الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
مثل صاحب الأخلاق

مثل صاحب الأخلاق مثل ملك له خزانة وقواد ومملكة فإن كانت الخزانة قليلة كنوزها وكورته صغيرة ضاق به هؤلاء القواد وقال بعضهم لبعض هذا ملك له اسم الخزانة والكنوز وليس لكنوزه مادة يجري علينا ويغنينا حتى نتخذ عدة للعدو الذي هو بمرصد منا ومن ملكنا هذا وليست له مملكة فسيحة ننتشر فيها فيأخذ كل قائد منا ناحية من المملكة فيتملك على أهل ناحيته وقوة الملوك في الخزائن الجمة وبالكنوز والجوهر والقواد وحسن التدبير في هذين فيدبر أمره أمورنا بحسن ما عنده من الكياسة فيدر علينا كنوزه وقتا وقتا وشهرا [ ص: 74 ] شهرا ويعد جواهره للنوائب العظام فلا نرى ها هنا عدة ولا فسحة فتعالوا ننتقل عن هذا إلى ملك لمملكته فسحة ومنتشر نتسع في نواحيها ونعمل للقيادة فيعود الجند إلى ملك له كنوز جمة ولكنوزه مادة من غلات المملكة فله كنوز وأمصار وقرى وبر وبحر كملك الهند والروم والعرب ما نصنع بهذا الضعيف العاجز يطلبون ملكا بتلك الصفة ولا يثبتون مع هذا فالملك هو القلب وخزانته في جوف القلب فيه كنوز المعرفة وجواهر العلم بالله والعقل وزيره والصدر فسحته وساحته ومملكته والأخلاق قواده والأركان رعيته وهي الجواهر السبع فهؤلاء القواد قد أحدقوا بالقلب في هذا الصدر وأطافوا بباب القلب بين عيني الفؤاد فإن الفؤاد هو ما ظهر من القلب والقلب ما بطن والقلب بعض في بعض والعين على الفؤاد وذلك قوله تعالى ما كذب الفؤاد ما رأى وقول رسول الله [ ص: 75 ] صلى الله عليه وسلم (أتاكم أهل اليمن ألين قلوبا وأرق أفئدة فوصف القلب باللين والفؤاد بالرقة

فالأخلاق في الصدر قواد الملك قيام بين عيني الفؤاد والعقل شعاعه يشرق بين عيني الفؤاد ويدبر أمر القلب والنفس في الجوف رابضة في مكان مظانها والهوى بباب النفس يتلهب ويتلظى بين يدي بصيرة النفس فإذا خطرت الخاطرة في الصدر بين عيني الفؤاد نظر العقل فإن رآها حسنة وأمرا رشيدا قدر ودبر ماذا يراد وكم يراد ومتى يراد وإلى متى يراد وإن رآها سيئة وغيا نفاها عن الصدر ففي هذا الوقت للنفس منازعة مع القلب وللهوى مع العقل

في هذه الخاطرة النفس تشتهي والهوى يزعج النفس ويشجعها والعدو يزين بمنى ويغري فإذا جاء مدد الأخلاق بطلت زينة العدو وأمانيه وانكشف غروره وارتد الهوى قهقرى إلى معدن مهنته وجاء مدد الكنوز كنوز المعرفة ومد الملك يده إلى جوهر الخزانة فانمحقت الخاطرة وأسبابها [ ص: 76 ] ومعتملها وجنودها وطليعة الخاطرة النفس العدو إذا كانت خاطرة غي وإن كان رشدا كانت طليعته الخاطرة الحق فعز هذا الملك ومنعته وقوام مملكته بهذه الكنوز والقواد وكذلك عز القلب ومنعته بكنوز المعرفة بالله تعالى وجواهر العلم بالله تعالى وبهذه الأخلاق التي أحدقت بالقلب بين عيني الفؤاد أصول الأخلاق

فالأخلاق أصولها في الطبع ومادتها من المعرفة والعلم بالله تعالى ومعتملها في الصدر

فالموحدون هذه صفتهم والكفار أخلاقهم أصولها في الطبع ومعتملها في الصدر ومادتها في الفرح بمدح الناس وطلب العلو والشرف والذكر قال الله تعالى تلك الدار الآخرة نجعلها للذين لا يريدون علوا في الأرض ولا فسادا والعاقبة للمتقين

فالمؤمنون تخلقوا بخلق الله تعالى وتواضعوا به لله تعالى [ ص: 77 ] وأرادوا به وجه الله وتقربوا به إلى الله تعالى وتحببوا به إلى الله

والكفار تخلقوا بذلك الخلق .فتكبروا على الله تعالى فجاوزوا بها الحدود ولم يضعوها مواضعها بحقه وتقربوا إلى الخلق وتحببوا به أهل العلائق وتصنعوا به واتخذوا جاها

والأخلاق لها سلطان فإذا وجد الخلق تفسحا ساح في فسحته فجاوز الحدود في أموره فصار مسرفا مضيعا للحق وقد استمر به الهوى والنفس

والمؤمن يتخلق بذلك الخلق فإذا تفسح الخلق عقله العقل عن المجاوزة ومنعه عن التعدي ولهذا سمي عقلا لأنه عقله عن الجهل ورده إلى العلم الذي علمه الله تعالى وكان الله تعالى أعلم بذلك الأمر كم يراد وإلى متى يراد وبأي مقدار وإلى متى فوكل به العقل حتى يهديه لذلك

ألا ترى إلى قول الله عز وجل حيث سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم كم تنفق من هذا المال الذي حث الله تعالى على إنفاقه [ ص: 78 ] وعظم فيه الثواب فنزلت قول الله تعالى ويسألونك ماذا ينفقون قل العفو

والعفو هو الفضل أي ما فضل من نفسك وعيالك الذين تعولهم

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم (ابدأ بمن تعول وخير الصدقة ما كان عن ظهر غنى

وقال رجل يا رسول الله صلى الله عليه وسلم عندي دينار ما أصنع به قال (أنفقه على نفسك قال عندي آخر قال (أنفقه على عيالك ووالدتك قال عندي آخر قال (أنفقه في سبيل الله تعالى وذلك أدناهن

فمن تخلق بالسخاوة فاستمر به طبعه وأعلنته نفسه وملك به هواه وزين له عدوه وذهب فأنفق على أباعده [ ص: 79 ] وترك أقاربه وعال من لم تلزمه عيالته وضيع عياله فهذا فعل من أراد بذلك الخلق علوا في الأرض وتصنعا عند الخلق

فالعقل يكشف عن هذا الغيب وما هو أدق من هذا

التالي السابق


الخدمات العلمية