الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن لم يعلم بالعيب حتى أبق العبد لم يطالب بالأرش ; لأنه لم ييأس من الرد فإن رجع رده بالعيب وإن هلك أخذ عنه الأرش )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا أبق العبد في يد المشتري ثم علم عيبه ، فإن كان العيب القديم الذي علمه غير الإباق كالعرج والعور وغير ذلك ، ولم يكن قد أبق في يد البائع ، فههنا الإباق في يد المشتري عيب حادث مانع من الرد القديم وغير مضمون على البائع ، فله الرجوع بأرش العيب القديم ، لأنه أيس من الرد بحدوث العيب في يده ، ولم تستدرك الظلامة ، فهذا لا خلاف فيه على المشهور ، ويجب تقييد كلام المصنف به . وممن صرح به الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والمحاملي وغيرهم ، وهو واضح وأغرب صاحب التتمة فقال : الصحيح ليس له الأرش ; لأنه يرجى أن يعود إلى يده ، ويعرض الرأي على البائع في قبوله على العيب ، واستثنى العجلي وابن الصباغ من قولنا بوجوب الأرش ما إذا قال البائع : أنا أرضى بالعيب الحادث ، فلا يكون للمشتري المطالبة بالأرش ، وظاهر هذا يقتضي أنه يتعذر على المشتري حينئذ المطالبة الآن ; لأنه يسقط الأرش ، والرد غير ممكن في حال الإباق فيصبر حتى يعود فيرد . لكن فيما قاله العجلي هنا نظر ، والفرق بين طلب البائع الرد هنا وفي غيره من المواضع ظاهر ، لما فيه من ضرر المشتري هنا ، وتأخر استدراك الظلامة مع قيام موجبها ، ورأيت في الانتصار لابن أبي عصرون أنه إن رضي البائع برده في إباقه سقط حق المشتري [ ص: 522 ] من الأرش لتمكنه من الرد فهذا يقتضي أنه يرد في الإباق ويزول به الاعتراض على العجلي وابن الصباغ وإن كان العيب الذي اطلع عليه هو الإباق ويزول مثل أن يكون أبق مرة أخرى من يد البائع ، فذلك عيب قديم والإباق في يد المشتري مسند إليه وإذا كان الإباق عادة له لم ينقصه الإباق الحادث لكن المشتري لا يمكنه الرد ما دام آبقا ، ولا يجوز له الرجوع بأرش العيب ; لأنه لم ييأس من رده .

                                      قال القاضي أبو الطيب وغيره : وهذا الوضع يدل على صحة هذا التعليل ، يعني أنه لو كانت العلة في وجوب الأرش هو أنه لم يستدرك الظلامة كما قال أبو إسحاق لرجع بالأرش ههنا ، لأنه يستدرك الظلامة ، وهذا الإلزام يدل على أن أبا إسحاق يوافق على أنه لا يرد ولا يرجع بالأرش ما دام آبقا ، وكذلك قال المحاملي : إنه لا خلاف فيه بين أصحابنا ، ولكن صاحب التتمة حكى وجها مقابلا كما تقدم عنه أنه الصحيح عنده بأن له أخذ الأرش ، وعلله بعدم استدراك الظلامة ، وأطلقه فيما إذا اطلع على عيب العبد بعد إباقه من غير تفصيل بين أن يكون العيب القديم أبقا أو غيره ، وإن وجد به عيبا قديما غير الإباق وقد كان أبق في يد البائع لم يكن له أن يرده ما دام آبقا ولا يرجع بالأرش هكذا أطلق القاضي أبو الطيب وهو يشمل ما إذا كان المشتري قد رضي بإباقه ، وهو صحيح فإن الإباق الطارئ لا يكون عيبا جديدا ، ولا يمنع من الرد بغيره . واتفق الجميع على أنه إذا رجع بالعيب وإن هلك في الإباق رجع على البائع بأرش العيب ، لا يختلف المذهب في هذا إذا أبق في يد المشتري ، فإن أبق في يد البائع أو ضاع في انتهاب العسكر قبل القبض ففي وجه ضعيف أنه ينفسخ العقد كالتلف والصحيح أنه لا ينفسخ ; لبقاء المالية لكنه عيب مثبت للخيار فيكون للمشتري الرد به ، وإطلاق المصنف يقتضي أنه لا يتمكن من الرد في مدة الإباق وقد تقدم من ابن الرفعة أن الإباق قبل القبض عذر في تأخير الرد وأنه لو أسقط حقه منه لأسقط على الصحيح ، وذلك يقتضي جواز الرد في مدة الإباق وهو صحيح ، فإنه لم يدخل بعد في ضمان المشتري ، ولا ترد هذه [ ص: 523 ] المسألة على المصنف لأنه إنما تكلم فيما بعد القبض بدليل حكمه بوجوب الأرش عند الهلاك . قال الروياني : فلو قال البائع للمشتري : لا تفسخ فأنا آتيك به فلا خيار له . ولنرجع إلى الكلام في الإباق بعد القبض .

                                      ( اعلم ) أن الأصحاب أطلقوا ههنا أنه لا يتمكن من الرد في مدة الإباق فإن كان المراد أنه لا يتمكن من الفسخ - وهو الظاهر من كلامهم - فما الدليل على ذلك مع وجود العيب ، وظاهر كلامهم الذي تقدم في الثوب أنه لا يشترط حضور العين ، وأنه متمكن من التلفظ بالفسخ في غيبة المشتري والحاكم والشهود ولكن هل يجب عليه ذلك ؟ فيه خلاف ، وإن كان يشترط العين للمطالبة بالثمن فلو أن المشتري هنا في مدة خيار الإباق تلفظ بالفسخ لم ينفذ إذا تلفظ به وحده .

                                      ( فإن قلت ) هناك له فائدة إذا صدقه الخصم ، وههنا لا فائدة فيه ( قلت ) فائدته خروجه عن ملكه ويبقى مضمونا عليه ضمان يد لا ضمان عقد ، حتى إذا تلف بقيمته ، ويسترد الثمن ، وقد يكون الثمن أكثر من القيمة ، فينبغي أن يتمكن من الفسخ أو أن يشهد عليه به ، وأن يرفع ذلك إلى الحاكم حتى يثبته عنده ليطالب بالثمن عند عود العبد ، وإن كان المراد أن الإباق عذر في التأخير لعدم إمكان الرد صورة ، فلا عليه في أن يفسخ عند الحاكم أو الشهود ، ويصير قبض الثمن موقوفا على عود العبد كما لم يجعلوا غيبة العين مع القدرة عليها عذرا ، فما الدليل على جعل الإباق عذرا ؟ والأقرب من حيث البحث أن يتمكن من الفسخ وإن تأخر طلب الثمن ، وإن كان ذلك بعيدا من عبارتهم . فإن قالوا : لا تمكن المطالبة عند الحاكم بالثمن المقبوض إلا مع تسليم المعيب فعند غيبته تتعذر الدعوى ; لأنها لا تبقى ملزمة ، فنقول : فينبغي أن يشهد ، وأيضا فلو كانت العين غائبة في بلد آخر أو عن مجلس الحكم ليس نوجب عليه المبادرة إلى الحاكم بالفسخ قبل أن يردها ، وممن ننبه عليه في ذلك أن الإباق إذا تكرر فقد تنقص القيمة [ ص: 524 ] أكثر مما إذا صدر مرة واحدة ، فالعبد الذي أبق في يد البائع مرة ثم أبق في يد المشتري يجب أن يكون إباقه الثاني عيبا جديدا إذا كان منقصا من القيمة نقصانا أكثر من الأول ، فلا كان مانعا من الرد .

                                      ( فإن قيل ) بأن الإباق الثاني مسند إلى الأول أثبت له عادة ( قلنا ) يجب أن يخرج على أن العيب الحادث إذا استند إلى سبب قديم هل يكون من ضمان البائع ؟ أو من ضمان المشتري ؟ ( فإن قلنا ) بالثاني يمتنع الرد هنا ، ويرجع بأرش الأول ، وقد فرض القاضي حسين ذلك فيما إذا كان الإباق في يد المشتري لا يزيد في نقصان القيمة بأن كان قد تكرر ذلك منه في يد البائع ، واشتهر به ، يعني فلا يؤثر تكرر إباقه بعد ذلك ، وهذا يجوز حمل كلام من أطلق عليه ، وفيه عدم ملاحظة كونه من آثار الإباق السابق ، لأن ذلك لا يتحقق ( والأولى ) تبقية كلام الأصحاب على إطلاقه ، ومستندهم إسناد الثاني إلى الأول ، وقلنا : ما أسند إلى سبب قديم فهو من ضمان البائع .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء في هذه المسألة ، إذا اطلع بعد الإباق إن كان آبقا قال مالك : يأخذ المشتري بالثمن ولا يصبره أن لا يجده ، وقال سفيان الثوري : لا يقضى على البائع حتى يموت أو يرده ، وهذا كقولنا : التلف من ضمان البائع . واستدل أصحابنا بأنه لا مطالبة له في حالة الإباق فإن الإباق متردد بين البقاء والتلف فإن كان باقيا استحق الرد واسترجاع الثمن ، وإن كان تالفا استحق أخذ الأرش ، وما جهل استحقاقه لم تصح المطالبة به .




                                      الخدمات العلمية