الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
سورة المائدة :

وقد تقدم وجه في مناسبتها.

وأقول: هذه السورة أيضا شارحة لبقية مجملات سورة البقرة; فإن آية الأطعمة والذبائح فيها أبسط منها في البقرة، وكذا ما حرمه الكفار [ ص: 94 ] تبعا لآبائهم في البقرة موجز، وفي هذه السورة مطنب أبلغ إطناب في قوله: ما جعل الله من بحيرة ولا سائبة "103، 104".

وفي البقرة ذكر القصاص في القتلى، وهنا ذكر أول من سن القتل، والسبب الذي لأجله وقع، وقال: من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا "32"، وذلك أبسط من قوله [في البقرة] : ولكم في القصاص حياة "البقرة: 179".

وفي البقرة: وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية "البقرة: 58"، وذكرت قصتها [هنا مطولة. وذكر في البقرة من ارتد مقتصرا عليه، وقال] 2 هنا: فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه "54".

وفي البقرة قصة الأيمان موجزة، وزاد هنا بسطا بذكر الكفارة.

وفي البقرة قال في الخمر والميسر: فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما "البقرة: 219". وزاد في هذه السورة ذمها، وصرح بتحريمها.

وفيها من الاعتلاق بسورة الفاتحة: بيان المغضوب عليهم [ ص: 95 ] والضالين في قوله: قل هل أنبئكم بشر من ذلك مثوبة عند الله من لعنه الله وغضب عليه "60" الآية. وقوله: قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبيل "77".

وأما اعتلاقها بسورة النساء، فقد ظهر لي فيه وجه بديع جدا; وذلك أن سورة النساء اشتملت على عدة عقود صريحا وضمنا، فالصريح: عقود الأنكحة، وعقد الصداق، وعقد الحلف، في قوله: والذين عقدت أيمانكم فآتوهم نصيبهم "النساء: 33". وعقد الأيمان في هذه الآية، وبعد ذلك عقد المعاهدة والأمان في قوله: إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق "النساء: 90"، وقوله: وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق فدية "النساء: 92".

والضمني: عقد الوصية، والوديعة، والوكالة، والعارية، والإجارة، وغير ذلك من الداخل في عموم قوله: إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها "النساء: 58"، فناسب أن يعقب بسورة مفتتحة بالأمر بالوفاء بالعقود، فكأنه قيل: يا أيها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "1" التي فرغ من ذكرها في السورة التي تمت، فكان ذلك غاية في التلاحم والتناسب والارتباط.

ووجه آخر في تقديم سورة النساء، وتأخير سورة المائدة; وهو: أن تلك أولها: يا أيها الناس "النساء: 1"، وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب [الكفار وتنزيل] 1 المكي، [وهذه أولها: " يا أيها الذين آمنوا " "1" وفيها الخطاب بذلك في مواضع، وهو أشبه بخطاب المدني] 2 وتقديم العام وشبه المكي أنسب.

ثم إن هاتين السورتين في التلازم والاتحاد نظير البقرة وآل عمران، فتلكما في تقرير الأصول; من الوحدانية، والكتاب، والنبوة، وهاتان في تقرير الفروع الحكمية.

[ ص: 96 ] وقد ختمت المائدة بصفة القدرة، كما افتتحت النساء بذلك.

وافتتحت النساء ببدء الخلق، وختمت المائدة بالمنتهى من البعث والجزاء، فكأنهما سورة واحدة، اشتملت على الأحكام من المبتدأ إلى المنتهى.

ولما وقع في سورة النساء: إنا أنـزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس "النساء: 105" الآيات، وكانت نازلة في قصة سارق سرق درعا، فصل في سورة المائدة أحكام السراق والخائنين.

ولما ذكر في سورة النساء أنه أنزل إليك الكتاب لتحكم بين الناس، ذكر في سورة المائدة آيات في الحكم بما أنزل الله حتى بين الكفار، وكرر قوله: " ومن لم يحكم بما أنزل الله " "44، 45، 46".

فانظر إلى هذه السور الأربع المدنيات، وحسن ترتيبها، وتلاحمها، وتناسقها، وتلازمها. وقد افتتحت البقرة التي هي أول ما نزل في المدينة، وختمت بالمائدة التي هي آخر ما نزل بها، كما في حديث الترمذي.

التالي السابق


الخدمات العلمية