الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    78 - ( فصل )

                    الطريق السادس عشر الحكم بشهادة الفساق - وذلك في صور :

                    إحداها : الفاسق باعتقاده ، إذا كان متحفظا في دينه ، فإن شهادته مقبولة وإن حكمنا بفسقه ، [ ص: 146 ] كأهل البدع والأهواء الذين لا نكفرهم ، كالرافضة والخوارج والمعتزلة ، ونحوهم ، هذا منصوص الأئمة .

                    قال الشافعي : أقبل شهادة أهل الأهواء بعضهم على بعض ، إلا الخطابية فإنهم يتدينون بالشهادة لموافقيهم على مخالفيهم .

                    ولا ريب أن شهادة من يكفر بالذنب ويعد الكذب ذنبا أولى بالقبول ممن ليس كذلك ، ولم يزل السلف والخلف على قبول شهادة هؤلاء وروايتهم .

                    وإنما منع الأئمة - كالإمام أحمد بن حنبل وأمثاله - قبول رواية الداعي المعلن ببدعته وشهادته ، والصلاة خلفه : هجرا له ، وزجرا لينكف ضرر بدعته عن المسلمين ، ففي قبول شهادته وروايته ، والصلاة خلفه ، واستقضائه وتنفيذ أحكامه : رضى ببدعته ، وإقرار له عليها ، وتعريض لقبولها منه .

                    قال حرب : قال أحمد : لا تجوز شهادة القدرية والرافضة وكل من دعا إلى بدعة ويخاصم عليها .

                    قال الميموني : قال أبو عبد الله في الرافضة - لعنهم الله - : لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم .

                    وقال إسحاق بن منصور ، قلت لأحمد : كان ابن أبي ليلى يجيز شهادة كل صاحب بدعة إذا كان فيهم عدلا ، لا يستحل شهادة الزور .

                    قال أحمد : ما تعجبني شهادة الجهمية والرافضة والقدرية والمعلنة .

                    وقال الميموني : سمعت أبا عبد الله يقول : من أخاف عليه الكفر - مثل الروافض والجهمية - لا تقبل شهادتهم ولا كرامة لهم .

                    وقال في رواية يعقوب بن بختان : إذا كان القاضي جهميا لا نشهد عنده .

                    وقال أحمد بن الحسن الترمذي : قدمت على أبي عبد الله ، فقال : ما حال قاضيكم ؟ لقد مد له في عمره ، فقلت له : إن للناس عندي شهادات ، فإذا صرت إلى البلاد لا آمن إذ أشهد عنده أن يفضحني ، قال : لا تشهد عنده ، قلت : يسألني من له عندي شهادة ، قال : لك ألا تشهد عنده . قلت : من كفر بمذهبه - كمن ينكر حدوث العالم ، وحشر الأجساد ، وعلم الرب تعالى بجميع الكائنات ، وأنه فاعل بمشيئته وإرادته - فلا تقبل شهادته ، لأنه على غير الإسلام ، فأما أهل البدع الموافقون لأهل الإسلام ، ولكنهم مخالفون في بعض الأصول - كالرافضة والقدرية والجهمية وغلاة المرجئة ونحوهم .

                    فهؤلاء أقسام :

                    أحدها : الجاهل المقلد الذي لا بصيرة له ، فهذا لا يكفر ولا يفسق ، ولا ترد شهادته ، إذا لم يكن قادرا على تعلم الهدى ، وحكمه حكم المستضعفين من الرجال والنساء والولدان الذين لا يستطيعون حيلة ولا يهتدون سبيلا ، فأولئك عسى الله أن يعفو عنهم ، وكان الله عفوا غفورا . [ ص: 147 ]

                    القسم الثاني : المتمكن من السؤال وطلب الهداية ، ومعرفة الحق ، ولكن يترك ذلك اشتغالا بدنياه ورياسته ، ولذته ومعاشه وغير ذلك ، فهذا مفرط مستحق للوعيد ، آثم بترك ما وجب عليه من تقوى الله بحسب استطاعته ، فهذا حكمه حكم أمثاله من تاركي بعض الواجبات ، فإن غلب ما فيه من البدعة والهوى على ما فيه من السنة والهدى : ردت شهادته ، وإن غلب ما فيه من السنة والهدى : قبلت شهادته .

                    القسم الثالث : أن يسأل ويطلب ، ويتبين له الهدى ، ويتركه تقليدا وتعصبا ، أو بغضا أو معاداة لأصحابه ، فهذا أقل درجاته : أن يكون فاسقا ، وتكفيره محل اجتهاد وتفصيل ، فإن كان معلنا داعية : ردت شهادته وفتاويه وأحكامه ، مع القدرة على ذلك ، ولم تقبل له شهادة ، ولا فتوى ولا حكم ، إلا عند الضرورة ، كحال غلبة هؤلاء واستيلائهم ، وكون القضاة والمفتين والشهود منهم ، ففي رد شهادتهم وأحكامهم إذ ذاك فساد كثير ، ولا يمكن ذلك ، فتقبل للضرورة .

                    وقد نص مالك - رحمه الله - على أن شهادة أهل البدع - كالقدرية والرافضة ونحوهم - لا تقبل ، وإن صلوا صلاتنا ، واستقبلوا قبلتنا .

                    قال اللخمي : وذلك لفسقهم ، قال : ولو كان ذلك عن تأويل غلطوا فيه . فإذا كان هذا ردهم لشهادة القدرية - وغلطهم إنما هو من تأويل القرآن كالخوارج - فما الظن بالجهمية الذين أخرجهم كثير من السلف من الثنتين والسبعين فرقة ؟ وعلى هذا ، فإذا كان الناس فساقا كلهم إلا القليل النادر : قبلت شهادة بعضهم على بعض ، ويحكم بشهادة الأمثل من الفساق فالأمثل ، هذا هو الصواب الذي عليه العمل ، وإن أنكره كثير من الفقهاء بألسنتهم ، كما أن العمل على صحة ولاية الفاسق ، ونفوذ أحكامه ، وإن أنكروه بألسنتهم ، وكذلك العمل على صحة كون الفاسق وليا في النكاح ووصيا في المال .

                    والعجب ممن يسلبه ذلك ويرد الولاية إلى فاسق مثله ، أو أفسق منه .

                    فإن العدل الذي تنتقل إليه الولاية قد تعذر وجوده ، وامتاز الفاسق القريب بشفقة القرابة ، والوصي باختيار الموصى له وإيثاره على غيره ، ففاسق عينه الموصي ، أو امتاز بالقرابة : أولى من فاسق ليس كذلك ، على أنه إذا غلب على الظن صدق الفاسق قبلت شهادته وحكم بها ، والله سبحانه لم يأمر برد خبر الفاسق ، فلا يجوز رده مطلقا ، بل يتثبت فيه حتى يتبين ، هل هو صادق أو كاذب ؟ فإن كان صادقا قبل قوله وعمل به ، وفسقه عليه ، وإن كان كاذبا رد خبره ولم يلتفت إليه .

                    ولرد خبر الفاسق وشهادته مأخذان : [ ص: 148 ] أحدهما : عدم الوثوق به ، إذ تحمله قلة مبالاته بدينه ، ونقصان وقار الله في قلبه - على تعمد الكذب .

                    الثاني : هجره على إعلانه بفسقه ومجاهرته به فقبول - شهادته إبطال لهذا الغرض المطلوب شرعا . فإذا علم صدق لهجة الفاسق ، وأنه من أصدق الناس - وإن كان فسقه بغير الكذب - فلا وجه لرد شهادته ، وقد استأجر النبي صلى الله عليه وسلم هاديا يدله على طريق المدينة ، وهو مشرك على دين قومه ، ولكن لما وثق بقوله أمنه ، ودفع إليه راحلته ، وقبل دلالته ( 47 ) .

                    وقد قال أصبغ بن الفرج : إذا شهد الفاسق عند الحاكم وجب عليه التوقف في القضية ، وقد يحتج له بقوله تعالى : { إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا } وحرف المسألة : أن مدار قبول الشهادة ، وردها ، على غلبة ظن الصدق وعدمه . والصواب المقطوع به أن العدالة تتبعض ، فيكون الرجل عدلا في شيء ، فاسقا في شيء ، فإذا تبين للحاكم أنه عدل فيما شهد به : قبل شهادته ولم يضره فسقه في غيره . ومن عرف شروط العدالة ، وعرف ما عليه الناس تبين له الصواب في هذه المسألة ، والله أعلم .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية