الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 245 ] ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون )

                          الكلام موجه إلى بني إسرائيل وقد تقدم في الآيات السابقة أن الله ذكرهم بنعمته وأمرهم بالوفاء بعهده ، وأن يرهبوه ويتقوه وحده ، وأن يؤمنوا بالقرآن ، ونهاهم أن يكونوا أول كافر به ، وأن يشتروا بآياته ثمنا قليلا ، وأن يلبسوا الحق بالباطل ويكتموه عمدا ، ثم أمرهم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وطفق في هذه الآيات يوبخهم على سيرتهم المعوجة في الدين ، ويهديهم إلى طريق الخروج منها .

                          اليهود كسائر الملل يدعون الإيمان بكتابهم والعمل به ، والمحافظة على أحكامه والقيام بما يوجبه ، ولكن الله - تعالى - علمنا أن من الإيمان - بل مما يسمى في العرف إيمانا - ما لا يعبأ به ، فيكون وجوده كعدمه ، وهو الإيمان الذي لا سلطان له على القلب ، ولا تأثير له في إصلاح العمل ، كما قال : ( ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين ) وكانت اليهود في عهد بعثته - عليه الصلاة والسلام - قد وصلوا في البعد عن جوهر الدين إلى هذا الحد . كانوا - ولا يزالون - يتلون الكتاب تلاوة يفهمون بها معاني الألفاظ ، ويجلون أوراقه وجلده ، ولكنهم ما كانوا يتلونه حق تلاوته ؛ لأن الذين يتلونه حق تلاوته أولئك يؤمنون به كما قال - تعالى - وعلى الوجه الذي يرضاه - تعالى - ، يتلون ألفاظه وفيها البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ، ويأمرون بالعمل بأحكامه وآدابه من البر والتقوى ، ولكن الأحبار القارئين الآمرين الناهين ما كانوا يبينون من الحق إلا ما يوافق أهواءهم وتقاليدهم ، ولا يعملون بما فيه من الأحكام إلا إذا لم يعارض حظوظهم وشهواتهم ؛ فقد عهد الله إليهم في الكتاب أنه يقيم من إخوتهم نبيا يقيم الحق ، وفرض عليهم الزكاة ، ولكنهم كانوا [ ص: 246 ] يحرفون البشارة بالنبي - صلى الله عليه وسلم - ويؤولونها . ويحتالون لمنع الزكاة فيمنعونها ، وجعلت لهم مواسم واحتفالات دينية تذكرهم بما آتى الله أنبياءهم من الآيات ، وما منحهم من النعم ؛ لينشطوا إلى إقامة الدين والعمل بالكتاب ولكن القلوب قست بطول الأمد ففسقت النفوس عن أمر ربها . وهذه التوراة التي بين أيديهم لا تزال حجة عليهم ، فلو سألتهم عما فيها من الأمر بالبر والحث على الخير لاعترفوا وما أنكروا ، ولكن أين العمل الذي يهدي إليه الإيمان ، فيكون عليه أقوى حجة وبرهان ؟

                          كذلك كان شأن أحبار اليهود وعلمائهم في معرفة ظواهر الدين بالتفصيل ، وكان عامتهم يعرفون من الدين العبادات العامة والاحتفالات الدينية وبعض الأمور الأخرى بالإجمال ، ويرجع المستمسك منهم بدينه في سائر أموره إلى الأحبار فيقلدهم فيما يأمرونه به ، وكانوا يأمرون بما يرونه صوابا فيما ليس لهم فيه هوى ، وإلا لجئوا إلى التأويل والتحريف والحيلة ليأخذوا من الألفاظ ما يوافق الهوى ويصيب الغرض ، فإذا وجه الخطاب في قوله - تعالى - : ( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم ) إلى حملة الكتاب فذاك ؛ لأن الأمر والنهي وظيفتهم ، وإذا كان عاما فذاك ؛ لأن شأن العامة فيما يعرفون من الدين بالإجمال كشأن الرؤساء فيما يعرفون بالتفصيل ، ولا يكاد يوجد أحد لا يأمر بخير ولا يحث على بر ، فإذا كان الآمر لا يأتمر بما يأمر به فالحجة قائمة عليه بلسانه .

                          وبخ الله هؤلاء القوم على أنهم كانوا يأمرون الناس بالبر كالأخذ بالحق ومعرفته لأهله ، وعمل الخير والوعد عليه بالسعادة مع الغفلة عن أنفسهم وعدم تذكيرها بذلك ، وما أجمل التعبير عن هذه الحالة بنسيان الأنفس ، فإن من شأن الإنسان ألا ينسى نفسه من الخير ولا يحب أن يسبقه أحد إلى السعادة ، كأنه يقول : إذا كنتم موقنين بوعد الكتاب على البر ، ووعيده على تركه ، فكيف نسيتم أنفسكم ( وأنتم تتلون الكتاب ) وتأمرون الناس باتباعه ، وتعرفون منه ما لا يعرفه المأمورون ؟ أفيعلمون مع نقص العلم بفائدة العمل ولا تعملون على كمال العلم وسعته ؟ ولما كان هذا غير معقول قفى على استفهام التوبيخ بقوله : ( أفلا تعقلون ) .

                          يعني ألا يوجد فيكم عقل يحبسكم عن هذا السفه ؟ فإن من له مسكة من العقل لا يدعي كمال العلم بالكتاب والإيمان اليقيني به والقيام بالإرشاد إليه : هذا كتاب الله ، هذه وصايا الله ، هذا أمر الله ، قد وعد العامل به السعادة في الدنيا أو الآخرة أو كليهما ، فخذوا به واستمسكوا بعراه ، وحافظوا عليه - ثم هو لا يعمل ولا يستمسك ؟ .

                          مثل من كانت هذه حاله كمثل رجل أمامه طريق مضئ نصبت فيه الأعلام والصوى بحيث لا يضل سالكه ، ثم هو يسلك طريقا آخر مظلما طامس الأعلام وكلما لقي في طريقه [ ص: 247 ] شخصا نصح له ألا يمشي معه ، وأن يرجع إلى طريق الهدى الذي تركه ، أو مثل ساغب يدعو الناس إلى المائدة الشهية ، ويبيت على الجوع والطوى ، أو صاد يدل العطاش على مورد الماء ولا يرد معهم .

                          إذا كان هذا لا يقع من صحيح العقل فكذلك أمر المؤمن بشعب الإيمان وعدم الائتمار بها ، مع تذكرها وتلاوة كلام الله فيها ، فلا بد لتعقل هذا من القول بأن الإيمان بالوعد على البر والوعيد على الفجور غير يقيني عند الآمر المخالف ، ويؤيده أن القوم كانوا عقلاء في كسب المال وحفظ الجاه الدنيوي وإنما ضلوا من جهة الدين بأخذه على غير وجهه .

                          الخطاب عام لليهود الذين كان هذا حالهم ، وعبرة لغيرهم ، لأنه منبئ عن حال طبيعية للأمم في مثل ذلك الطور الذي كانوا فيه ، ولذلك كان القرآن هداية للعالمين إلى يوم الدين ، لا حكاية تاريخ يقصد بها هجاء الإسرائيليين ، فلتحاسب أمة نفسها في أفرادها ومجموعها ؛ لئلا يكون حالها كحال من ورد النص فيهم ، فيكون حكمها عند الله كحكمهم ؛ لأن الجزاء على أعمال القلوب والجوارح ، لا لمحاباة الأشخاص والأقوام أو معاداتهم .

                          ( فإن قيل ) : إن من يأمر غيره بالبر وينسى نفسه قد يكون متكلا في ترك العمل على الشفاعات والمكفرات ، كالأذكار والصدقات ، لا أنه يترك لعدم اليقين في الإيمان ، وإذا أمر غيره بالبر مع هذا فذاك لأنه يلاحظ المكفرات في شأن نفسه ولا يلاحظها في شأن غيره ( نقول ) : إن العالم بالدين لا يخفى عليه أن حكم الله - تعالى - واحد عام ، فكيف يحتم البر على غيره ويوهمه أنه لا يقربه من رضوان الله ، ويبعده عن سخطه إلا هو ، وينسى نفسه فلا يحتم عليها ذلك ؟ ثم كيف يجهل أن الشفاعات والأعمال الصالحة التي ورد أنها تكفر السيئات لا يصح أن تكون مثبطة عن عمل البر أو سببا لتركه ؛ لأنه خلاف المقصود من الدين ؟ فهل يكون فرع من فروع الدين هادما لأصوله وسائر فروعه ؟ كل ذلك كان ينبغي أن يكون بعيدا عن العالم بالدين الذي يتلو كتاب الله - تعالى - ، ولكن هذا الضرب من الخذلان يعرض لأرباب الأديان عند فساد حال الأمم ، فنبه الله - تعالى - عليه بهذا التعبير اللطيف وهو نسيان النفس مع تلاوة الكتاب ، فكأن الزاعم أنه مؤمن ولا يعمل عمل الإيمان ، نسي أنه هو الذي يزعم الإيمان ، وصاحب هذا النسيان يمضي في العمل القبيح من غير فكر ولا روية بل انبعاثا مع الحظوظ والشهوات التي حكمها في نفسه ، وملكها زمام عقله وحسه ، ولكنه لا يلاحظها في غيره ما يعرض عليه عمله السيئ أو يراه معرضا عن عمل البر ؛ ولذلك يعظه ويذمه .

