الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    76 - ( فصل )

                    الطريق الرابع عشر الحكم بشهادة العبد والأمة .

                    في كل ما تقبل فيه شهادة الحر والحرة . هذا الصحيح من مذهب أحمد ، وعنه تقبل في كل شيء ، إلا في الحدود والقصاص ، لاختلاف العلماء في قبول شهادته ، فلا ينتهض سببا لإقامة الحدود التي مبناها على الاحتياط ، والصحيح : الأول .

                    وقد حكي إجماع قديم ، حكاه الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " ما علمت أحدا رد شهادة العبد " وهذا يدل على أن ردها إنما حدث بعد عصر الصحابة ، واشتهر هذا القول لما ذهب إليه مالك والشافعي وأبو حنيفة ، وصار لهم أتباع يفتون ويقضون بأقوالهم ، فصار هذا القول عند الناس هو المعروف ، ولما كان مشهورا بالمدينة في زمن مالك ، قال : " ما علمت أحدا قبل شهادة العبد " وأنس بن مالك يقول ضد ذلك . [ ص: 140 ] وقبول شهادة العبد ، وهو موجب الكتاب والسنة وأقوال الصحابة ، وصريح القياس ، وأصول الشرع ، وليس مع من ردها كتاب ولا سنة ولا إجماع ولا قياس .

                    قال تعالى : { وكذلك جعلناكم أمة وسطا لتكونوا شهداء على الناس ، ويكون الرسول عليكم شهيدا } والوسط : العدل الخيار ، ولا ريب في دخول العبد في هذا الخطاب ، فهو عدل بنص القرآن ، فدخل تحت قوله : { وأشهدوا ذوي عدل منكم } .

                    وقال تعالى : { يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله } ، وهو من الذين آمنوا قطعا ، فيكون من الشهداء كذلك .

                    وقال تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم } ، ولا ريب أن العبد من رجالنا .

                    وقال تعالى : { إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات أولئك هم خير البرية } . فالعبد المؤمن الصالح من خير البرية ، فكيف ترد شهادته ؟ وقد عدله الله ورسوله ، كما في الحديث المعروف المرفوع : { يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله ، ينفون عنه تحريف الغالين ، وانتحال المبطلين ، وتأويل الجاهلين } ، والعبد يكون من حملة العلم ، فهو عدل بنص الكتاب والسنة ، [ ص: 141 ] وأجمع الناس على أنه مقبول الشهادة على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا روي عنه الحديث ، فكيف تقبل شهادته على رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا تقبل شهادته على واحد من الناس ؟

                    ولا يقال : باب الرواية أوسع من باب الشهادة ، فيحتاط لها ، ما لا يحتاط للرواية ، فهذا كلام جرى على ألسن كثير من الناس ، وهو عار عن التحقيق والصواب ، فإن أولى ما ضبط واحتيط له : الشهادة على الرسول صلى الله عليه وسلم والرواية عنه ، فإن الكذب عليه ليس كالكذب على غيره .

                    وإنما ردت الشهادة بالعداوة والقرابة والأنوثة دون الرواية ، لتطرق التهمة إلى شهادة العدو وشهادة الولد ، وخشية عدم ضبط المرأة وحفظها ، وأما العبد : فما يتطرق إليه من ذلك يتطرق إلى الحر سواء ، ولا فرق بينه وبينه في ذلك ألبتة ، فالمعنى الذي قبلت به روايته هو المعنى الذي تقبل به شهادته ، وأما المعنى الذي ردت به شهادة العدو والقرابة والمرأة فليس موجودا في العبد .

                    وأيضا ، فإن المقتضى لقبول شهادة المسلم عدالته ، وغلبة الظن بصدقه ، وعدم تطرق التهمة إليه ، وهذا بعينه موجود في العبد ، فالمقتضى موجود والمانع مفقود ، فإن الرق لا يصلح أن يكون مانعا ، فإنه لا يزيل مقتضى العدالة ، ولا تطرق تهمة ، كيف والعبد الذي يؤدي حق الله وحق سيده له أجران حيث يكون للحر أجر واحد ، وهو أحد الثلاثة الذين هم أول من يدخل الجنة ، ولهذا قبل [ ص: 142 ] شهادته أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم القدوة .

                    قال أبو بكر بن أبي شيبة : حدثنا حفص بن غياث ، عن أشعث ، عن الشعبي .

                    قال : قال شريح " لا نجيز شهادة العبد " ، فقال علي بن أبي طالب : " لكنا نجيزها " فكان شريح بعد ذلك يجيزها إلا لسيده : " وبه ، عن المختار بن فلفل ، قال : سألت أنس بن مالك عن شهادة العبد ؟ فقال : جائزة " .

                    وقال الثوري عن عمار الدهني ، قال : " شهدت شريحا شهد عنده عبد على دار ، فأجاز شهادته ، فقيل : إنه عبد ، فقال شريح : كلنا عبيد وإماء " .

                    وروى أحمد عن ابن سيرين : أنه كان لا يرى بشهادة العبد بأسا إذا كان عدلا .

                    وقال عطاء : شهادة العبد والمرأة جائزة في النكاح والطلاق .

                    وقال الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا حماد بن سلمة .

                    قال : سئل إياس بن معاوية عن شهادة العبد ؟ فقال : أنا أرد شهادة عبد العزيز بن صهيب ؟ يعني إنكارا لردها .

                    وذكر الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه أنه قال : " ما علمت أحدا رد شهادة العبد " .

                    وقد اختلف الناس في ذلك ، فردتها طائفة مطلقا ، وهذا قول مالك والشافعي وأبي حنيفة ، وقبلتها طائفة مطلقا حتى لسيده وقبلتها طائفة مطلقا إلا لسيده .

                    قال سفيان الثوري : عن إبراهيم النخعي ، عن الشعبي في العبد قال : " لا تجوز شهادته لسيده ، وتجوز لغيره " وهذا مذهب الإمام أحمد .

                    وأجازتها طائفة في الشيء اليسير دون الكثير ، وهذا قول إبراهيم النخعي ، وإحدى الروايتين عن شريح والشعبي .

                    والذين ردوها بكل حال منهم من قاس العبد على الكافر ، لأنه منقوص بالرق ، وذلك بالكفر ، وهذا من أفسد القياس في العالم ، وفساده معلوم بالضرورة من الدين ، ومنهم من احتج بقوله تعالى { ضرب الله مثلا عبدا مملوكا لا يقدر على شيء } والشهادة شيء ، فهو غير قادر عليها .

                    قال أبو محمد بن حزم في جواب ذلك : تحريف كلام الله عن مواضعه يهلك في الدنيا والآخرة ،

                    ولم يقل الله تعالى : إن كل عبد لا يقدر على شيء ، إنما ضرب الله تعالى المثل بعبد من عبيده هذه صفته ، وقد توجد هذه الصفة في كثير من الأحرار ، وبالمشاهدة نعرف كثيرا من العبيد أقدر على الأشياء من كثير من الأحرار .

                    ونقول لهم : هل يلزم العبيد الصلاة والصيام والطهارة ، ويحرم عليهم من المآكل والمشارب والفروج [ ص: 143 ] ما يحرم على الأحرار ، أم لا يلزمهم ذلك ؟ لكونهم لا يقدرون عندكم على شيء ألبتة ، قال : ومن نسب هذا إلى الله فقد كذب عليه جهارا .

                    واحتج بعضهم بقوله تعالى : { ولا يأب الشهداء إذا ما دعوا } فنهى الشهداء عن التخلف والإباء ، ومنافع العبد لسيده ، فله أن يتخلف ويأبى إلا خدمته ، وهذا لا يدل إلا على عدم قبولها ، إلا إذا أذن له سيده في تحملها وأدائها إذا لم يكن في ذلك تعطيل لخدمة السيد .

                    فأبعد النجعة من فهم رد شهادة العبيد العدول بذلك ، فإن كان هذا مقتضى الآية كان مقتضى ذلك أيضا رد روايتهم واحتج بعضهم بقوله تعالى : { والذين هم بشهاداتهم قائمون } .

                    والعبد ليس من أهل القيام على غيره ، وهذا من جنس احتجاج بعضهم أن الشهادة ولاية ، والعبد ليس من أهل الولاية على غيره ، وهذا في غاية الضعف .

                    فإنه يقال لهم : ما تعنون بالولاية ؟ أتريدون بها الشهادة ، وكونه مقبول القول على المشهود عليه ، أم كونه حاكما عليه منفذا فيه الحكم ؟ فإن أردتم الأول كان التقدير : إن الشهادة شهادة والعبد ليس من أهل الشهادة ، وهذا حاصل دليلكم ، وإن أردتم الثاني فمعلوم البطلان قطعا ، والشهادة لا تستلزمه .

                    واحتج بعضهم بأن الرق أثر من آثار الكفر ، فمنع قبول الشهادة كالفسق ، وهذا في غاية البطلان ، فإن هذا لو صح لمنع قبول روايته ، وفتواه ، والصلاة خلفه وحصول الأجرين له .

                    واحتج بأنه يستغرق الزمان بخدمة سيده ، فليس له وقت يملك فيه أداء الشهادة ، ولا يملك عليه .

                    وهذا أضعف مما قبله ، لأنه ينتقض بقبول روايته وفتواه ، وينتقض بالحرة المزوجة ، وينتقض بما لو أذن له سيده ، وينتقض بالأجير الذي استغرقت ساعات يومه وليلته بعقد الإجارة ، ويبطل بأن أداء الشهادة لا يبطل حق السيد من خدمته .

                    واحتج بأن العبد سلعة من السلع ، فكيف تشهد السلع ؟ وهذا في غاية الغثاثة والسماجة ، فإنه تقبل شهادة هذه السلعة ، كما تقبل روايتها وفتواها ، وتصح إمامتها ، وتلزمها الصلاة والصوم والطهارة .

                    واحتج بأنه دنيء ، والشهادة منصب علي ، فليس هو من أهلها .

                    وهذا من ذلك الطراز ، فإنه إن أريد بدناءته ما يقدح في دينه وعدالته ، فليس كلامنا فيمن هو كذلك ، ونافع وعكرمة أجل وأشرف من أكثر الأحرار عند الله وعند الناس ، وإن أريد بدناءته أنه [ ص: 144 ] مبتلى برق الغير فهذه البلوى لا تمنع قبول الشهادة ، بل هي مما يرفع الله بها درجة العبد ، ويضاعف له بها الأجر .

                    فهذه الحجج كما تراها من الضعف والوهن ، وإذا قابلت بينها وبين حجج القائلين بشهادته لم يخف عليك الصواب ، والله أعلم .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية