الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 244 ] ( الشاذ )

161 - وذو الشذوذ ما يخالف الثقه فيه الملا فالشافعي حققه      162 - والحاكم الخلاف فيه ما اشترط
وللخليلي مفرد الراوي فقط      163 - ورد ما قالا بفرد الثقه
كالنهي عن بيع الولا والهبه      164 - وقول مسلم روى الزهري
تسعين فردا كلها قوي      165 - واختار فيما لم يخالف أن من
يقرب من ضبط ففرده حسن      166 - أو بلغ الضبط فصحح أو بعد
عنه فمما شذ فاطرحه ورد

.

لما كان تعارض الوصل والإرسال مفتقرا لبيان الحكم فيما يقابل الراجح منهما ، ناسب بعد التدليس المقدم مناسبته ذكر الشاذ ثم المنكر .

[ معنى الشاذ لغة واصطلاحا والخلاف فيه ] والشاذ لغة : المنفرد عن الجمهور ، يقال : شذ يشذ بضم الشين المعجمة وكسرها شذوذا إذا انفرد ، ( وذو الشذوذ ) يعني الشاذ .

اصطلاحا : ( ما يخالف ) الراوي ( الثقة فيه ) بالزيادة أو النقص في السند أو في المتن ( الملا ) بالهمز وسهل تخفيفا ، أي الجماعة الثقات من الناس ; بحيث لا يمكن الجمع بينهما .

( فالشافعي ) بهذا التعريف ( حققه ) ، وكذا حكاه أبو يعلى الخليلي عن جماعة من أهل الحجاز وغيره عن المحققين ; لأن العدد الكثير أولى بالحفظ من الواحد ، وهو مشعر بأن مخالفته للواحد الأحفظ كافية في الشذوذ ، وفي كلام ابن الصلاح ما يشير إليه ; حيث قال : ( فإن كان مخالفا لما رواه من هو أولى منه بالحفظ لذلك وأضبط ، كان ما انفرد به شاذا مردودا ) .

[ ص: 245 ] ولذا قال شيخنا : ( فإن خولف - أي : الراوي - بأرجح منه لمزيد ضبط أو كثرة عدد أو غير ذلك من وجوه الترجيحات - فالراجح يقال له : المحفوظ ، ومقابله وهو المرجوح ، يقال له : الشاذ ) .

ومن هنا يتبين أنه لا يحكم في تعارض الوصل والرفع مع الإرسال والوقف بشيء معين ، بل إن كان من أرسل أو وقف من الثقات أرجح قدم ، وكذا بالعكس .

مثال الشذوذ في السند : ما رواه الترمذي ، والنسائي ، وابن ماجه من طريق ابن عيينة ، عن عمرو بن دينار ، عن عوسجة ، عن ابن عباس أن رجلا توفي على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يدع وارثا إلا مولى هو أعتقه . . . . الحديث .

فإن حماد بن زيد رواه عن عمرو مرسلا بدون ابن عباس ، لكن قد تابع ابن عيينة على وصله ابن جريج وغيره ، ولذا قال أبو حاتم : المحفوظ حديث ابن عيينة هذا ، مع كون حماد من أهل العدالة والضبط ، ولكنه رجح رواية من هم أكثر عددا منه .

ومثاله في المتن : زيادة يوم عرفة في حديث : أيام التشريق أيام أكل وشرب ، فإن الحديث من جميع طرقه بدونها ، وإنما جاء بها موسى بن علي بن رباح ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر ، كما أشار إليه ابن عبد البر .

قال الأثرم : والأحاديث إذا كثرت كانت أثبت من الواحد الشاذ ، وقد يهم الحافظ أحيانا . على أنه قد صحح حديث موسى هذا ابن خزيمة ، وابن حبان ، [ ص: 246 ] والحاكم ، وقال : إنه على شرط مسلم .

وقال الترمذي : إنه حسن صحيح ، وكأن ذلك لأنها زيادة ثقة غير منافية لإمكان حملها على حاضري عرفة وبما تقرر علم أن الشافعي قيد التفرد بقيدين : الثقة ، والمخالفة .

( والحاكم ) صاحب المستدرك والمعرفة ( الخلاف ) للغير ( فيه ) أي : في الشاذ ( ما اشترط ) بل هو عنده ما انفرد به ثقة من الثقات ، وليس له أصل بمتابع لذلك الثقة ، فاقتصر على قيد الثقة وحده ، وبين ما يؤخذ منه أنه يغاير المعلل ; من حيث إن ذاك وقف على علته الدالة على جهة الوهم فيه ، من إدخال حديث في حديث ، أو وصل مرسل ، أو نحو ذلك كما سيأتي .

والشاذ لم يوقف له على علة أي معينة ; وهذا يشعر باشتراك هذا مع ذاك في كونه ينقدح في نفس الناقد أنه غلط ، وقد تقصر عبارته عن إقامة الحجة على دعواه ، وإنه من أغمض الأنواع وأدقها ، ولا يقوم به إلا من رزقه الله الفهم الثاقب ، والحفظ الواسع ، والمعرفة التامة بمراتب الرواة ، والملكة القوية بالأسانيد والمتون . وهو كذلك ، بل الشاذ - كما نسب لشيخنا - أدق من المعلل بكثير .

ثم إن الحاكم لم ينفرد بهذا التعريف ، بل قال النووي في شرح المهذب : " إنه مذهب جماعات من أهل الحديث ، قال : وهذا ضعيف " .

( وللخليلي ) نسبة لجده الأعلى ; لأنه الحافظ أبو يعلى الخليل بن عبد الله بن أحمد بن إبراهيم بن الخليل القزويني ، وهو قول ثالث فيه ( مفرد الراوي فقط ) ثقة كان أو غير ثقة ، خالف أو لم يخالف ، فما انفرد به الثقة يتوقف فيه ولا يحتج به ، ولكن يصلح أن يكون شاهدا ، وما انفرد به غير الثقة فمتروك .

[ ص: 247 ] والحاصل كما قال شيخنا من كلامهم أن الخليلي يسوي بين الشاذ والفرد المطلق ، فيلزم على قوله أن يكون في الشاذ الصحيح وغير الصحيح ، فكلامه أعم ، وأخص منه كلام الحاكم ; لأنه يخرج تفرد غير الثقة ، ويلزم على قوله أن يكون في الصحيح الشاذ وغير الشاذ ، وهو ما لا يكون فردا [ وهو ما لا يكون فردا ] ، بل اعتمد ذلك في صنيعه ; حيث ذكر في أمثلة الشاذ حديثا أخرجه البخاري في صحيحه من الوجه الذي حكم عليه بالشذوذ .

وأخص منه كلام الشافعي لتقييده بالمخالفة ، مع كونه يلزم عليه ما يلزم على قول الحاكم ، لكن الشافعي صرح بأنه مرجوح ، وأن الرواية الراجحة أولى ، وهل يلزم من ذلك عدم الحكم عليه بالصحة ؟ محل توقف ، أشير إليه في الكلام على الصحيح ، وإنه يقدح في الاحتجاج لا في التسمية ، ويستأنس لذلك بالمثال الذي أورده الحاكم مع كونه في الصحيح ، فإنه موافق على صحته ، إلا أنه يسميه شاذا ، ولا مشاحة في التسمية .

[ الرد على الحاكم والخليلي ] ( و ) لكن ( رد ) ابن الصلاح ( ما قالا ) أي : الحاكم والخليلي ( بفرد الثقة ) المخرج في كتب الصحيح المشترط فيه نفي الشذوذ ، لكون العدد غير شرط فيه على المعتمد ، بل الصحة تجامع الغرابة .

وأمثلة ذلك فيها كثيرة ; ( كـ ) حديث ( النهي عن بيع الولا ) بالقصر للضرورة ( والهبة ) ; فإنه لم يصح إلا من رواية عبد الله بن دينار ، عن ابن عمر ، حتى قال مسلم عقبه : الناس كلهم في هذا الحديث عيال عليه ، وحديث ابن عيينة المخرج في الصحيحين عن عمرو بن دينار ، عن أبي العباس الشاعر ، عن عبد الله بن [ ص: 248 ] عمر في حصار الطائف تفرد به ابن عيينة [ المخرج في الصحيحين ] عن عمرو ، وعمرو عن أبي العباس ، وأبو العباس عن ابن عمر .

( و ) كذا رده بـ ( قول مسلم ) هو ابن الحجاج في الأيمان والنذور من ( صحيحه ) ( روى الزهري ) نحو ( تسعين ) بتقديم المثناة ( فردا ) لا يشاركه أحد في روايتها ( كلها ) إسنادها ( قوي ) هذا مع إمكان الجواب عن الحاكم بما أشعر به اقتصاره على جهة واحدة في المغايرة بينه وبين المعلل ; من كون الشاذ أيضا ينقدح في نفس الناقد أنه غلط ; حيث يقال : ما في الصحيح من الأفراد منتف عنه ذلك .

وأما الخليلي فليس في كلامه ما ينافي ذلك أيضا ، لا سيما وليس هو ممن يشترط العدد في الصحيح .

[ القول المختار في هذه المسألة ] ( و ) بعد أن رد ابن الصلاح كلامهما ( اختار ) مما استخرجه من صنيع الأئمة ( فيما لم يخالف ) الثقة فيه غيره ، وإنما أتى بشيء انفرد به ( أن من يقرب من ضبط ) تام ( ففرده حسن ) .

ومنه حديث إسرائيل عن يوسف بن أبي بردة عن أبيه عن عائشة ، قالت : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا خرج من الخلاء ، قال : غفرانك ، فقد قال الترمذي عقب تخريجه : حسن غريب ، لا نعرفه إلا من حديث إسرائيل عن يوسف عن أبي بردة .

قال : ولا نعرف في هذا الباب إلا حديث عائشة ( أو بلغ الضبط ) التام ( فصحح ) فرده ، وقد تقدم مثاله ، ( أو بعد ) عنه بأن لم يكن ضابطا أصلا ( فـ ) فرده ( مما شذ فاطرحه ورد ) ما وقع لك منه ، وأمثلته كثيرة .

وحينئذ فالشاذ المردود - كما قاله ابن الصلاح - قسمان : أحدهما : الحديث الفرد المخالف ، وهو الذي عرفه الشافعي .

وثانيهما : الفرد الذي ليس في راويه [ ص: 249 ] من الثقة والضبط ما يقع جابرا لما يوجب التفرد والشذوذ من النكارة والضعف . انتهى .

وتسمية ما انفرد به غير الثقة شاذا كتسمية ما كان في رواته ضعيف أو سيئ الحفظ ، أو غير ذلك من الأمور الظاهرة معللا ، وذلك فيهما مناف لغموضهما ، فالأليق في حد الشاذ ما عرفه به الشافعي ، ولذا اقتصر شيخنا في شرح النخبة عليه ، كما أن الأليق في الحسن ما اقتصر عليه الترمذي .

التالي السابق


الخدمات العلمية