                          بعد ما بين سوء حالهم ، وأن عقلهم لم ينفعهم والكتاب لم يذكرهم ، أرشدهم إلى الطريقة المثلى للانتفاع بالكتاب والعقل ، والعمل بالعلم النافع ؛ فإن العمل السيئ الذي سببه نسيان [ ص: 248 ] النفس ليس طبيعيا كالنفس لا يمكن دفعه ومقاومته ، بل هو اختياري وسببه عارض تمكن إزالته بما أرشد الله إليه في قوله : ( واستعينوا بالصبر والصلاة ) قال الأستاذ الإمام : أمر بالصبر وهو كما قال المفسر : حبس النفس على ما تكره . ونقول بعبارة أوضح : هو احتمال المكروه بنوع من الرضى والاختيار والتسليم ؛ لأنه لو لم يكن كذلك لكان كما يقول العامة في أمثالهم . . . وذكر مثلا بمعنى قول الشاعر :


                          صبرت ولا والله ما لي طاقة على الصبر ، ولكني صبرت على الرغم



                          والصبر الحقيقي المبني على التسليم يحصل بتذكر وعد الله - تعالى - بالجزاء الحسن للصابرين على أعمال البر التي تشق على النفس ، وعن الشهوات المحرمة التي تصبو إليها ، وبتذكر أن المصائب من فعل الله وتصرفه في خلقه ؛ فيجب الخضوع له والتسليم لأمره ، ومن عجيب أمر هذا الصبر أنه يقي الإنسان من الخسران متى حسن في كل شيء كما تفيده سورة ( العصر ) ويؤيده الاختبار ، وقد اشتهر أن " من صبر ظفر " وربما أتينا على شيء من معنى الصبر وأنه قوة من قوى النفس تدخل النظام في كل عمل من أعمالها في موضع آخر .

                          الاستعانة بالصبر تكون بالالتفات إلى الأسباب التي تأفك الناس وتصرفهم عن صراط الشريعة كاتباع الشهوات ، والولوع باللذات ، والبعد عن المؤلمات ، ثم القياس بينها وبين ما رغب الله فيه ، أو أوعد بالعقاب على فعله ، بملاحظة أن ما أوعد الله - تعالى - به أولى بأن يتقى ، وما وعد به أولى بأن يرجى ويطلب ، وضرب الأستاذ لمن يفقدون الصبر فيقعون في الخسران مثلا : صاحب الحاجة يهزه الطيش والتسرع إلى قضاء حاجته ويفقد الصبر على مرارتها فيكذب لاعتقاد أن حاجته تقضى فيدفع المضرة أو يجلب المنفعة بالكذب ، وأنه بالصدق يفوته هذا ، فيقترف جريمة الكذب لهذا الاعتقاد ، وهو ظان بل واهم ، ومتى اقترفه مرة هان عليه ، فيعود إليه فيكون كذابا ( ومتى عرف بذلك ضاعت الثقة به وفسد حاله ، وأصبح يجد الحاجة إلى الصدق أشد مما كان منها إلى الكذب ) ويؤيد ما قاله الأستاذ الإمام حديث ( ( لا يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يكتب عند الله كذابا ) ) رواه الشيخان عن ابن مسعود ، وإذا ذكر مثل هذا الرجل أو تذكر من تلقاء نفسه الوعيد على الكذب وما ورد في ذلك من آيات في كتاب الله وآثار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآله وأصحابه ومن تبعهم بإحسان ، وما يجلبه لصاحبه من مقت الله وغضبه ، يسبق إلى ذهنه المكفرات ( ومثلها الشفاعات وسعة العفو والمغفرة ) كالاستغفار قبل النوم مائة مرة ، وقول كذا من الذكر بعد صلاة الصبح كذا وكذا مرة فلا يبقى للوعيد معها أثر ، إذ يذعن بأن ذنبه يغفر لا محالة ، وينسى سبب المغفرة الحقيقي وهو التوبة النصوح والرجوع إلى الله - تعالى - ، [ ص: 249 ] وأن العفو عن غير التائب الأواب إلى الله - تعالى - مجهول بالنسبة إلى علمنا ، وإن كان جائزا عقلا ، فإننا لم نطلع على ما في علم الله - تعالى - فنعلم أننا ممن يعفو عنهم .

