيا أن يحكم بينهما بما يقولانه ، ولذلك قصداه - هذا تحصيل مذهب مالك .

                    وأما مذهب أبي حنيفة ، فقالوا : إذا علم الحاكم بشيء من حقوق العباد في زمن ولايته ومحلها ، جاز له أن يقضي به ، لأن علمه كشهادة الشاهدين ، بل أولى ، لأن اليقين حاصل بما علمه بالمعاينة أو السماع ، والحاصل بالشهادة غلبة الظن ، وأما ما علمه قبل ولايته ، أو في غير محل ولايته فلا يقضي به عند أبي حنيفة .

                    وقال أبو يوسف ومحمد : يقضي به ، كما في حال ولايته ومحلها .

                    قال المنتصرون لقول أبي حنيفة : هو في غير مصره وغير ولايته ، شاهد لا حاكم ، وشهادة الفرد لا تقبل ، وصار كما إذا علم بالبينة العادلة ، ثم ولي القضاء ، فإنه لا يعمل بها . قالوا : وأما الحدود ، فلا يقضي بعلمه فيها ; لأنه خصم فيها ; ولأنه حق الله تعالى ، وهو نائبه إلا في حد القذف ، فإنه يعمل بعلمه ، لما فيه من حق العبد ، وإلا في المسكر ، إذا وجد سكرانا ، أو من به أمارات السكر ، فإنه يعذر . هذا تحصيل مذهب أبي حنيفة .

                    أما أهل الظاهر ، فقال أبو محمد بن حزم : وفرض على الحاكم أن يحكم بعلمه في الدماء ، والأموال ، [ ص: 165 ] والقصاص ، والفروج والحدود ، سواء أعلم ذلك قبل ولايته أو بعد ولايته ، قال : وأقوى ما حكم بعلمه ، ثم بالإقرار ثم بالبينة .

                    86 - ( فصل )

                    وأما الآثار عن الصحابة رضي الله عنهم ، فصح عن أبي بكر الصديق أنه قال : " لو رأيت رجلا على حد من حدود الله تعالى لم آخذه حتى يكون معي شاهد غيري " .

                    وعن عمر بن الخطاب أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : " أرأيت لو رأيت رجلا قتل ، أو شرب ، أو زنى ؟ قال : شهادتك شهادة رجل من المسلمين ، فقال له عمر : صدقت " .

                    وروي نحو هذا عن معاوية ، وابن عباس .

                    ومن طريق الضحاك : أن عمر اختصم إليه في شيء يعرفه ، فقال للطالب : " إن شئت شهدت ولم أقض ، وإن شئت قضيت ولم أشهد " .

                    وأما الآثار عن التابعين ، فصح عن شريح أنه اختصم عنده اثنان ، فأتاه أحدهما بشاهد .

                    وقال لشريح : وأنت شاهدي أيضا ، فقضى له شريح مع شاهده بيمينه ، وهذا محتمل . وصح عن الشعبي أنه قال : لا أكون شاهدا وقاضيا . واحتج من قال : " يحكم بعلمه " بما في " الصحيحين " من قصة هند بنت عتبة لما اشتكت أبا سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحكم لها عليه بأن تأخذ كفايتها وكفاية بنيها ، ولم يسألها البينة ، ولا أحضر الزوج .

                    وهذا الاستدلال ضعيف جدا ، فإن هذا إنما هو فتيا من رسول الله صلى الله عليه وسلم لا حكم ، ولهذا لم يحضر الزوج ، ولم يكن غائبا عن البلد ، والحكم على الغائب عن مجلس الحكم الحاضر في البلد ، غير ممتنع ، وهو يقدر على الحضور ولم يوكل وكيلا لا يجوز اتفاقا . [ ص: 166 ]

                    وأيضا فإنها لم تسأله الحكم ، وإنما سألته : " هل يجوز لها أن تأخذ ما يكفيها ويكفي بنيها ؟ " وهذا استفتاء محض ، فالاستدلال به على الحكم سهو .

                    واحتج بما رواه ابن ماجه والبيهقي من حديث حماد بن سلمة ، حدثني عبد الملك أبو جعفر ، عن أبي نضرة ، { عن سعيد بن الأطول أن أخاه مات وترك ثلاثمائة درهم ، وترك عيالا ، قال : فأردت أن أنفقها على عياله ، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم : إن أخاك محبوس بدينه ، فاقض عنه ، قلت : يا رسول الله قد قضيت عنه إلا دينارين ادعتهما امرأة ، وليست لها بينة قال : أعطها ، فإنها محقة وفي لفظ فإنها صادقة } وهذا أصرح في الدلالة مما قبله .

                    وقال حماد عن الجريري عن أبي نضرة عن رجل من الصحابة بمثله ، ولكن لم يسم : كم ترك ؟ .

                    وبعد ، فهذا لا يدل أيضا ، فإن المنع من حكم الحاكم بعلمه إنما هو لأجل التهمة هي معلومة الانتفاء من سيد الحكام صلى الله عليه وسلم . واحتج بما في " الصحيحين " من حديث عقيل عن ابن شهاب ، عن عمرة ، عن عائشة : أن فاطمة رضي الله عنها أرسلت إلى أبي بكر تسأله ميراثها من رسول الله ، فقال أبو بكر إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : { لا نورث ، ما تركناه صدقة ، إنما يأكل آل محمد في هذا المال } ، وإني والله لا أغير شيئا من صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولأعملن فيها بما عمل رسول الله صلى الله عليه وسلم . وأبى أبو بكر أن يدفع إلى فاطمة منها شيئا . - وذكر الحديث .

                    والاستدلال به سهو أيضا ; فإن أبا بكر رضي الله عنه علم من دين الرسول أن هذه الدعوى باطلة لا يسوغ الحكم بموجبها ، بل دعواها بمنزلة دعوى استحقاق ما علم وتحقق دفعه بالضرورة ، بل بمنزلة ما يعلم بطلانه قطعا من الدعاوى ، وسيدة نساء العالمين رضي الله عنها خفي عليها حكم هذه الدعوى ، وعلمه الخلفاء الراشدون ومن معهم من الصحابة ، فالصديق معه الحجة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يسمع هذه الدعوى ، ولم يحكم بموجبها ، للحجة الظاهرة التي علمها معه عمر بن الخطاب [ ص: 167 ] والصحابة رضي الله عنهم أجمعين ، فأين هذا من حكم الحاكم بعلمه الذي لم يقم به حجة على الخصم ؟ .

                    واحتج أبو محمد بن حزم لهذا القول بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { بينتك أو يمينه } قال : ومن البينة التي لا بينة أبين منها : علم الحاكم بالمحق من المبطل ، وهذا إلى أن يكون حجة عليهم أقرب من أن يكون حجة لهم ; فإنه قال : " بينتك " " والبينة " اسم لما يبين الحق ، بحيث يظهر المحق من المبطل ، ويبين ذلك للناس ، وعلم الحاكم ليس ببينة .

                    واحتجوا أيضا بقوله تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط } وليس من القسط : أن يعلم الحاكم أن أحد الخصمين مظلوم والآخر ظالم ، ويترك كلا منهما على حاله .

                    قال الآخرون : ليس في هذا محذور ، حيث لم يأت المظلوم بحجة يحكم له بها ، فالحاكم معذور ، إذ لا حجة معه يوصل بها صاحب الحق إلى حقه ، وقد قال سيد الحكام صلوات الله وسلامه عليه : { إنكم تختصمون إلي ، ولعل بعضكم يكون ألحن بحجته من بعض ، فأحسب أنه صادق ، فأقضي له ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذه ، فإنما أقطع له قطعة من النار } ( 119 ) . واحتجوا بقول النبي صلى الله عليه وسلم : { من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه } وإذا رأى الحاكم وحده عدوان رجل على رجل وغصبه ماله ، أو سمع طلاقه لامرأته ، وعتقه لعبده ، ثم رأى الرجل مستمرا في إمساك الزوجة ، أو بيع من صرح بعتقه ، فقد أقر على المنكر الذي أمر بتغييره .

                    قال الآخرون : هو مأمور بتغيير ما يعلم الناس أنه منكر ، بحيث لا تتطرق إليه تهمة في تغييره ، وأما إذا عمد إلى رجل مع زوجته وأمته ولم يشهد أحد أنه طلقها ولا أعتقها ألبتة ، ولا سمع بذلك أحد قط ، ففرق بينهما ، وزعم أنه طلق وأعتق : فإنه ينسب ظاهرا إلى تغيير المعروف بالمنكر ، وتطرق الناس إلى اتهامه والوقوع في عرضه ، وهل يسوغ للحاكم أن يأتي إلى رجل مستور بين الناس ، غير مشهور بفاحشة ، وليس عليه شاهد واحد بها ، فيرجمه ، ويقول : رأيته يزني ؟ أو يقتله ويقول : سمعته يسب ؟ أو يفرق بين الزوجين ، ويقول : سمعته يطلق ؟ وهل هذا إلا محض التهمة ؟ . [ ص: 168 ] ولو فتح هذا الباب - ولا سيما لقضاة الزمان - لوجد كل قاض له عدو السبيل إلى قتل عدوه ، ورجمه وتفسيقه ، والتفريق بينه وبين امرأته ، ولا سيما إذا كانت العداوة خفية ، لا يمكن لعدوه إثباتها ، وحتى لو كان الحق هو حكم الحاكم بعلمه لوجب منع قضاة الزمان من ذلك ، وهذا إذا قيل في شريح وكعب بن سوار ، وإياس بن معاوية ، والحسن البصري ، وعمران الطلحي ، وحفص بن غياث وأضرابهم . كان فيه ما فيه .

                    وقد ثبت عن أبي بكر ، وعمر ، وعبد الرحمن بن عوف ، وابن عباس ، ومعاوية رضي الله عنهم المنع من ذلك ، ولا يعرف لهم في الصحابة مخالف .

                    فذكر البيهقي وغيره عن أبي بكر الصديق أنه قال : " لو وجدت رجلا على حد من حدود الله لم أحده حتى يكون معي غيري " .

                    وعن عمر أنه قال لعبد الرحمن بن عوف : أرأيت لو رأيت رجلا يقتل أو يسرق أو يزني ؟ قال : أرى شهادتك شهادة رجل من المسلمين ، قال : أصبت ، وعن علي نحوه .

                    وهذا من كمال فقه الصحابة رضي الله عنهم ، فإنهم أفقه الأمة وأعلمهم بمقاصد الشرع وحكمه ، فإن التهمة مؤثرة في باب الشهادات والأقضية ، وطلاق المريض وغير ذلك ، فلا تقبل شهادة السيد لعبده ، ولا العبد لسيده ، ولا شهادة الوالد لولده ، وبالعكس ولا شهادة العدو على عدوه ، ولا يقبل حكم الحاكم لنفسه ، ولا ينفذ حكمه على عدوه ، ولا يصح إقرار المريض مرض الموت لوارثه ولا لأجنبي ، عند مالك ، إذا قامت شواهد التهمة ، ولا تمنع المرأة الميراث بطلاقه لها لأجل التهمة ، ولا يقبل قول المرأة على ضرتها أنها أرضعتها - أضعاف ذلك مما يرد ولا يقبل للتهمة .

                    ولذلك منعنا في مسألة الظفر أن يأخذ المظلوم من مال ظالمه نظير ما خانه فيه لأجل التهمة ، وإن كان إنما يستوفي حقه .

                    ولقد كان سيد الحكام صلوات الله وسلامه عليه يعلم من المنافقين ما يبيح دماءهم وأموالهم ، ويتحقق ذلك ، ولا يحكم فيهم بعلمه ، مع براءته عند الله وملائكته وعباده المؤمنين من كل تهمة ، لئلا يقول الناس : إن محمدا يقتل أصحابه ، ولما { رآه بعض أصحابه مع زوجته صفية بنت حيي قال : رويدكما ، إنها صفية بنت حيي } لئلا تقع في نفوسهما تهمة له . [ ص: 169 ]

                    ومن تدبر الشريعة وما اشتملت عليه من المصالح وسد الذرائع تبين له الصواب في هذه المسألة ، وبالله التوفيق .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية