الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 393 ] 72

ثم دخلت سنة اثنتين وسبعين

ذكر أمر الخوارج

لما استقر عبد الملك بالكوفة بعد قتل مصعب استعمل خالد بن عبد الله على البصرة ، فلما قدمها خالد كان المهلب يحارب الأزارقة ، فجعله على خراج الأهواز ومعونتها ، وسير أخاه عبد العزيز بن عبد الله إلى قتال الخوارج ، وسير معه مقاتل بن مسمع ، فخرجا يطلبان الأزارقة ، فأتت الخوارج من ناحية كرمان إلى داربجرد ، وأرسل قطري بن الفجاءة المازني مع صالح بن مخارق تسعمائة فارس ، فأقبل يسير بهم حتى استقبل عبد العزيز وهو يسير مهلا على غير تعبية ، فانهزم بالناس ، ونزل مقاتل بن مسمع فقاتل حتى قتل ، وانهزم عبد العزيز ، وأخذت امرأته ابنة المنذر بن الجارود ، فأقيمت فيمن يزيد ، فبلغت قيمتها مائة ألف ، فجاء رجل من قومها من رءوس الخوارج فقال : تنحوا هكذا ، ما أرى هذه المشركة إلا قد فتنتكم ! وضرب عنقها ، ولحق بالبصرة ، فرآه آل المنذر فقالوا : والله ما ندري أنحمدك أم نذمك ! فكان يقول : ما فعلته إلا غيرة وحمية .

وانتهى عبد العزيز إلى رامهرمز ، وأتى المهلب خبره ، فأرسل إليه شيخا من الأزد وقال له : إن كان منهزما فعزه . فأتاه الرجل فرآه نازلا في نحو ثلاثين فارسا كئيبا حزينا ، فأبلغه الرسالة ، وعاد إلى المهلب بالخبر ، فأرسل المهلب إلى أخيه خالد بن عبد الله يخبره بهزيمته . فقال للرسول : كذبت فقال : والله ما كذبت ، فإن كنت كاذبا فاضرب عنقي ، وإن كنت صادقا فأعطني جبتك ومطرفك . قال : قد رضيت من الخطر العظيم بالخطر اليسير . وحبسه وأحسن إليه حتى صح خبر الهزيمة .

[ ص: 394 ] قال ابن قيس الرقيات في هزيمة عبد العزيز وفراره عن امرأته :

عبد العزيز فضحت جيشك كلهم وتركتهم صرعى بكل سبيل     من بين ذي عطش يجود بنفسه
وملحب بين الرجال قتيل     هلا صبرت مع الشهيد مقاتلا
إذ رحت منتكث القوى بأصيل     وتركت جيشك لا أمير عليهم
فارجع بعار في الحياة طويل     ونسيت عرسك إذ تقاد سبية
تبكي العيون برنة وعويل



فكتب خالد إلى عبد الملك يخبره بذلك ، فكتب إليه عبد الملك : قد عرفت ذلك ، وسألت رسولك عن المهلب فأخبرني أنه عامل على الأهواز ، فقبح الله رأيك حين تبعث أخاك أعرابيا من أهل مكة على القتال وتدع المهلب يجبي الخراج ، وهو الميمون النقيبة ، المقاسي للحرب ، ابنها وابن أبنائها ، أرسل إلى المهلب يستقبلهم ، وقد بعثت إلى بشر بالكوفة ليمدك بجيش ، فسر معهم ، ولا تعمل في عدوك برأي حتى يحضره المهلب ، والسلام .

وكتب عبد الملك إلى بشر أخيه بالكوفة يأمره بإنفاذ خمسة آلاف مع رجل يرضاه لقتال الخوارج ، فإذا قضوا غزوتهم ساروا إلى الري ، فقاتلوا عدوهم ، وكانوا مسلحة . فبعث بشر خمسة آلاف ، وعليهم عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فكتب له عهدا على الري عند الفراغ من قتاله .

وخرج خالد بأهل البصرة حتى قدم الأهواز ، وقدمها عبد الرحمن بن محمد في أهل الكوفة ، وجاءت الأزارقة حتى دنوا من الأهواز ، فقال المهلب لخالد : إني أرى هاهنا سفنا كثيرة ، فضمها إليك فإنهم سيحرقونها . فلم يمض إلا ساعة حتى أرسلوا إليها فأحرقوها .

وجعل خالد المهلب على ميمنته ، وعلى ميسرته داود بن قحذم من بني قيس بن ثعلبة ، ومر المهلب على عبد الرحمن بن محمد ولم يخندق عليه ، فقال : ما يمنعك من الخندق ؟ فقال : هم أهون علي من ضرطة الجمل . فقال : لا يهونوا عليك ، فإنهم سباع العرب .

[ ص: 395 ] ولم يبرح المهلب حتى خندق عبد الرحمن عليه ، فأقاموا نحوا من عشرين ليلة ، ثم زحف إليهم بالناس ، فرأوا أمرا هالهم من كثرة الناس ، فكثرت عليهم الخيل وزحفت إليهم ، فانصرفوا كأنهم على حامية وهم مولون ، لا يرون طاقة بقتال جماعة الناس ، فأرسل خالد داود بن قحذم في آثارهم ، وانصرف خالد إلى البصرة ، وسار عبد الرحمن إلى الري ، وأقام المهلب بالأهواز ، وكتب خالد إلى عبد الملك بذلك .

فلما وصل كتابه إلى عبد الملك كتب إلى أخيه بشر يأمره أن يبعث أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة مع رجل بصير بالحرب إلى فارس في طلب الأزارقة ، ويأمر صاحبه بموافقة داود بن قحذم إن اجتمعا . فبعث بشر عتاب بن ورقاء في أربعة آلاف فارس من أهل الكوفة ، فساروا حتى لحقوا داود فاجتمعوا ، ثم اتبعوا الخوارج حتى هلكت خيول عامتهم ، وأصابهم الجوع والجهد ، ورجع عامة الجيشين مشاة إلى الأهواز .

[ خروج أبي فديك الخارجي ]

وفي هذه السنة كان خروج أبي فديك الخارجي ، وهو من بني قيس بن ثعلبة ، فغلب على البحرين ، وقتل نجدة بن عامر الحنفي ، فاجتمع على خالد بن عبد الله نزول قطري الأهواز وأمر أبي فديك ، فبعث أخاه أمية بن عبد الله في جند كثيف إلى أبي فديك ، فهزمه أبو فديك ، وأخذ جارية له فاتخذها لنفسه ، فكتب خالد إلى عبد الملك بذلك .

ذكر قتل عبد الله بن خازم

ولما قتل مصعب كان ابن خازم يقاتل بحير بن ورقاء الصريمي التميمي بنيسابور ، فكتب عبد الملك إلى ابن خازم يدعوه إلى البيعة له ويطعمه خراسان سبع سنين ، وأرسل الكتاب مع سوادة بن أشتم النميري ، وقيل : مع مكمل الغنوي . فقال ابن خازم : لولا أن أضرب بين [ بني ] سليم و [ بني ] عامر لقتلتك ، ولكن كل كتابك . فأكله .

وقيل : بل كان الكتاب مع سوادة بن عبيد الله النميري ، وقيل : مع مكمل الغنوي ، فقال له ابن خازم : إنما بعثك أبو الذبان لأنك من غني ، وقد علم أني لا أقتل رجلا من قيس ، ولكن كل كتابه .

[ ص: 396 ] وكتب عبد الملك إلى بكير بن وساج ، وكان خليفة ابن خازم على مرو ، بعهده على خراسان ، ووعده ومناه ، فخلع بكير عبد الله بن الزبير ودعا إلى عبد الملك ، فأجابه أهل مرو ، وبلغ ابن خازم ، فخاف أن يأتيه بكير فيجتمع عليه أهل مرو وأهل نيسابور ، فترك بحيرا وأقبل إلى مرو ويزيد ابنه بترمذ ، فاتبعه بحير ، فلحقه بقرية على ثمانية فراسخ من مرو ، فقاتله ابن خازم ، فقتل ابن خازم ، وكان الذي قتله وكيع بن عمرو القريعي ، أعثره وكيع ، وبحير بن ورقاء ، وعمار بن عبد العزيز ، فطعنوه فصرعوه ، وقعد وكيع على صدره فقتله . فقال بعض الولاة لوكيع : كيف قتلته ؟ قال : غلبته بفضل القنا ، فلما صرع قعدت على صدره ، فلم يقدر أن يقوم ، قلت : يا لثارات دويلة ! وهو أخو وكيع لأمه ، قتل في بعض تلك الحروب . قال وكيع : فتنخم في وجهي وقال : لعنك الله ! أتقتل كبش مضر بأخيك وهو لا يساوي كفا من نوى ؟ أو قال : من تراب . قال : فما رأيت أكثر ريقا منه على تلك الحال عند الموت .

وبعث بحير ساعة قتل ابن خازم إلى عبد الملك يخبره بقتله ، ولم يبعث بالرأس ، وبعث بحير بكير بن وساج في أهل مرو ، فوافاهم حين قتل ابن خازم ، فأراد أخذ الرأس وإنفاذه إلى عبد الملك ، فمنعه بحير ، فضربه بكير بعمود وحبسه ، وسير الرأس إلى عبد الملك ، وكتب إليه يخبره أنه هو الذي قتله . فلما قدم الرأس دعا عبد الملك برسول بحير وقال : ما هذا ؟ قال : لا أدري ، وما فارقت القوم حتى قتل ابن خازم .

وقيل : إن ابن خازم إنما قتل بعد قتل عبد الله بن الزبير ، وإن عبد الملك أنفذ إليه رأس ابن الزبير ودعاه إلى نفسه ، فغسل الرأس وكفنه وبعثه إلى أهله بالمدينة ، وأطعم الرسول الكتاب ، وقال : لولا أنك رسول لقتلتك . وقيل : بل قطع يديه ورجليه وقتله ، وحلف أن لا يطيع عبد الملك أبدا .

( بحير بفتح الباء الموحدة ، وكسر الحاء المهملة ) .

[ ص: 397 ] ذكر عدة حوادث

كان العامل على المدينة طارقا لعبد الملك ، وعلى الكوفة بشر بن مروان ، وعلى قضائها عبيد الله بن عبد الله بن عتبة ، وعلى البصرة خالد بن عبد الله ، وعلى قضائها هشام بن هبيرة ، وعلى خراسان ، في قول بعضهم ، بكير بن وساج ، وفي قول بعضهم ، عبد الله بن خازم .

[ الوفيات ]

وفي هذه السنة مات عبيدة السلماني ، وهو من أصحاب علي .

عبيدة بفتح العين ، وكسر الباء الموحدة .

التالي السابق


الخدمات العلمية