الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( فإن كان له قيمة كبيض النعامة والبطيخ الحامض ، وما دود بعضه من المأكول نظرت فإن كسر منه قدرا لا يوقف على العيب بما دونه ففيه قولان : ( أحدهما ) أنه لا يرد ، وهو قول المزني لأنه نقص حدث في يد المشتري ، فمنع الرد كقطع الثوب ( والثاني ) لا يمنع الرد ; لأنه معنى لا يوقف على العيب إلا به فلم يمنع الرد كنشر الثوب ( فإن قلنا ) لا يرد ، رجع بأرش العيب على ما ذكرناه ( وإن قلنا ) يرد فهل يلزمه أن يدفع معه أرش الكسر ؟ فيه قولان : ( أحدهما ) يلزمه كما يلزمه بدل لبن الشاة المصراة ( والثاني ) لا يلزمه ; لأن الكسر الذي يتوصل به إلى معرفة العيب مستحق له فلا يلزمه لأجله أرش ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا كسر ما لا يوقف على عيبه إلا بكسره ، وكان للباقي بعد الكسر قيمة كما ذكره ، وكالرانج وغيره إذا بقيت له قيمة ، فإن لم يزد على قدر ما يعرف به العيب مثل أن نقب الرمان فعرف حموضته أو قطعه قطعا يسيرا فعرف أنه مدود . قال القاضي أبو الطيب : [ ص: 505 ] لأن التدويد لا يمكن أن يعرف بالنقب ، وإن كان هكذا ففيه قولان ، وقد تقدم ذكرهما عن مختصر المزني . واتفقت الطرق على حكايتهما ( أظهرهما ) عند الأكثرين أنه لا يمنع الرد ، وهو ما أورده المصنف ( ثانيا ) وهو الذي حكى المزني في كلامه أولا أنه سمعه من الشافعي ، وبه قال مالك وأحمد في رواية ، وممن رجحه الماوردي والروياني والشيخ أبو حامد ومن تابعه على ما حكاه الرافعي وقاسوه على المصراة . هكذا قاسه الأكثرون ، والمصنف قاسه على نشر الثوب ، وسنذكر سبب ذلك إن شاء الله تعالى .

                                      ( والقول الثاني ) أنه ليس له الرد قهرا كما لو عرف عيب الثوب بعد قطعه وبهذا قال أبو حنيفة والمزني وصححه صاحب التهذيب ، قال المزني بعد حكاية ما قدمته عن المختصر : هذا يعني القول بأنه ليس له الرد أشبه بأصله ; لأنه لا يرد الرانج مكسورا ، كما لا يرد الثوب مقطوعا ، إلا أن يشاء البائع ، وأجاب الأصحاب بأن للشافعي في الرانج قولين أيضا ( فإن قلنا ) لا يرد فهو كسائر العيوب الحادثة فيرجع المشتري بأرش العيب القديم . أو يضم أرش النقصان إليه ويرده كما سبق هكذا قال الرافعي . وهو مأخوذ من كلام الإمام كما سنذكره في آخر الكلام ، وعليه ينزل كلام المصنف والأصحاب ، فمن أطلق أنه يرجع بالأرش ، فإذا رجع بالأرش فيقوم صحيحا وقشره صحيح وفاسدا وقشره صحيح ، وينظر كم نقص من قيمته فيرجع به من الثمن . وهذا معنى قول المصنف على ما ذكرناه ، أي أنه يرجع من الثمن ، وليس كالأرش الذي يرده المشتري على ما سيأتي إن شاء الله تعالى ، ولا يقومه مكسورا ; لأن الكسر نقص حدث في يده ، وإنما يجرى تقويمه مع العيب الذي كان عند البائع . وطريق الاطلاع على العيب هذا القول من ضمان المشتري لأنا منعناه من الرد ( وإن قلنا ) يرد ، وهو الأظهر ، فهل يغرم أرش الكسر ؟ فيه قولان ( أحدهما ) نعم كالمصراة وهذا هو الذي تقدم نقله عن المختصر في قول الشافعي : لك رده ، وما بين قيمته فاسدا صحيحا وقيمته فاسدا مكسورا فهذا صريح في وجوب الأرش على المشتري إذا رد . ورجح الغزالي هذا القول .

                                      ( والثاني ) لا ; لأنه معذور فيه ، والبائع بالبيع كأنه سلطه عليه ، [ ص: 506 ] وهذا أصح عند الجرجاني وصاحب التهذيب وابن أبي عصرون والرافعي في المحرر . ولهذا قال في الروضة : إنه الأظهر ، ونقل الرافعي أنه أصح عند غير صاحب التهذيب أيضا . ونقل غيره أنه أصح عند الشيخ أبي حامد ، ولم أر ذلك في تعليقته ، وطريق الاطلاع على هذا القول من ضمان البائع ، والفرق بينه وبين المصراة أن الكسر عيب حادث لم يفوت عينا على البائع بخلاف حلب المصراة فإنه أظهر نقصا مع تفويت عين هكذا قال بعضهم : ومن مجموع ذلك تأتي ثلاثة أقوال جمعها أبو إسحاق المروزي والشيخ أبو حامد فمن بعده ، والغزالي جعلها أوجها ( أحدها ) أنه لا يرد ويرجع بالأرش ( والثاني ) يرد بغير أرش ، وهو الأظهر عند الرافعي وغيره ( والثالث ) يرد مع الأرش ، قال الغزالي : وهو الأعدل . ثم ننبه على أمور : ( أحدها ) أن طريق الاطلاع على العيب إما أن يكون من ضمان البائع ، أو من ضمان المشتري ، إن كان الأول فليرد بغير أرش كما رجحه الرافعي ، وإن كان الثاني فليمتنع الرد ، فالقول بأنه يرد مع الأرش خارج عن المأخذين ، مع أنه المنصوص في المختصر ، وعلله الغزالي كما قال : إنه الأعدل بأنه حتى لا يتضرر البائع أيضا ، وذلك من قبيل المصلحة المرسلة .

                                      ( الثاني ) قال الرافعي في المحرر : إنه لا يمنع الرد ، وإذا رد لم يغرم الأرش على الأظهر ، وتبعه في المنهاج فقال : رد ولا أرش عليه في الأظهر ، فإن أراد أن الرد مجزوم به والخلاف في الخلاف في الأرش ، فهذه طريقة لم أعلم من قال بها . فالوجه أن يجعل قوله في الأظهر غاية إليهما . ويكون المعنى أن الأظهر أنه يرد بغير أرش وهو القول الذي رجحه في الشرح ، ومقابله قولان عدم الرد مطلقا أو الرد مع الأرش .

                                      ( الثالث ) قال الإمام : مما يجب التنبيه له ولا تتحقق الإحاطة بالمسألة دونه أن المسألة التي نحن فيها لا تتميز أصلا عن تفصيل القول في العيوب الحادثة إلا على قولنا : إن المشتري يرد المعيب المكسور من غير أرش ، فإن لم نسلك هذا المسلك فلا فرق . فإنا إذا ذكرنا في الكسر خلافا في المنع من الرد وضم أرش الحادث من العيب ، فقد ذكرنا مثله في كل عيب حادث ، فلا تنفصل هذه المسألة [ ص: 507 ] عن غيرها إلا إذا جوزنا الرد مع غير غرم أرش في مقابلة عيب الكسر فلو قال قائل : مسألة الكسر أولى بأن يحتكم المشتري فيها بالرد مع غرامة الأرش كان هذا فرقا في ترتيب مسألة عن مسألة . هذا كلام الإمام وهو في نهاية الحسن ، لكنه يقتضي أنه عند التنازع يأتي الخلاف فيمن يجاب ( فإن قلنا ) في تلك المسائل : يجاب المشتري فههنا أولى ( وإن قلنا ) : يجاب البائع مطلقا أو إذا طلب تقرير العقد فههنا خلاف ، والذي يدل عليه ظاهر النص الذي سمعه المزني من الشافعي أن المجاب المشتري في طلب الرد مع الأرش ، والفرق بينه وبين تلك المسائل إما على القول الذي اختاره المزني بامتناع الرد فتتحد هي وتلك المسائل كما تقدم عن الرافعي ، والظاهر أنه أخذه من كلام الإمام هنا .

                                      ( الرابع ) أنه إذا اشترى ثوبا مطويا فنشره ووقف على عيب به ، فإن لم ينقص بالنشر فلا يمنع الرد ، وإن نقص فإن كان لا يوقف على عيبه إلا به ، مثل أن يتولى ذلك من هو من أهل الصنعة ويرفق به - ففي المسألة الأقوال المذكورة ، وإن لم يكن من أهل الصنعة ، ونقص نقصا زائدا فعلى ما سيأتي فيما إذا زاد في الكسر ، المذهب امتناع الرد . وقال أبو إسحاق : على الأقوال . وأطلق الأصحاب المسألة فصورها صاحب الحاوي فيما إذا كان مطويا على طاقين لم يصح البيع ، إن لم تجوز خيار الرؤية . قال الرافعي : وهذا أحسن . لكن المطوي على طاقين لا يرى من جانبيه إلا أحد وجهي الثوب ، وفي الاكتفاء به تفصيل وخلاف قد سبق . وقال إمام الحرمين : إن هذا الفرع مبني على تصحيح بيع الغائب ، وذكر الرافعي تنزيلين آخرين ( أحدهما ) أن يفرض رؤية الثوب قبل الطي ، والطي قبل البيع ( والثاني ) أن ما ينقص بالنشر ينقص بالنشر مرتين فوق ما ينقص به مرة واحدة ، فلو نشر مرة وبيع وأعيد طيه ثم نشره المشتري فزاد النقصان بذلك انتظم الفرع .

                                      [ ص: 508 ] إذا علم ذلك فالمصنف قاس بالنشر على نشر الثوب فإن أراد الذي لا يحصل به نقص ، فالفرق ظاهر ، وإن أراد ما يحصل به نقص وهي كالمسألة ، والخلاف فيها كالخلاف ، فكيف يجعلها أصلا ويقيس عليها ؟ . وكذلك صاحب التهذيب قاس على نشر الثوب والمصراة جميعا ، والظاهر أن المصنف إنما قاس على نشر الثوب ولم يقس على المصراة ; لأن المسألة خلافية بيننا وبين أبي حنيفة . وأبو حنيفة لا يسلم الحكم في المصراة فلا يمكن الاحتجاج عليه بها فقاسها على نشر الثوب . وكذلك فعل في النكت قال : كنشر الثوب وقلب الصبرة . وهذا يدل على أنه أراد النشر الذي لا يحصل به نقص . ولهذا لم يقل في علته هنا : إنه نقص . بل قال : يعني كأنه لكونه طريقا إلى معرفة العيب لا يعد نقصا .

                                      ( الخامس ) قال المرعشي : في ترتيب الأقسام سبب ذكرته فيما تقدم مختصرا ولا بد من ذكره هنا والتنبيه على ما فيه . وهو أن العيب الحادث في المصراة على ثلاثة أضرب : ما فيه قول واحد أنه يرد كالعيب والخيار . كغمزه بعود أو حديدة فيتبين الأرش . وما فيه ثلاثة أقوال له أنه مر فله الرد . وما فيه قولان كالثوب يقطع ثم يتبين به حرق هل يرد ؟ ونقص القطع أو لا . ويأخذ الأرش وما فيه ثلاثة أقوال كالجوز واللوز وما لا يتوصل إلى علمه إلا بكسره . فإذا كسره فأصابه فاسدا ففيه ثلاثة أقوال ( أحدها ) يرده وما نقص ( والثاني ) يأخذ الأرش ( والثالث ) يرد ويأخذ جميع الثمن . ( قلت ) فإن كان مراده حيث لا نجعل في العيب والخيار عيبا بذلك الغمز . فهو يخالف فرضه . وإن حصل فيه بذلك عيب فإن لم تبق له قيمة لم يأت إلا الرد والرجوع بجميع الثمن كما قال . وحينئذ القسم الثالث في كلامه إن لم تبق له قيمة فلا يأتي فيه إلا قول واحد كذلك . وإن بقيت له قيمة لم يأت فيه القول بالرجوع بجميع الثمن .

                                      ( السادس ) قول المصنف لا يوقف على عيبه إلا بكسره أحسن من قول من قال مأكوله في جوفه ، فإنه يشمل الثوب إذا نشره كما تقدم . وكذلك إذا اشترى قطعة خشب ليتخذ منها ألواحا فلما قطعها [ ص: 509 ] وجدها عفنة . قال القاضي حسين في الفتاوى : فيه قولان كما مأكوله في جوفه ( فإن قلنا ) : لا رد له ; يأخذ الأرش من البائع . وهو ما بين قيمتها عفنة وغير عفنة ، قال : وبه أفتى ( قلت ) وهذا اختيار منه للقول المرجوح في عدم الرد ، ولا جرم . صححه تلميذه وصاحب التهذيب كما تقدم .




                                      الخدمات العلمية