                          ( وكيف نترك ما جاء عن الله في كتابه وعلى لسان نبيه من النصوص القاطعة الدالة على أن لعنة الله مسجلة على الكاذبين ، وهي بعمومها لا تدع لوهم مجالا في نزول سخط الله بالكاذب ، ثم نخترع لأنفسنا تعلة نتوكأ عليها في ارتكاب هذه الجريرة ونسندها إلى سعة عفو الله ، أو إلى مجمل من القول لا يبينه إلا تلك النصوص القاطعة ؟ إن هذا إلا خبال أو تصوير خيال ، أو فقد للإيمان بصحة تلك النصوص القاطعة . نعوذ بالله ) .

                          ( وأقول ) : إنما جعل شيخنا جريمة الكذب مثلا لاستباحة فاسدي الدين للمعاصي ؛ لأنه في معناه العام أكبر الكبائر ، وشر الرذائل ، حتى إن الكفر والشرك شعبة منه ، ولأنه ليس مما تغلب المرء عليه ثورة غضب أو ثورة شهوة ، بل يقترف بالتروي والتعمد ، ولأنه مع ذلك عام فاش في جميع طبقات الناس في عصرنا هذا حتى العلماء والوزراء ومن فوقهم ، ومن العجائب أننا سمعنا بآذاننا وقرأنا وروينا عن أعداء الإصلاح وأهله من افتراء الكذب على دعاته ما لا تستطيع عقولنا له تأويلا إلا بما كتبه شيخنا في هذه العبارة من الخبال في أنفسهم التي فسدت فطرتها أو من فقد الإيمان بصحة النصوص ، إما فقدا تاما عاما ، وإما فقدا خاصا بالحال التي يفترون فيها الكذب وغيره من الجرائم على حد ما ورد في الحديث المتفق عليه ( ( لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ) ) . . . إلخ ، على أحد التأويلات له . ووجه العجب والغرابة في هذا النوع من الكذب : أنه بحسب الظاهر انتصار للدين ودفاع عنه وهو هدم له .

                          ثم أقول : إن مثل من يقترف السيئات معتمدا على العفو والشفاعة ، كمثل من يرتكب الجرائم في ملأ من الناس وعلى رءوس الأشهاد متعرضا لقبض الشرطة عليه وسوقه إلى المحكمة لتحكم عليه بعقوبة الجريمة اعتمادا على أن الأمير أو السلطان قد يعفو عنه بعد الحكم عليه بالعقوبة ، ومثل هذا لا يختلف اثنان في حمقه ، والله - تعالى - قد بين لنا شرط نفع الأعمال الصالحة في مغفرة الذنوب وهو اقترانها بالتوبة الصحيحة كقوله في حكاية دعاء الملائكة للمؤمنين : ( فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك ) ( 40 : 7 ) الآيات وقوله : ( ومن تاب وعمل صالحا فإنه يتوب إلى الله متابا ) ( 25 : 71 ) وقوله : ( وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحا ثم اهتدى ) ( 20 : 82 ) وأما الشفاعة فحسبك قوله فيها : ( ولا يشفعون إلا لمن ارتضى ) ( 21 : 28 ) مع الجزم بأنه - تعالى - لا يرضى بالكذب ولا بغيره من الجرائم ، ومن يأذن - تعالى - لهم بالشفاعة لا يعلمهم غيره - عز وجل .

                          ثم قال الأستاذ الإمام ما معناه : ومن الناس من يكتفي بالاعتذار عن ذنوبه وجرائمه بأنه غير معصوم ، وذكر بعض الشواهد عمن يظن أن لهم في الدين قدم صدق ، وقال : إن [ ص: 250 ] من هذا رأيه يتصور أن الصدق واتباع الحق إنما هو شأن طائفة معدودة من البشر وهم الأنبياء - عليهم السلام - ، وكل من عداهم فليس من شأنه أن يثبت على عمل صالح ، ويكتفي بهذه التكأة في تسلية نفسه وتجريئها على الجرائم .

                          وكفى بهذا حمقا ، فليس يلزم من كون غير النبي ليس معصوما أن يكون إلف مآثم ، وحلف جرائم ، وخدن عظائم ، ولو لزم أن يكون الناس هكذا لكانت الشرائع عبثا ، والتهذيب لغوا ، ولفسدت الأرض وخرب العمران .

                          ( وهل يصح في حكم العقل أن يقال : أن الشرائع والحدود وضروب الوعد والوعيد لم ينعم الله بتشريعها إلا لأجل المعصومين ؟ وهل يحتاج المعصوم إلى وعد أو وعيد ؟ وما فائدتهما بالنسبة إليه ، وقد أيقن بتوفيق الله له ، وأنه لا يأتي أمرا يخالف ما أمر به ، ولا يقترف شيئا مما نهي عنه ؟ ثم كيف لا يكون لغير المعصومين نصيب في الوعيد ولا الزجر مع أنهم أحق الناس بالردع وأحوجهم إلى التخويف من سوء العاقبة ؟ ) .

                          وأما الاستعانة بالصلاة فهي أقرب إلى حصول المأمول ؛ وإرجاع النفس إلى الله - تعالى - لما لها من التأثير في الروح ، ولكنها أشق على النفس الأمارة بالسوء ؛ ولذلك قال - تعالى - : ( وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين ) أي : لثقيلة شديدة الوقع كقوله : ( كبر على المشركين ما تدعوهم إليه ) ( 42 : 13 ) إلا على المخبتين المتطامنة قلوبهم وجوارحهم لله - تعالى - ؛ فهؤلاء هم الذين يستفيدون بالصلاة والصبر وكل الخلائق الحسنة ، لما تعطيه الصلاة من مراقبة الله - تعالى - ، كما قال - عز وجل - : ( إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا إلا المصلين ) ( 70 : 19 - 22 ) فمن خواص الصلاة والصبر ونفي الجزع ، ومن خواصها النهي عن الفحشاء والمنكر ، ومن خواصها الجود والسخاء ، فالمصلي الحقيقي هو البار الحقيقي الذي لا يترك الحق لأجل شهوة ، ولا لما يعرض له في معاملاته مع الخلق من خوف وخشية ، هذا أثر صلاة الخاشعين بالإجمال ، ولذلك قال - تعالى - : ( قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون ) ( 23 : 1 ، 2 ) .

                          ثم وصف الخاشعين وصفا يناسب المقام ، ويظهر وجه الاستعانة به فقال : ( الذين يظنون أنهم ملاقو ربهم وأنهم إليه راجعون ) أي : الذين يتوقعون لقاء الله - تعالى - يوم الحساب والجزاء وأنهم إليه راجعون ، بعد البعث لا مرجع لهم إلى غيره ، قال شيخنا : فالإيمان بلقاء الله - تعالى - هو الذي يوقف المعتقد عند حدوده ، ولو لم يكن الاعتقاد يقينيا ، فإن الذي يغلب على ظنه أن هذا الشيء ضار يجتنبه أو أنه نافع يطلبه ، ولذلك اكتفى هنا بذكر الظن ، وقد فسر الظن مفسرنا ( الجلال ) باليقين ؛ لأنه الاعتقاد المنجي في الآخرة ، وفاته أن الاكتفاء بالظن أبلغ في التقريع والتوبيخ كأن هؤلاء الذين يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم [ ص: 251 ] يقرءون الكتاب لا يصل إيمانهم بالله وبكتابه إلى درجة الظن الذي يأخذ صاحبه بالاحتياط .

                          ( أقول ) : بل هو تقليد عادي محض كالعادات القومية والوطنية فهو لا ينجي صاحبه في الآخرة .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية