الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : هل يعاقب العبد إن سعى في حصول المعصية بما أمكنه ثم حال بينه وبينها القدر أم لا ؟

وأما إن سعى في حصول المعصية بما أمكنه ثم حال بينه وبينها القدر فقد ذكر جماعة أنه يعاقب عليها حينئذ لقوله صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل } ومن سعى في حصول المعصية جهده ثم عجز عنها فقد عمل .

وقوله صلى الله عليه وسلم { إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار ، قالوا يا رسول الله : هذا القاتل فما بال المقتول ؟ قال إنه كان حريصا على قتل صاحبه } .

ودل الحديث الأول على أن الهام بالمعصية إذا تكلم بما هم به بلسانه أنه يعاقب على الهم ; لأنه قد عمل بجوارحه معصية وهو التكلم بلسانه . ويدل عليه حديث الذي قال : لو أن لي مالا لعملت فيه بما عمل فلان ، يعني الذي يعصي الله في ماله ، قال فهما في الوزر سواء . ومن المتأخرين من قال لا يعاقب على التكلم بما هم به ما لم تكن المعصية التي هم بها قولا محرما كالقذف والغيبة والكذب ، فأما ما كان متعلقها العمل بالجوارح فلا يأثم بمجرد التكلم بما هم به .

وقد يستدل لهذا بحديث أبي هريرة { وإذا تحدث بأن يعمل سيئة فأنا أغفر له ما لم يعملها } ولكن المراد بالحديث هنا حديث النفس جمعا بينه وبين قوله { ما لم يتكلم به أو يعمل } وأما إن انفسخت نية العاصي وفترت عزيمته من غير سبب منه فهل يعاقب على ما هم به من المعصية أم لا ؟ هذا على قسمين :

أحدهما : أن يكون الهم بالمعصية خاطرا خطر ولم يساكنه صاحبه ولم يعقد قلبه عليه بل كرهه ونفر منه ، فهذا معفو عنه وهو كالوساوس الرديئة التي سئل النبي صلى الله عليه وسلم عنها فقال " : { ذلك صريح الإيمان } ولما نزل قوله تعالى : { وإن تبدوا ما في أنفسكم أو تخفوه يحاسبكم به الله } شق [ ص: 573 ] ذلك على المسلمين وظنوا دخول هذه الخواطر فيه ، فنزلت الآية التي بعدها وفيها قوله { ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به } فبينت أن ما لا طاقة لهم به فهو غير مؤاخذ به ولا مكلف به .

القسم الثاني : للعزائم المصممة التي تقع في النفوس وتدوم ويساكنها صاحبها فهذا أيضا نوعان :

الأول : ما كان عملا مستقلا بنفسه من أعمال القلوب كالشك في الوحدانية أو النبوة أو البعث أو نحو ذلك من أصول الكفر والنفاق ، فهذا يعاقب عليه العبد ويصير به كافرا ومنافقا ، ويلتحق بهذا سائر المعاصي المتعلقة بالقلوب كمحبة ما يبغضه الله وبغض ما يحبه ، والكبر والعجب والحسد وسوء الظن بالمسلم من غير موجب ، على أنه روي عن سفيان أنه قال في سوء الظن إذا لم يترتب عليه قول أو فعل فهو معفو . وكذلك روي عن الحسن في الحسد .

قال : الحافظ ابن رجب : ولعل هذا محمول من قولهما على ما يجده الإنسان ولا يمكنه دفعه فهو يكرهه ويدفعه عن نفسه ولا يندفع ، لا على ما يساكنه ويستروح إليه ويعيد حديث نفسه به ويبديه .

والثاني : ما لم يكن من أعمال القلوب بل كان من أعمال الجوارح ، كالزنا والسرقة وشرب الخمر والقتل والقذف ونحو ذلك إذا أصر العبد على إرادة ذلك والعزم عليه ولم يظهر له أثر في الخارج أصلا ، فهذا في المؤاخذة به قولان مشهوران للعلماء : أحدهما يؤاخذ به . قال ابن المبارك : سألت سفيان الثوري أيؤاخذ العبد بالهمة ؟ فقال إذا كانت عزما أوخذ بها .

ورجح هذا القول كثير من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين من أصحابنا وغيرهم ، واستدلوا له بقوله تعالى : { واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه } وبقوله : { ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم } وبقوله عليه الصلاة والسلام { الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطلع عليه الناس } وحملوا قوله صلى الله عليه وسلم { إن الله تجاوز لأمتي عما حدثت به أنفسها ما لم تكلم به أو تعمل } على الخطرات ، وقالوا ما ساكنه العبد وعقد قلبه عليه فهو من كسبه وعمله فلا يكون معفوا عنه . ومن هؤلاء من قال إنه يعاقب عليه في الدنيا بالهموم والغموم ، وروي ذلك عن عائشة رضي الله عنها مرفوعا وموقوفا : [ ص: 574 ] قال الحافظ ابن رجب : وفي صحته نظر : وقيل بل يحاسب العبد به يوم القيامة يقفه الله عليه ثم يعفو عنه ولا يعاقبه به ، فيكون عقوبته المحاسبة ، وهذا مروي عن ابن عباس والربيع بن أنس رضي الله عنهم ، وهو اختيار ابن جرير الطبري .

والقول الثاني : لا يؤاخذ بمجرد النية مطلقا ، ونسب ذلك إلى نص الشافعي وهو قول ابن حامد من أصحابنا عملا بالعمومات . انتهى ملخصا .

ومذهب القاضي أبي بكر بن الطيب أن من عزم على المعصية بقلبه ووطن النفس عليها أثم في اعتقاده وعزمه ، وخالفه كثير من الفقهاء والمحدثين كما قال المازري وانتصر له القاضي عياض بأن مذهب عامة السلف وأهل العلم من الفقهاء والمحدثين على ما ذهب إليه القاضي أبو بكر للأحاديث الدالة على المؤاخذة بأعمال القلوب ، ولكن قالوا إن هذا العزم يكتب سيئة وليست السيئة التي هم بها لكونه لم يعملها وقطعه عنها قاطع غير خوف الله عز وجل والإنابة ، لكن نفس الإصرار والعزم معصية فتكتب معصية ، فإذا عملها كتبت معصية ثانية ، فإذا تركها خشية الله تعالى كتبت حسنة كما في الحديث { إنما تركها من جرائي } فصار تركه لها لخوف الله عز وجل ومجاهدته نفسه الأمارة بالسوء في ذلك وعصيانه هواه حسنة . وأما الهم الذي لا يكتب فالخواطر التي لا توطن النفس عليها ولا يصاحبها عقد ولا نية ولا عزم .

وبهذا ظهر قولنا إن التوبة واجبة على كل مكلف . وقيل لا تصح توبة غير ; عاص لأنه ليس بذي ذنب يتوب منه .

وقال مولانا الشيخ عبد القادر قدس الله روحه في الغنية : التوبة فرض عين في حق كل شخص ، ولا يتصور أن يستغني عنها أحد من البشر ، لأنه إن خلا عن معصية الجوارح فلا يخلو عن الهم بالذنب بالقلب ، وإن خلا عنها فلا يخلو عن وسواس الشيطان بإيراد الخواطر المتفرقة المذهلة عن ذكر الله عز وجل ، فإن خلا عنها فلا يخلو عن غفلة وقصور بالعلم بالله وبصفاته وأفعاله ، فلكل حال طاعات وذنوب وحدود وشروط ، فحفظها طاعة وتركها معصية والغفلة عنها ذنب ، فيحتاج إلى توبة وعزم الرجوع عن التعويج الذي وجد إلى سنن الطريق المستقيم الذي شرع له ، فالكل مفتقر إلى توبة ، وإنما [ ص: 575 ] يتفاوتون في المقادير ، فتوبة العوام من الذنوب ، وتوبة الخواص من الغفلة ، وتوبة خاص الخاص من ركون القلب إلى ما سوى الله عز وجل كما قاله ذو النون المصري وغيره .

قال ابن مفلح : وظاهر كلام بعض أصحابنا وغيرهم صحة التوبة من كل ما حصلت فيه المخالفة أو أدنى غفلة وإن لم يأثم . قال ولعل هذا القول أقوى وهو معنى ما اختاره الشيخ رحمه الله ورضي عنه وغيره ، ولعله معنى كلام مجاهد : من لم يتب إذا أصبح وأمسى فهو من الظالمين ، والله أعلم .

واعلم أن من ترك التوبة الواجبة مدة مع القدرة عليها والعمل بموجبها لزمته التوبة من ترك التوبة تلك المدة ; لأنه قد ترك واجبا ، وترك الواجب مع القدرة إثم ، والله الموفق .

التالي السابق


الخدمات العلمية