الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
فصل

الشرك في العبادة

وأما الشرك في العبادة فهو أسهل من هذا الشرك ، وأخف أمرا ، فإنه يصدر ممن يعتقد أنه لا إله إلا الله ، وأنه لا يضر ولا ينفع ولا يعطي ولا يمنع إلا الله ، وأنه لا إله غيره ، ولا رب سواه ، ولكن لا يخص الله في معاملته وعبوديته ، بل يعمل لحظ نفسه تارة ، ولطلب الدنيا تارة ، ولطلب الرفعة والمنزلة والجاه عند الخلق تارة ، فلله من عمله وسعيه نصيب ، ولنفسه وحظه وهواه نصيب ، وللشيطان نصيب ، وللخلق نصيب ، وهذا حال أكثر الناس ، وهو الشرك الذي قال فيه النبي - صلى الله عليه وسلم - فيما رواه ابن حبان في صحيحه : الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل ، قالوا : كيف ننجو منه يا رسول الله ؟ قال : قل : اللهم إني أعوذ بك أن أشرك بك وأنا أعلم ، وأستغفرك لما لا أعلم .

[ ص: 132 ] فالرياء كله شرك ، قال تعالى : قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجوا لقاء ربه فليعمل عملا صالحا ولا يشرك بعبادة ربه أحدا [ سورة الكهف : 110 ] .

أي : كما أنه إله واحد ، ولا إله سواه ، فكذلك ينبغي أن تكون العبادة له وحده ، فكما تفرد بالإلهية يجب أن يفرد بالعبودية ، فالعمل الصالح هو الخالي من الرياء المقيد بالسنة .

وكان من دعاء عمر بن الخطاب - رضي الله عنه - : اللهم اجعل عملي كله صالحا واجعله لوجهك خالصا ، ولا تجعل لأحد فيه شيئا .

وهذا الشرك في العبادة يبطل ثواب العمل ، وقد يعاقب عليه إذا كان العمل واجبا ، فإنه ينزله منزلة من لم يعمله ، فيعاقب على ترك الأمر ، فإن الله سبحانه إنما أمر بعبادته عبادة خالصة ، قال تعالى : وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء [ البينة : 5 ] .

فمن لم يخلص لله في عبادته لم يفعل ما أمر به ، بل الذي أتى به شيء غير المأمور به ، فلا يصح ولا يقبل منه ، ويقول الله : " أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، فمن عمل عملا أشرك معي فيه غيري فهو للذي أشرك به ، وأنا منه بريء " .

أقسام الشرك

وهذا الشرك ينقسم إلى مغفور وغير مغفور ، وأكبر وأصغر ، والنوع الأول ينقسم إلى كبير وأكبر ، وليس شيء منه مغفور ، فمنه الشرك بالله في المحبة والتعظيم : أن يحب مخلوقا كما يحب الله ، فهذا من الشرك الذي لا يغفره الله ، وهو الشرك الذي قال سبحانه فيه : ومن الناس من يتخذ من دون الله أندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا أشد حبا لله [ سورة البقرة : 165 ] وقال أصحاب هذا الشرك لآلهتهم وقد جمعهم الجحيم : تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين [ سورة الشعراء : 97 - 98 ] .

ومعلوم أنهم ما سووهم به سبحانه في الخلق ، والرزق ، والإماتة ، والإحياء ، والملك ، والقدرة ، وإنما سووهم به في الحب ، والتأله ، والخضوع لهم والتذلل ، وهذا غاية الجهل والظلم ، فكيف يسوى التراب برب الأرباب ، وكيف يسوى العبيد بمالك الرقاب ، وكيف [ ص: 133 ] يسوى الفقير بالذات الضعيف بالذات العاجز بالذات المحتاج بالذات ، الذي ليس له من ذاته إلا العدم ، بالغني بالذات ، القادر بالذات ، الذي غناه ، وقدرته وملكه وجوده ، وإحسانه ، وعلمه ، ورحمته ، وكماله المطلق التام من لوازم ذاته ؟

فأي ظلم أقبح من هذا ؟ وأي حكم أشد جورا منه ؟ حيث عدل من لا عدل له بخلقه ، كما قال تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون [ سورة الأنعام : 1 ] .

فعدل المشرك من خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ، بمن لا يملك لنفسه ولا لغيره مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض ، فيا لك من عدل تضمن أكبر الظلم وأقبحه .

التالي السابق


الخدمات العلمية