الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                        صفحة جزء
                                                                                        ( قوله : ويتوضأ بماء السماء والعين والبحر ) يعني الطهارة جائزة بماء السماء كما صرح به القدوري وغيره والمشايخ تارة يطلقون الجواز بمعنى الحل وتارة بمعنى الصحة ، وهي لازمة للأول من غير عكس والغالب إرادة الأول في الأفعال والثاني في العقود ، والمراد هنا الأول ، ومن قال بعموم المشترك استعمل الجواز هنا بالمعنيين والماء هو الجسم اللطيف السيال الذي به حياة كل نام وأصله موه بالتحريك ، وهو أصل مرفوض فيما أبدل من الهاء إبدالا لازما ، فإن الهمزة فيه مبدلة عن الهاء في موضع اللام ويجمع على مياه جمع كثرة وجمع قلة على أمواه والعين لفظ مشترك بين الشمس والينبوع والذهب والدينار والمال والنقد والجاسوس والمطر وولد البقر الوحشي وخيار الشيء ونفس الشيء والناس القليل وحرف من حروف المعجم وما عن يمين قبلة العراق وعين في الجلد وغير ذلك ، والمراد به هنا الينبوع بقرينة السياق ، وفي قوله والبحر عطفا على السماء أي وبماء البحر إشارة إلى رد قول من قال إن ماء البحر ليس بماء حتى حكي عن ابن عمر أنه قال في ماء البحر التيمم أحب إلي منه كما نقله عنه في السراج الوهاج وقسم هذه المياه باعتبار ما يشاهد عادة ، وإلا فالكل من السماء لقوله تعالى { ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فسلكه ينابيع في الأرض } وقيل ليس في الآية أن جميع المياه تنزل من السماء ; لأن ما نكرة في الإثبات ومعلوم أنها لا تعم قلنا بل تعم بقرينة الامتنان به ، فإن الله ذكره في معرض الامتنان به

                                                                                        فلو لم تدل على العموم لفات المطلوب والنكرة في الإثبات تفيد العموم بقرينة تدل عليه كما في قوله تعالى { علمت نفس ما أحضرت } أي كل نفس .

                                                                                        واعلم أن الماء نوعان : مطلق ، ومقيد فالمطلق هو ما يسبق إلى الأفهام بمطلق قولنا ماء ، ولم يقم به خبث ولا معنى يمنع جواز الصلاة فخرج الماء المقيد والماء المتنجس والماء المستعمل والمطلق في الأصول هو المتعرض للذات دون الصفات لا بالنفي ولا [ ص: 70 ] بالإثبات كماء السماء والعين والبحر والإضافة فيه للتعريف بخلاف الماء المقيد ، فإن القيد لازم له لا يجوز إطلاق الماء عليه بدون القيد كماء الورد ، وقد أجمعوا على جواز الطهارة بماء السماء واستدلوا به بقوله تعالى { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وقد استدل جماعة بقوله تعالى { وأنزلنا من السماء ماء طهورا } وبالحديث الصحيح الذي رواه مالك في الموطإ وأبو داود والترمذي والنسائي وغيرهم عن أبي هريرة قال { سأل سائل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ونحمل معنا القليل من الماء ، فإن توضأنا به عطشنا أفنتوضأ بماء البحر فقال رسول الله : صلى الله عليه وسلم هو الطهور ماؤه الحل ميتته } قال البخاري : في غير صحيحه هو حديث صحيح وقال الترمذي : حديث حسن صحيح وأورد أن التمسك بالآية والحديث لا يصح إلا إذا كان الطهور بمعنى المطهر كما هو مذهب الشافعي ومالك ، وأما إذا كان بمعنى الطاهر كما هو مذهبنا فلا يمكن الاستدلال ، والدليل على أنه بمعنى الطاهر قوله تعالى { وسقاهم ربهم شرابا طهورا } وصفه بأنه طهور ، وإن لم يكن هناك ما يتطهر به

                                                                                        وقال جرير

                                                                                        عذاب الثنايا ريقهن طهور

                                                                                        ومعناه طاهر وأهل العربية على أن الطهور فعول من طهر ، وهو لازم والفعل إذا لم يكن متعديا لم يكن الفعول منه متعديا كقولهم نئوم من نام وضحوك من ضحك ، وإذا كان متعديا فالفعول منه كذلك كقولهم قتول من قتل وضروب من ضرب قلنا إنما تفيد هذه الصيغة التطهير من طريق المعنى ، وهو أن هذه الصيغة للمبالغة ، فإن في الشكور والغفور من المبالغة ما ليس في الغافر والشاكر فلا بد أن يكون في الطهور معنى زائد ليس في الطاهر ولا تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار التطهير ; لأن في نفس الطهارة كلتا الصفتين سواء فتكون صفة التطهير له بهذا الطريق لا أن الطهور بمعنى المطهر ، وإليه أشار في الكشاف والمغرب قال وما حكي عن ثعلب أن الطهور ما كان طاهرا في نفسه مطهرا لغيره إن كان هذا زيادة بيان لبلاغته في الطهارة كان سديدا و يعضده قوله تعالى { وينزل عليكم من السماء ماء ليطهركم به } وإلا فليس فعول من التفعيل في شيء وقياسه على ما هو مشتق من الأفعال المتعدية كقطوع ومنوع غير سديد والطهور يجيء صفة نحو : ماء طهورا واسما لما يتطهر به كالوضوء اسم لما يتوضأ به ومصدرا نحو تطهرت طهورا حسنا

                                                                                        ومنه قوله { لا صلاة إلا بطهور } أي طهارة فإذا كان بمعنى ما يتطهر به صح الاستدلال ولا يحتاج أن يجعل بمعنى المطهر حيث يلزم جعل اللازم متعديا كذا قرره بعض الشارحين ، وفيه بحث من وجوه :

                                                                                        الأول : أن الله تعالى وصف شراب أهل الجنة بأعلى الصفات ، وهو التطهير الثاني أن جريرا قصد تفضيلهن على سائر النساء فوصف ريقهن بأنه مطهر يتطهر به لكمالهن وطيب ريقهن وامتيازه على غيره ولا يحمل على طاهر ; لأنه لا مزية لهن في ذلك ، فإن كل النساء ريقهن طاهر بل كل حيوان طاهر اللحم كذلك كالإبل والبقر الثالث أن قوله ولا تكون تلك المبالغة في طهارة الماء إلا باعتبار التطهير قد يمنع بأن المبالغة فيه باعتبار كثرته وجودته في نفسه لا باعتبار التطهير والمراد بماء [ ص: 71 ] السماء ماء المطر والندى والثلج والبرد إذا كان متقاطرا وعن أبي يوسف يجوز ، وإن لم يكن متقاطرا والصحيح قولهما وقد استدل على جواز الطهارة بماء الثلج والبرد بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسكت بين تكبيرة الإحرام والقراءة سكتة يقول فيها أشياء منها اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد وفي رواية بماء الثلج والبرد } ولا يجوز بماء الملح ، وهو يجمد في الصيف ، ويذوب في الشتاء عكس الماء .

                                                                                        التالي السابق


                                                                                        ( قوله : والمراد هنا الأول ) أي الحل ; لأن الطهارة تكون بما هو من الأفعال كالوضوء ونحوه وفي شرح الشيخ إسماعيل الظاهر هنا الصحة مع قطع النظر عن الحل وعدمه ( قوله : ومن قال بعموم المشترك استعمل الجواز هنا بالمعنيين ) أقول : أما وجه استعماله بمعنى الحل فلما تقدم ، وأما وجه استعماله بمعنى الصحة ; فلأنها لازمة للحل من غير عكس وهنا كذلك ، فإن الطهارة قد تصح وتحل وقد تصح ولا تحل كالطهارة بماء مباح أو بماء الغير ( قوله : والمراد هنا الينبوع بقرينة السياق ) قال في النهر هذا مبني على أنه معطوف على ماء وبعده لا يخفى والأولى أن يعطف على السماء وعليه فلا يكون مشتركا بين ما ذكر نعم هو مشترك بينه وبين ماء الباصرة والثاني غير مراد بقرينة السياق ا هـ .

                                                                                        ويمكن تقدير مضاف في كلام الشارح أي ماء الينبوع فيئول إلى ما ذكر [ ص: 70 ] ( قوله : وبالحديث الصحيح الذي رواه مالك إلخ ) لا يخفى أن الاستدلال مسوق على جواز الطهارة بماء السماء وما في الحديث ماء البحر اللهم إلا أن يقال إنه مبني على ما تقدم من أن المياه كلها من السماء وسيأتي عنه جواب آخر ( قوله : كلتا الصفتين سواء ) الصفتان هما أصل الطهارة والمبالغة فيها

                                                                                        ( قوله : وفيه بحث ) أي فيما قرره بعض الشارحين من الإيراد والجواب والبحث فيه من وجوه ثلاثة الأولان على الإيراد والثالث على الجواب ولا يخفى على المتأمل أن البحث الثالث يدفع البحثين الأولين فبقي الإيراد السابق متوجها ولا ينفعه الجواب بقوله قلنا إنما تفيد هذه الصيغة إلخ لما يرد عليه من البحث الثالث وأقول : لا يخفى عليك ضعف هذه الوجوه الثلاثة أما الأولان فلما علمت ; ولأن المورد سابقا استند إلى أصول أهل العربية وما ذكره الشارح من الوجهين مجرد دعوى لا دليل عليها وقد تقرر بين علماء آداب البحث أن المدعي المدلل لا يمنع إلا مجازا بمعنى طلب الدليل على المقدمة وما هنا ليس كذلك فلا يكون موجها ، وأما الثالث ; فلأن مما هو مقرر أن ما ذكر في السؤال كالمعاد في الجواب والذي في الحديث السؤال عن جواز الوضوء بماء البحر فلو كان المراد بالطهور الواقع في الجواب هو كثير الطهارة ولا تطهير فيه لم يفد شيئا ; لأن حاصل الجواب حينئذ أنه يجوز الوضوء به ; لأنه كثير الطهارة ولا مدخل لكثرة الطهارة في مكان التطهير ; لأن الصفتين فيه سواء كما مر وحاشا من حاز من الفصاحة القدح المعلى أن يريد ذلك فعلم أن المراد المبالغة باعتبار التطهير ، وإذا تعين ذلك حمل ما في الآية على هذا المعنى ، وبه يظهر وجه صحة ما ذكره الشارح أولا من الاستدلال على جواز الطهارة بماء السماء بالحديث المذكور مع أنه وارد في ماء البحر لا ماء السماء فيكون ذكره للاستدلال على أن المراد بالطهور في الآية ما ذكر ولكنه بعيد يحتمل البحث فالأولى ما قدمناه [ ص: 71 ] ( قوله : وقد استدل على جواز الطهارة بماء الثلج والبرد إلخ ) هذا الاستدلال للبحث فيه مجال فليتأمل .




                                                                                        الخدمات العلمية