الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وكذلك أكل شيء من اللحم لا ينقض الوضوء ، وحكى ابن القاص قولا آخر : أن أكل لحم الجزور ينقض الوضوء ، وليس بمشهور ، والدليل على أنه لا ينقض الوضوء : ما روى جابر رضي الله عنه " قال : { كان آخر الأمرين من رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك الوضوء مما غيرت النار } " ولأنه إذا لم ينتقض الوضوء بأكل لحم الخنزير - وهو حرام - فلأن لم ينتقض بغيره أولى ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث جابر صحيح ، رواه أبو داود والنسائي وغيرهم بأسانيد صحيحة ، ومذهبنا أنه لا ينتقض الوضوء بشيء من المأكولات ، [ ص: 66 ] سواء ما مسته النار وغيره غير لحم الجزور وفي لحم الجزور بفتح الجيم وهو لحم الإبل قولان ، الجديد المشهور لا ينتقض ، وهو الصحيح عند الأصحاب والقديم أنه ينتقض . وهو ضعيف عند الأصحاب ولكنه هو القوي أو الصحيح من حيث الدليل وهو الذي أعتقد رجحانه ، وقد أشار البيهقي إلى ترجيحه واختياره والذب عنه ، وسنرى دليله إن شاء الله تعالى .

                                      وقد اختلف العلماء في هذه المسألة على ثلاثة مذاهب ( أحدها ) : لا يجب الوضوء بأكل شيء سواء ما مسته النار ولحم الإبل وغير ذلك ، وبه قال جمهور العلماء وهو محكي عن أبي بكر الصديق وعمر وعثمان وعلي وابن مسعود وأبي بن كعب وأبي طلحة وأبي الدرداء وابن عباس وعامر بن ربيعة وأبي أمامة رضي الله عنهم وبه قال جمهور التابعين ومالك وأبو حنيفة ، وقالت طائفة : يجب مما مسته النار ، وهو قول عمر بن عبد العزيز والحسن والزهري وأبي قلابة وأبي مجلز وحكاه ابن المنذر عن جماعة من الصحابة ابن عمر وأبي طلحة وأبي موسى وزيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة رضي الله عنهم .

                                      وقالت طائفة : يجب من أكل لحم الجزور خاصة ، وهو قول أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه ويحيى بن يحيى ، وحكاه الماوردي عن جماعة من الصحابة زيد بن ثابت وابن عمر وأبي موسى وأبي طلحة وأبي هريرة وعائشة ، وحكاه ابن المنذر عن جابر بن سمرة الصحابي ومحمد بن إسحاق وأبي ثور وأبي خيثمة واختاره من أصحابنا أبو بكر بن خزيمة وابن المنذر ، وأشار إليه البيهقي كما سبق . واحتج من أوجبه مما مست النار بأحاديث صحيحة منها حديث زيد بن ثابت وأبي هريرة وعائشة عن النبي : صلى الله عليه وسلم " { توضئوا مما مست النار } " رواها كلها مسلم في صحيحه ، وفي المسألة عن أبي طلحة وأبي موسى وأبي سعيد وأم حبيبة وأم سلمة وغيرهم عن النبي صلى الله عليه وسلم . واحتج أصحابنا بالأحاديث الصحيحة ، منها حديث ابن عباس : " { أن النبي [ ص: 67 ] صلى الله عليه وسلم أكل كتف شاة ، ثم صلى ولم يتوضأ } " رواه البخاري ومسلم .

                                      وعن عمرو بن أمية الضمري قال : " { رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يحتز من كتف شاة يأكل منها ثم صلى ولم يتوضأ } " رواه البخاري ومسلم من طرق ، وعن ميمونة { أن النبي صلى الله عليه وسلم : أكل عندها كتفا ثم صلى ولم يتوضأ } " رواه مسلم . وعن أبي رافع قال : " { أشهد لكنت أشوي لرسول الله صلى الله عليه وسلم بطن الشاة ثم صلى ولم يتوضأ } " رواه مسلم ، وعن جابر وعائشة وأم سلمة مثله عن النبي صلى الله عليه وسلم . قال البيهقي وغيره : وفي الباب عن عثمان وابن مسعود وسويد بن النعمان ومحمد بن مسلمة وعبد الله بن عمرو بن العاص والمغيرة وأبي هريرة وعبد الله بن الحارث ورافع بن خديج وغيرهم .

                                      واحتج الأصحاب أيضا بحديث جابر المذكور في الكتاب ، واعترض عليه جماعة ممن نفى القول بإيجاب الوضوء ، فقالوا : لا دلالة فيه ; لأنه مختصر من حديث طويل رواه أبو داود وغيره عن جابر قال : " { ذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى امرأة من الأنصار فقربت شاة مصلية أي : مشوية ، فأكل وأكلنا فحانت الظهر ، فتوضأ ثم صلى ، ثم رجع إلى فضل طعامه فأكل ، ثم حانت صلاة العصر فصلى ولم يتوضأ } " قالوا : فقوله : آخر الأمرين " يريد هذه القضية وأن الصلاة الثانية هي آخر الأمرين يعني آخر الأمرين من الصلاتين لا مطلقا ، وممن قال هذا التأويل أبو داود السجستاني قالوا : والأحاديث الواردة بالأمر بالوضوء متأخرة على حديث جابر وناسخة له ، وممن قال هذا الزهري وغيره فعندهم أن أحاديث ترك الوضوء منسوخة بأحاديث الأمر به ، وهذا الذي قالوه ليس كما زعموه ، فأما تأويلهم حديث جابر فهو خلاف الظاهر بغير دليل فلا يقبل وهذه الرواية المذكورة لا تخالف كونه آخر الأمرين ، فلعل هذه القضية هي آخر الأمرين واستمر [ ص: 68 ] العمل بعدها على ترك الوضوء ، ولا يجوز أيضا أن يكون ترك الوضوء قبلها ، فإنه ليس فيها أن الوضوء كان لسبب الأكل ، وأما دعواهم نسخ أحاديث ترك الوضوء فهي دعوى بلا دليل فلا تقبل وروى البيهقي عن الإمام الحافظ عثمان بن سعيد الدارمي شيخ مسلم قال : اختلف الأول والآخر من هذه الأحاديث ، فلم يقف على الناسخ منها ببيان يحكم به فأخذنا بإجماع الخلفاء الراشدين والأعلام من الصحابة رضي الله عنهم في الرخصة في ترك الوضوء مع أحاديث الرخصة .

                                      والجواب عن أحاديثهم أنها منسوخة هكذا أجاب الشافعي وأصحابه وغيرهم من العلماء ، ومنهم من حمل الوضوء فيها على المضمضة وهو ضعيف . واحتج القائلون بوجوب الوضوء بأكل لحم الجزور بحديث جابر بن سمرة { : أن رجلا سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنتوضأ من لحوم الغنم ؟ قال : إن شئت فتوضأ ، وإن شئت فلا تتوضأ ، قال : أتوضأ من لحوم الإبل ؟ قال : نعم ، فتوضأ من لحوم الإبل } " رواه مسلم من طرق . وعن البراء { سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الوضوء من لحوم الإبل فأمر به } " قال أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه صح عن النبي صلى الله عليه وسلم في هذا حديثان حديث جابر والبراء . وقال إمام الأئمة محمد بن إسحاق بن خزيمة : لم نر خلافا بين علماء الحديث في صحة هذا الحديث وانتصر البيهقي لهذا المذهب ، فقال بعد أن ذكر ما ذكرناه : وأما ما روي عن علي وابن عباس رضي الله عنهم " { الوضوء مما خرج ، وليس مما دخل } " فمرادهما ترك الوضوء مما مست النار .

                                      قال : وأما ما روي عن أبي جعفر عن ابن مسعود " أنه أتي بقصعة من لحم الجزور من الكبد والسنام ، فأكل ولم يتوضأ " فهو منقطع وموقوف قال وبمثل هذا لا يترك ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . واحتج أصحابنا بأشياء ضعيفة في مقابلة هذين الحديثين فتركتها لضعفها ، والمعتمد للمذهب حديث جابر المذكور : " كان آخر الأمرين " ولكن [ ص: 69 ] لا يرد عليهم ; لأنهم يقولون ينتقض بأكله نيئا وأصحابنا يقولون : هو محمول أكله مطبوخا ; لأنه الغالب المعهود وأجاب الأصحاب عن حديث جابر بن سمرة والبراء بجوابين : أحدهما : أن النسخ بحديث جابر كان آخر الأمرين . والثاني : حمل الوضوء على غسل اليد والمضمضة . قالوا : وخصت الإبل بذلك لزيادة سهوكة لحمها ، وقد نهى أن يبيت وفي يده أو فمه دسم خوفا من عقرب ونحوها ، وهذان الجوابان اللذان أجاب بهما أصحابنا ضعيفان .

                                      أما حمل الوضوء على اللغوي فضعيف ; لأن الحمل على الوضوء الشرعي مقدم على اللغوي كما هو معروف في كتب الأصول ، وأما النسخ فضعيف أو باطل ; لأن حديث ترك الوضوء مما مست النار عام ، وحديث الوضوء من لحم الإبل خاص ، والخاص يقدم على العام ، سواء وقع قبله أو بعده وأقرب ما يستروح إليه قول الخلفاء الراشدين وجماهير الصحابة والله أعلم .

                                      ( فرع ) لا فرق عند أحمد بين أكل لحم الإبل مطبوخا ونيئا ومشويا ففي كله الوضوء ، وكذا قولنا القديم ، ولأحمد رواية أنه يجب الوضوء من شرب لبن الإبل ولا أعلم أحدا وافقه عليها ، ومذهبنا ومذهب العلماء كافة لا وضوء من لبنها . واحتج أصحاب أحمد بحديث عن أسيد بن حضير - بضم أولهما والحاء مهملة والضاد معجمة - رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " { لا توضئوا من ألبان الغنم وتوضئوا من ألبان الإبل } " رواه ابن ماجه بإسناد ضعيف فلا حجة فيه ودليلنا أن الأصل الطهارة ولم يثبت ناقض .



                                      واختلف أصحاب أحمد في أكل كبد الجزور وطحاله وسنامه ودهنه ومرقه ، وعندنا وعند الجمهور لا ينقض لما سبق في اللبن ، وأما قول الغزالي رحمه الله في الوسيط : لا وضوء مما مسته النار خلافا لأحمد فما أنكروه عليه ; لأن أحمد لا ينقض بما مست النار ، وإنما ينقض بالجزور خاصة والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية