الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 594 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن باع عبدا جانيا ففيه قولان ( أحدهما ) أن البيع صحيح وهو اختيار المزني ; لأنه إن كانت الجناية عمدا فهو عبد تعلق برقبته قتل فصح بيعه كالعبد المرتد ، أو يخشى هلاكه وترجى سلامته ، فجاز بيعه كالمريض . وإن كان خطأ فلأنه عبد تعلق برقبته حق بغير اختياره ، فلا يمنع من بيعه ( والقول الثاني ) أن البيع باطل ; لأنه عبد تعلق برقبته دين آدمي فلا يصح بيعه كالمرهون )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) ذكر المصنف بيع العبد الجاني في التنبيه في باب ما يجوز بيعه وذكره في المهذب في هذا الموضع ، وكذلك المزني والأصحاب ومقصودهم بذلك التفريع الذي عليه ، فإنه مقصود في هذا الباب ، والقولان منصوصان . قال : ولو باع عبده وقد جنى ففيها قولان ( أحدهما ) أن البيع جائز كما يكون العتق جائزا ، وعلى السيد الأقل من قيمته وأرش جنايته ( والثاني ) البيع مفسوخ من قبل أن الجناية في عنقه كالرهن فيرد البيع ويباع ، فيعطى رب الجناية جنايته ، وبهذا أقول ، إلا أن يتطوع السيد بدفع الجناية أو قيمة العبد إن كانت جنايته أكثر ، كما يكون هذا في الرهن قال المزني : كما يكون العتق جائزا ، تجويز منه للعتق وقد سوى في الرهن بين إبطال البيع والعتق ، فإذا جاز العتق في الجناية فالبيع جائز مثله انتهى - والقول بالجواز ورجحه الغزالي ، والقول بالبطلان اختيار الشافعي كما نص عليه في الأم ، هذا كلامه لقوله : وبهذا أقول : وكذلك صححه الجمهور ، واحتجوا للجواز بما ذكره المصنف من إلحاقه إما بالمرتد وإما بالمريض ، وكلاهما يصح بيعه ، هذا إن كانت الجناية عمدا ، وإن كان خطأ فتعلق العتق برقبته بغير إذن السيد ، وبهذا فارق المرهون . واحتج المزني بالعتق وأن الشافعي جوزه أي في العبد الجاني ، فليجز البيع وبأن الشافعي سوى بينهما في البطلان في الرهن فليسو بينهما هنا في الصحة . واحتج أبو حنيفة بأن الأرش في رقبته غير مستقر ; لأن للسيد أن يفتديه وبهذا يفارق الرهن أيضا ، واحتجوا للبطلان بالقياس على [ ص: 595 ] الرهن كما ذكره المصنف بأن الجناية آكد من الرهن ; لأن العبد المرهون إذا جنى بيع في الجناية وبطل الرهن ، فإذا كان الرهن يمنع صحة البيع فالجناية أولى ، وأجاب الأصحاب عن إلزام المزني للشافعي بأن البيع فيه قولان ( فإن قلنا ) البيع جائز فالعتق أولى ( وإن قلنا ) البيع لا يجوز ففي العتق الأقوال الثلاثة التي في المرهون ، فليس العتق متفقا عليه حتى يقاس عليه . ( قلت ) وهذا الجواب فيه نظر ، فإن المزني ما أراد قياس البيع على العتق ابتداء من عند نفسه حتى يرد عليه بالخلاف فيه ، بل لما قاس الشافعي عليه استدل من كلام الشافعي على أنه يجوزه ، فألزمه بتجويز البيع ، والطريق في الجواب على هذا التقرير أن كلام الشافعي يقتضي أن يكون قائل القول الأول يرى العتق جائزا فشبه به البيع . إما بطريق التشبيه ، وإما بطريق القياس عند ذلك القائل ، والشافعي قد قال : إن القول الثاني قوله ، وسكت عن العتق ، فلا يلزمه أنه هو جازم أو مرجح لجواز العتق حتى يلزم به ، ولعل هذا مراد الأصحاب بجوابه . وأما قول المزني : إن الشافعي سوى بين البيع والعتق في الرهن في الإبطال فليسو بينهما هنا يعني وقد قال بصحة العتق فليقل بصحة البيع لتحصل التسوية وأجاب الأصحاب بجوابين ( أحدهما ) أن الشافعي لم يسو بينهما في الرهن ، بل خالف بينهما ; لأن البيع في المرهون يبطل قولا واحدا ، وفي عتقه ثلاثة أقوال هكذا ، بحيث يختلف هذا الجواب . ( الثاني ) أن هذا الاستدلال بالعكس ، ولا يلزم الجواب عنه ، هكذا قال الشيخ أبو حامد ، وفيه نظر ; لأن قياس العكس على هذه الصورة صحيح ; لأنه لو لم يصح بيع الجاني لما صح عتقه كالرهن ، فإنا نقيس الجاني على المرهون في التسوية بينهما ، ثم التسوية بينهما إما في المنع ولم نقل به لتجويزه العتق فليكن في الجواز وأجاب هذا أنا نمنع أنه لم يقل به ; لما تقدم أنه ليس في كلام الشافعي تصريح على القول الثاني بجواز العتق قال الأصحاب : ولا يلزم من جواز العتق [ ص: 596 ] جواز البيع ; لأن الآبق والمغصوب والمجهول والمبيع قبل القبض يجوز عتقهم ، ولا يجوز بيعهم . قال الماوردي : إن قياس العكس قال به أكثر الفقهاء ، وإن خالفهم أكثر المتكلمين ( قلت ) ومن المانعين من الاحتجاج بقياس العكس أبو حامد الإسفراييني كذلك نقل عنه أبو الوليد الباجي في الأصول ، فلذلك منع هنا على طريقته ، وفرق القاضي حسين بينه وبين المرتد ، بأن المرتد مملوك منتفع به ارتكب كبيرة واستحق بها عقوبة الله تعالى ، فلم يزل بها ملك المالك عنه ، ولا تدفع المزاحمة فيما يحدث بالشراء ، وهو الملك لكونه مملوكا لمالكه ، يعني والمستحق في الجناية وقعت فيه مزاحمة وحق المجني عليه ، وهذا المعنى فارق بينه وبين المريض أيضا ، وفي كلام بعضهم طريقة قاطعة بالبطلان ; لقول الشافعي : وبهذا أقول ، وجعل القول بالجواز مخرجا ومسندا لتخريج إلزام المزني ; لما فهم عن الشافعي القطع بالبطلان ، وحكى صاحب التتمة أن بعض أصحابنا خرج قولا ثالثا أن العقد موقوف ، فإن قدر نفذ ، وإن لم يقدر بطل كالمفلس إذا باع بعض أعيان أمواله وقد تعرض الشيخ أبو حامد لهذا ، وأنه اشتبه على بعض أصحابنا حتى خرج هذا القول وليس بشيء والاشتباه من قول الشافعي : يرد البيع إلى قوله : إلا أن يتطوع السيد ، وتأويل ذلك أنه يرد المبيع وهو العبد . وقوله " يتطوع السيد " يعني بدفع الأرش أو القيمة ، فلا يباع العبد ، وليس معناه أنه إلا أن يتطوع فيصح البيع ، هكذا ذكره الشيخ أبو حامد والقاضي حسين حكى ما نقله صاحب التتمة قولا مطلقا من غير نسبة إلى تخريج ، قال : فإذا بيع ، وقلنا : موقوف ، فإن أدى الأرش صح بيعه ولزم ، وإلا بيع إن استغرقه الأرش ، وإن لم يستغرقه بيع بقدر الأرش وثبت الخيار للمشتري في الباقي ، فإن أجاز فبحصته من الثمن ، وقد نقل ابن داود قول المصنف هذا ، وبين أنه في جناية الخطأ يسير إلى أنه لا يجري فيه جناية العمد ، قال : ومنهم من أنكره . [ ص: 597 ] قال المصنف رحمه الله تعالى وفي موضع القولين ثلاث طرق ( أحدها ) أن القولين في العمد والخطأ ، لأن القصاص حق آدمي فهو كالمال ، ولأنه يسقط إلى مال بالعفو فكان كالمال ، ( والثاني ) أن القولين في جناية لا توجب القصاص . فأما فيما يوجب القصاص فلا تمنع البيع قولا واحدا ; لأنه كالمرتد ، والثالث أن القولين فيما يوجب القصاص فأما فيما يوجب المال فلا يجوز قولا واحدا ; لأنه كالمرهون . ( الشرح ) الطرق الثلاث حكاها الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب ، وقال الشيخ أبو حامد : إن الطريق الثاني هو مذهب الشافعي ; لأنه قال فيها قولان ( أحدهما ) البيع جائز ، وعلى السيد الأقل من قيمته وأرش الجناية ، وألزم السيد المال ، ولو كان ذلك في الجناية الموجبة للقصاص لقال : والولي بالخيار ، ثم قال : والقول الثاني أن البيع مفسوخ ويباع ويعطى رب الجناية جنايته إلا أن يتطوع السيد بدفع الجناية ، وكل ذلك يكون في الجناية الموجبة للمال . ( قلت ) وهذا استدلال جيد على ضعف الطريقة الثالثة ، وأما الطريقة الأولى فلا يبقى في كلام الشافعي دلالة عليها ، لأنه لم يتعرض للعمد . يبقى ولا إثبات ، فإجراء الخلاف فيه إنما يكون بالتخريج إن صح القياس أو بنقل آخر ، أما هذا فلا ، ولا جرم كانت هذه الطريقة الثانية هي الصحيحة ، وإن الخلاف مقصور على حالة إيجابها المال فقط وممن صححه الرافعي ، وقال ابن أبي عصرون : إن الطريقة الثالثة أصح الطرق وهو بعيد لما تقدم ، والطريقة الأولى في الرافعي ما يقتضي نسبتها لابن خيران ومن القائلين بها من بنى القولين في العمد على أنه موجب ماذا ؟ إن قلنا : القود المحض صح بيعه كالمرتد ، وإن قلنا أحد الأمرين فهو كبيع المرهون . وكلام الروياني يدل على اختيارها ، فإنه قال : إن الأصح بطلان البيع عمدا أو خطأ ومن القائلين بالبناء المذكور ابن أبي هريرة ، ومن الأصحاب من قال : ولو جعلنا موجب العمد أحد الأمرين فحكمه هنا كما إذا جعلنا [ ص: 598 ] موجبه القصاص لا غير ; لأنا على هذا القول لا نثبتها بشاهد ويمين ، وشاهد وامرأتين . حكاه القاضي حسين مطلقا ، وعزاه ابن داود لصاحب التقريب وأنه قال بجواز البيع في الجاني عمدا على القولين ، وهذا في الحقيقة اختيار للطريقة الثانية . وهذا كله حيث لا عفو ، فإن عفا عن القصاص على مال ثم عرض البيع كان حكمه كالخطأ يجري فيه طريقان خاصة ، إما جريان القولين ، وإما القطع بالمنع وحكم شبه العمد والعمد الذي لا قصاص فيه في ذلك حكم الخطأ كذلك إذا أتلف العبد مالا . واعلم أنه قد تقدم ما يقتضي الفرق بين الجاني والمرتد من كلام القاضي حسين ، والفرق بينه وبين المرهون من جهة أن الراهن حجر على نفسه ، والفرقان يقتضيان وجهين ( الطريقة الأولى ) إلا أن يلغى الفرق بينه وبين المرتد وأما المرهون فالفرق ظاهر . قال الشيخ أبو حامد : كل حق تعلق بعين مال لإنسان باختياره يمنع البيع قولا واحدا كالرهن ، وكل حق تعلق بعين مال لإنسان من غير اختياره فهل يمنع البيع أم لا ؟ على قولين كما ذكرنا ههنا . وكما قلنا في المال إذا وجبت فيه الزكاة فباع رب المال قبل إخراج الزكاة بعد وجوب الحق فيه من غير اختياره ، كان على قولين . يعني إذا قلنا : إنها تتعلق بالمال تعلق رهن أو تعلق جناية بعينه ، محل هذا الخلاف والطرق إذا كانت الجناية متعلقة برقبته كما تقدم ، وباعه قبل الفداء وهو موسر . فلو كانت موجبة المال في ذمته لم يمنع بيعه بحال ، وإن تعلقت برقبته وباعه وهو معسر بطل . ومنهم من طرد الخلاف فيه ، وحكم بأن الخيار للمجني عليه إن صححنا ، وإن باعه وهو موسر فإن كان بعد الفداء صح ، وإن كان قبله وقبل اختياره فهو محل الخلاف ، وإن كان قبل الفداء ولكن بعد اختيار الفداء فإطلاق صاحب التهذيب يقتضي الصحة ، وإطلاق الماوردي يقتضي طرد الخلاف ، وهو الأقيس ; لأن اختيار الفداء ليس بالتزام ، فله الرجوع عنه ولا يلزمه به شيء ، بل لو صرح بالتزام الفداء لم يلزمه على أصح [ ص: 599 ] الوجهين في الوسيط في آخر العاقلة قبيل القسم الرابع في دية الجنين ، بل لو قلنا باللزوم فغاية ذلك أنه ضمان ، فلم ينقطع التعلق بالرقبة به حتى يصح بيعها ، ولو باع العبد الجاني بإذن ولي المجني عليه فلا إشكال في الصحة . قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإذا قلنا : إن البيع صحيح في قتل العمد فقتل العبد في يد المشتري ففيه وجهان قال أبو العباس وأبو علي بن أبي هريرة : إن علم المشتري بالجناية في حال العقد لم يرجع عليه بالأرش ، وإن لم يعلم رجع بأرش العيب ; لأن تعلق القتل برقبته كالعيب لأنه ترجى سلامته ويخشى هلاكه ، فهو كالمريض ، وإذا اشترى المريض ومات وكان قد علم بمرضه لم يرجع بالأرش وإن لم يعلم رجع . فكذلك ههنا ، فعلى هذا إذا لم يعلم بحاله وقتل قوم وهو جان ، وقوم غير جان فيرجع بما بينهما من الثمن . وقال أبو إسحاق : وحدود القتل بمنزلة الاستحقاق وهو المنصوص ، فإذا قتل انفسخ البيع ورجع بالثمن على البائع بالجناية حال العقد أو لم يعلم ، لأنه أزيلت يده عن الرقبة بسبب كان في يد البائع فأشبه ما إذا استحق ، ويخالف المريض ، فإنه لم يمت بالمرض الذي كان في يد البائع ، وإنما مات بزيادة مرض حدث في يد المشتري ، فلم يرجع بجميع الثمن ) . ( الشرح ) بدأ المصنف بالتفريع الذي هو المقصود ، فوضع المسألة في هذا الباب واقتصر على التفريع على القول بصحة البيع لذلك ، فإن التفريع على البطلان لا تعلق له يختص بهذا الباب ، وقد قال الأصحاب : إنا إن أبطلنا بيع العبد الجاني رده واسترجع الثمن ، وتبقى الحكومة بين السيد والمجني عليه ، فإن كانت الجناية توجب القصاص واقتص الولي فذاك ، وإن عفا على مال أو كانت توجب مالا فالسيد على خيرته إن شاء فداه من ماله ، فإن سلمه فإن بيع بقدر الجناية فذاك ، وإن بيع بأقل فلا يلزم السيد غيره ، وإن بيع بأكثر فالفاضل يدفع إلى السيد البائع ، وإذا أفدى فالأظهر أنه يفديه بأقل الأمرين من الأرش وقيمة العبد . [ ص: 600 ] والثاني ) يتعين الأرش وإن كثر ، إلا أن يسلم العبد ليباع فإنه قد يرغب فيه راغب بأكثر ، وإن قلنا بصحة البيع ، فإن كانت الجناية توجب المال فظاهر مذهب الشافعي أن السيد ملتزم للفداء ببيعه ، مع العلم بجنايته ، فيجبر على تسليم الفداء كما لو أعتقه أو قتله ، وقيل : هو على خيرته إن فدى أمضى البيع وإلا فسخ قال هذا القائل : وهذا ; لأن ذلك ليس بأكثر من أن يختار الفداء ولو اختار أن يفديه ثم قبل أن يخرج أرش الجناية رجع عن ذلك كان له . هكذا قال الشيخ أبو حامد . ويقتضيه كلام أبي الطيب في النقل عن صاحب هذا الوجه ، وشبهه أبو الطيب بما إذا قال الراهن : أنا أقضي الدين من غير الرهن أو من قيمة الرهن ، لا يجب عليه الوفاء بذلك ، وهذا النقل نستفيد منه ، وبه يضعف ما اقتضاه إطلاق التهذيب فيما تقدم من جواز البيع عند اختيار الفداء . ولا يضعف به جعل البيع التزاما للفداء ; لأن المأخذ في ذلك الحيلولة كالعتق والقتل ، فلا يلزم من كون صريح الالتزام غير ملزم أن لا يكون هذا ملزما ، فإن قلنا بالأول فطريقان ( أحدهما ) يفديه ههنا بأقل الأمرين قولا واحدا ، هكذا قال الشيخ أبو حامد وأبو الطيب ، وعزاها ابن داود إلى النص ( والثانية ) ذكرها ابن داود وابن أبي هريرة ، ويقتضيها كلام الماوردي جريان القولين ووجه الطريقة الأولى أنه لا يقدر على تسليمه للبيع ، ولذلك إذا قبله يفديه بأقل الأمرين خاصة . ومنهم من أجرى فيه الخلاف ، فإن تعذر تحصيل الفداء أو تأخر لإفلاسه أو غيبته أو صبره على الحبس فسخ البيع وبيع في الجناية ; لأن حق المجني عليه سبق حق المشتري . وإن قلنا بالثاني وهو أنه لا يلزمه بالبيع الفداء . وهو قول أبي إسحاق المروزي فهو بالخيار بين الفداء وتسليمه المبيع . وفي الفداء ههنا القولان ; لأنه قادر على تسليمه . وإن كانت الجناية موجبة خيار القصاص ، فإن عفا الولي فالحكم على ما تقدم ، وإن طلب المكان بعده ، وهي مسألة الكتاب ، والمقصود في هذا الباب وهو تفريع على الصحيح أن الجناية الموجبة للقصاص لا تمنع من البيع ، فإذا قتل في يد المشتري بالجناية السابقة ، فأحد الوجهين أن ذلك بمنزلة العيب ، فإن كان قد علم [ ص: 601 ] به قبل الشراء أو بعده ، ولم يفسخ حتى قتل فلا شيء له . وإن لم يعلم رجع بأرش العيب وهو ما بين قيمته جانيا وغير جان منسوبا من الثمن ، ويعبر عن ذلك بأنه من ضمان المشتري ، وهذا نسبه الجمهور إلى ابن سريج وابن أبي هريرة ، كما نسبه المصنف ، بل أكثرهم ينسبه لابن سريج ولا يذكر غيره ، ونسبه الماوردي لابن أبي هريرة خاصة ، ولم ينسب لابن سريج في هذه المسألة شيئا ونسب إليه في مسألة القطع بالسرقة السابقة أنه من ضمان البائع كما يقوله في القول الثاني وهو غريب ، وقد تقدم ذلك عنه ولا فرق بين المسألتين في هذا المعنى . وقد تقدم أن ابن بشرى نقل ما يوافق قول ابن أبي هريرة عن نصه في الإملاء وبهذا القول قال أبو يوسف ومحمد ، ومال الماوردي إليه في القطع بالسرقة ، والثاني وهو قول أبي إسحاق وابن الحداد وهو مذهب الشافعي على ما قاله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب وغيرهما ، وهو نصه كما ذكره المصنف ، ولفظه في آخر باب الفتيا من الجزء الثامن من الأم قال الشافعي : من باع رجلا غنما قد حال عليها الحول ، أو بقرا أو إبلا فأخذت الصدقة منها فللمشتري الخيار في رد البيع ; لأنه لم يسلم له ما اشترى كاملا وأخذ ما بقي بحصته من الثمن ، ولكن من باعه إبلا دون خمسة وعشرين فالبيع جائز ، وعلى البائع صدقة الإبل التي حال عليها الحول في يده ، ولا صدقة على المشتري فيها . قال : ومثل هذا الرجل يبيع العبد وقد حل دمه عنده بردة أو قتل عمد أو قطع يده في سرقة ، فإذا قتل ينفسخ البيع ويرجع بما أخذ منه . وإذا قطع فله الخيار في فسخ البيع وإمساكه ; لأن العيوب في الأبدان مخالفة نقص العدد . ا هـ . وقد وجهوا هذا القول بأن السبب كان في يد البائع وأحيل الهلاك عليه ، وإن وجد في يد غيره كما لو أحبل المشتري الجارية المبيعة بيعا فاسدا وردها إلى بائعها وماتت من الطلق . وبهذا القول قال أبو حنيفة ويعبر عن هذا القول بأنه من ضمان البائع ، ويعبر عنه أيضا [ ص: 602 ] بأنه كالاستحقاق ، أي جعل التلف في يد المشتري بالسبب السابق كظهور الاستحقاق في المبيع بسبب سابق وهذا الشبه يوهم أنه تبين بطلان البيع ، ولم يريدوا ذلك بل ينفسخ بالتلف ووقع الشبه في الحكم بالبطلان من حيث الجملة ، وقد تقدم أن الماوردي نقل ما يوافق هذا القول عن ابن سريج في مسألة القطع . وذلك خلاف المشهور وأما تمسك القائلين بالوجه الأول بمسألة المرض وهي فيما إذا اشترى عبدا مريضا وتمادى المرض إلى أن مات في يد المشتري طريقان ( أحدهما ) أنه على الخلاف ويحكى هذا عن الحليمي وغيره ، وسيأتي عن القاضي أبي الطيب ما يقتضيه ، فعلى هذا يسقط الاحتجاج بها ( وأشهرهما ) القطع بأنه من ضمان المشتري ، وعلى هذا الفرق ظاهر ; لأن المرض يزداد شيئا فشيئا إلى الموت ، فليس الموت بالمرض السابق على البيع بل بما تجدد بخلاف الجناية فإنها سبب كامل للقصاص ، وهذا معنى الفرق الذي ذكره المصنف ، ويكتفى في ذلك بمجرد الاحتمال فإنه يمنع من إلحاقه بالمرض القديم ، فكيف والظاهر حدوث سبب جديد ، والأصل صحة العقد ولزومه ، ونظير ذلك إذا اشترى جارية حاملا ولم يعلم بحملها فماتت من الطلق يرجع بأرش العيب ; لأنها ماتت من أوجاع الطلق ، وهي حادثة في يد المشتري كالمريض إذا مات ، قاله القاضي أبو الطيب ، وحكم الجراحة السارية حكم المرض ، ذكره في التهذيب وجعلها على الوجهين . وبين أن ذلك في المرض المخوف . أما غير المخوف كالصداع والحمى فيرجع بالأرش إذا ازداد في يده ومات ، وكذلك ذكره القاضي حسين وحكم القولنج حكم المرض المخوف على ما ذكره القاضي حسين والبغوي حينئذ موافقين للحليمي وهذا كله إذا لم يعلم المشتري بالجناية حتى قتل في يده ، فلو علم قبل العقد أو بعده ولم يفسخ فقد صرح المصنف بأن الحكم كذلك ، قال الرافعي : ويحكى عن أبي إسحاق واختيار أبي حامد ( قلت ) وهو الشيخ أبو حامد الإسفراييني وتبعه المصنف أما القاضي أبو الطيب فإنه نسب ذلك إلى بعض أصحابنا . وقال : إنه غلط ، وإن مذهب الشافعي لا يختلف أنه بمنزلة العيب . [ ص: 603 ] ونقل عن نص الشافعي في كتاب الرهن أنه بمنزلة العيب الذي قد رضي به . ولا شيء له . قال الرافعي : إنه الأصح عند الجمهور . وهو قول ابن الحداد : إنه لا يرجع بشيء ; لدخوله في العقد على بصيرة وإمساكه مع العلم بحاله كما قال القاضي أبو الطيب قال : وليس هو كطهور الاستحقاق من كل وجه . ولو كان كذلك ما صح بيعه أصلا وممن اختار هذا ابن الصباغ وابن أبي عصرون ، وتحصل من ذلك أنه عند الجهل ينزل منزلة الاستحقاق ، وعند العلم ينزل منزلة العيب ، فإذا رضي به سقط أثره ، وهو أقوى في المعنى ، وفي الحقيقة هو عيب في الحالين ، ولكن في حالة العلم سقط أثره ، وفي حالة الجهل القتل من أثره ، فلذلك نزل منزلة الاستحقاق ; لكونه لم يرض به . غير أن النص الذي تمسك به أبو الطيب من كتاب الرهن إن كان هو الذي نقلته فيما تقدم عند طرءان العيب قبل القبض ، وهو قول الشافعي : إنه عيب دلس به ، فهذا لا دليل فيه ; لأن الشافعي تكلم في حالة القصاص ، وإنما ذلك إذا طلع عليه قبل القصاص ، قال : له أن يرد ; لأنه عيب وهذا لا نزاع فيه ، إنما النزاع في كونه إذا لم يرد حتى قتل هل ينفسخ أو لا ؟ .



                                      ( فرع ) أما ثبوت الخيار للمشتري إذا صححنا البيع ولم يحصل القصاص فإن كان بعد الفداء فقد سبق حكمه في العيوب والتفصيل في العمد بين أن يتوب أو لا وفي الخطأ بين أن يكثر أو لا ، وادعى ابن الرفعة أن نص الشافعي في البويطي في كتاب الغصب يدل على أنها - وإن كثرت - لا يثبت الخيار إذا كان خطأ ، وفيه نظر ، وقد تأملت في كتاب الغصب في البويطي ، وفيه ما يحتمل ذلك بالمفهوم لا بالمنطوق ، وليس بقوي التمسك به .

                                      وقال ابن الرفعة : إنه بين التمسك به في كتاب الغصب ، أما إذا كانت قبل الفداء ، قال ابن الرفعة : شبه أن يثبت الخيار سواء أقلنا : يلزم السيد فداؤه أم لا وهو كما قال ، وهذا حيث يقول : إن مجرد الجناية لا يكون عيبا أما عند التوبة أوعدم التكرار أما إذا كانت عيبا فهي كافية في ثبوت الخيار . [ ص: 604 ] فرع ) إذا باعه ولا جناية منه ، ولكنه كان قد حفر بئرا في محل عدوان قبل البيع فتردى فيها ، من يجب ضمانه بعد البيع ؟ يشبه أن يكون كما لو كان قد جنى جناية توجب قصاصا ثم بعد البيع عفا على مال ، وقد تقدم . ( فروع ) وطء الجارية الجانية لا يكون التزاما للفادي ، وفيه وجه مذكور في الديات من الرافعي . ولو قال لعبده : إذا جاء رأس الشهر فأنت حر ، فجنى العبد ثم جاء رأس الشهر عتق ولزم السيد الفداء ، قاله القاضي عنه في باب الأمة تغرس نفسها ، ولو قال : إن دخلت الدار فأنت حر ، فجنى العبد ثم دخل الدار تعلق الأرش بذمة المعتق ، والفرق أنه في هذه عتق بفعله ، ولم يوجد من السيد فعل ، وفي الأولى لم يوجد من العبد شيء ، فصار السيد متلفا بالعتق المعلق ومثل ذلك إذا قال : إذا قدم زيد فأنت حر ، فإنه لا فعل من العبد . قال ابن الرفعة : ينبغي على قولنا بعدم نفوذ عتق الجاني ، وأن الاعتبار بحال الصفة لا يحكم بعتقه ببينة لو نقص الأرش عن الرقبة ، هل يكون الحكم كما تقدم ؟ ولا يمتنع البيع إلا في مقدار الأرش ؟ ظاهر نص الشافعي الأول ، وحاول ابن الرفعة تخريج خلاف ، وقال : وقد ذكره الغزالي في الزكاة وأيده بقول العراقيين : إن بيع العبد الجاني كبيع الوارث التركة قبل قضاء الدين ، وبأن الرافعي في الوصايا عند الكلام في الدور الواقع في الجنايات ، إذا جنى عبد على حر وعفا المجني عليه ومات ، فإن أجازته الورثة فذاك وإلا نفذ في الثلث وانفك العبد عند تعلق العبد ، وأشار الإمام فيه إلى وجه آخر كما أن شيئا من المرهون لا ينفك ما بقي شيء من الدين . ( فائدة ) أجمعوا إذا كان في يد العبد مال وهو مأذون أن الدين في ماله والجناية في رقبته ، فإذا عجزت الرقبة عن احتمال الجناية لم يرد إلا ما في يده ، وكذلك إذا عجز ما في يده عن الدين لم يرد إلى الرقبة .



                                      ( فرع ) لو اشترى عبدا وبه مرض أو جراحة ، فزاد ذلك في يد المشتري ولم يعلم ثم علم حال الاستقصاء ، قال القاضي أبو الطيب : [ ص: 605 ] قياس قول أبي بكر بن الحداد المصري تصير الزيادة كأنها حصلت في يد البائع وللمشتري الخيار في الرد والرجوع بجميع الثمن ، وعلى قول سائر أصحابنا : زيادة المرض في يده تمنع من الرد ، وله الرجوع بالأرش بقدر ما بين قيمته صحيحا ومعيبا ، بالعيب الذي كان في يد البائع دون الزيادة التي حدثت في يد المشتري ; لأن هذه الزيادة حدثت بسبب المرض الذي كان عند البائع فكان على وجهين كالقطع في السرقة وإن لم يعلم بالمرض أو الجراحة حتى سرت إلى النفس ، فعلى قول ابن سريج وأبي علي : لا ينفسخ ويرجع بالأرش ، ولو اشترى جارية حاملا ولم يعلم بالحمل حتى ماتت من الولادة فعن القاضي أبي الطيب أنه على الوجهين .




                                      الخدمات العلمية