الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
معلومات الكتاب

غذاء الألباب في شرح منظومة الآداب

السفاريني - محمد بن أحمد بن سالم السفاريني

صفحة جزء
مطلب : من هجر اللذات نال المنى : فمن هجر اللذات نال المنى ومن أكب على اللذات عض على اليد ( فمن ) أي أي رجل مؤمن أو امرأة مؤمنة ( هجر اللذات ) أي صرمها ولم يلو إليها عنانه ، ولم يشغل بها جنانه ، ولا لطخ بها لسانه ، ولا نافس في اكتسابها ، ولم ينكب على انتهابها . بل رفضها وثنى عنها العنان ، ولها شنى ، ومال عنها وانحنى ( نال ) أي أصاب ( المنى ) أي مناه بمعنى تمنيته يعني ما يتمناه ويطلبه من النعيم المقيم ، في دار الخلد والتكريم ، ومن [ ص: 452 ] تحصيل العلوم والمعارف والأخبار والآثار ، الواردة عن النبي المختار ، والصحابة الأخيار ، والتابعين الأطهار ، والأئمة الأبرار . كل هذا إنما يحصل بهجر اللذات ورفض الشهوات .

( ومن ) أي كل إنسان ( أكب ) أي أقبل ( على اللذات ) المحرمة ، وكذا المباحة المشغلة عن العلوم ينحوها ، وانهمك في الشهوات الملهية عن نيل الكمالات ( عض ) بأسنانه ( على اليد ) تأسفا على ما فرط في أيامه ، وتلهفا على ما تثبط في دهوره وأعوامه ، فهو مأخوذ من قوله تعالى { ويوم يعض الظالم على يديه يقول يا ليتني اتخذت مع الرسول سبيلا . يا ويلتى ليتني لم أتخذ فلانا خليلا } .

واللذات جمع لذة وهي نقيض الألم ، يقال لذه ولذ به لذاذا ولذاذة ، والتذه والتذ به واستلذه وجده لذيذا ، ولذا هو صار لذيذا .

وروى الطبراني بإسناد مقارب عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الزهد في الدنيا يريح القلب والجسد } .

وروى ابن أبي الدنيا عن الضحاك مرسلا قال { أتى النبي صلى الله عليه وسلم رجل فقال يا رسول الله من أزهد الناس ؟ قال من لم ينس القبر والبلى ، وترك أفضل زينة الدنيا ، وآثر ما يبقى على ما يفنى ، ولم يعد غدا في أيامه ، وعد نفسه من الموتى } .

وروى الإمام أحمد بإسناد صحيح وابن حبان في صحيحه والحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم { ما طلعت شمس قط إلا بعث بجنبتيها ملكان يناديان يسمعان أهل الأرض إلا الثقلين : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم فإن ما قل وكفى خير مما كثر وألهى } .

وروى الحاكم وقال صحيح الإسناد عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه { لما حضرته الوفاة قال : يا معشر الأشعريين ليبلغ الشاهد منكم الغائب إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : حلوة الدنيا مرة الآخرة ، ومرة الدنيا حلوة الآخرة } .

وروى الترمذي وصححه وابن حبان في صحيحه عن كعب بن مالك [ ص: 453 ] رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال { : ما ذئبان جائعان أرسلا في غنم بأفسد لها من حرص المرء على المال والشرف لدينه } . ورواه الطبراني وأبو يعلى وإسنادهما جيد من حديث أبي هريرة رضي الله عنه بلفظ { ما ذئبان ضاريان جائعان باتا في زريبة غنم أغفلها أهلها يفترسان ويأكلان بأسرع فيها فسادا من حب المال والشرف في دين المرء المسلم } ورواه البزار بنحوه عن ابن عمر مرفوعا .

وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { الدنيا دار من لا دار له ، ولها يجمع من لا عقل له } ورواه البيهقي وزاد { ومال من لا مال له } وإسنادهما جيد

. وعن زيد بن أسلم قال : استسقى عمر فجيء بماء قد شيب بعسل فقال إنه لطيب لكني أسمع الله عز وجل نعى على قوم شهواتهم فقال : أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها فأخاف أن يكون حسناتنا عجلت لنا فلم يشربه ذكره رزين ، قال الحافظ المنذري : ولم أره .

وقال الحسن : المؤمن في الدنيا كالغريب لا يجزع من ذلها ولا ينافس في عزها الناس منه في راحة ، ونفسه منه في شغل .

واعلم أن الرجل العاقل المراقب لم يقصد بالأكل والشرب التلذذ بل دفع الجوع مما يوافق بدنه ويقويه على الطاعة ، فإن قصد الالتذاذ بشيء من المتناولات أحيانا لم يعب عليه ذلك ، وإنما يعاب عليه الانهماك في ذلك ، ولذا قال الناظم ( أكب على اللذات ) يعني أقبل عليها بكلية ، وهذا ليس من شأن أهل الإيمان ، بل شأنهم الإقبال على الله في جميع شؤونهم .

والأكل والشرب سلم يتوصلون به إلى التقوى على العبادة والطاعة ، فإذا أكلوا أو شربوا أو لبسوا أو نكحوا أو فعلوا من نحو هذه الأشياء شيئا فعلوه بهذه النية ، وإذا تركوا شيئا من ذلك تركوه لله عز وجل ، فيكون فعلهم وتركهم عبادة ، وكذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم كما في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه { كل عمل ابن آدم له الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف . قال الله عز وجل إلا الصيام فإنه لي وأنا أجزي به إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي } .

[ ص: 454 ] فلما كان الصيام مجرد ترك حظوظ النفس وشهواتها الأصلية التي جبلت على الميل إليها لله عز وجل أضافه سبحانه لنفسه ، مع أن الأعمال كلها لله سبحانه ، ولهذا قال : إنه ترك شهوته وطعامه وشرابه من أجلي . قال بعض السلف : طوبى لمن ترك شهوة حاضره لموعد غيب لم يره .

مطلب : التقرب بترك الشهوات وهجر اللذات .

فيه فوائد وفي التقرب بترك الشهوات وهجر اللذات فوائد : منها كسر النفس فإن الانهماك في اللذات من الأكل والشرب ومباشرة النساء تحمل النفس على الأشر والبطر والغفلة ، ومنها تخلي القلب للفكر والذكر ، فإن تناول الشهوات والانهماك في اللذات ، قد يقسي القلب ويعميه ويحول بين العبد وبين الذكر والفكر ويستدعي الغفلة ، وخلو الباطن من الطعام والشراب ينور القلب ويوجب رقته ويزيل قسوته ، ومنها الاشتغال بما هو أهم منها من دراسة العلم والإمعان في تفهمه وتعلمه وتعليمه ، ومنها الإعراض والنزاهة عن اشتغال القلب بما هو صائر إلى النجاسة فكلما أكثر من ذلك كان حمله للنجاسة أكثر ، وغاية الالتذاذ بذلك في مقدار أصبعين أو ثلاثة ثم يستوي طيبه وخبيثه . فمن راقب هذه الحالة ترك الانهماك في اللذات لا محالة .

التالي السابق


الخدمات العلمية