الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كان المبيع جارية فحملت عنده وولدت ثم علم بالعيب ردها وأمسك الولد لما ذكرناه . ومن أصحابنا من قال : لا يرد الأم بل يرجع بالأرش ; لأن التفريق بين الأم والولد فيما دون سبع سنين لا يجوز ، وهذا لا يصح لأن التفريق بينهما يجوز عند الضرورة ، ولهذا قال الشافعي رحمه الله في الجارية المرهونة : إنها تباع دون الولد ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) إذا كانت الجارية حاملا عند البيع ثم حبلت عند المشتري وولدت ولم يطلع على العيب حتى بلغ الولد سبع سنين إذا اطلع العيب ولم يتمكن من الرد إلى هذه المدة فحكمها حكم البهيمة حرفا بحرف على ما تقدم بلا خلاف ، وفرض المسألة أن لا يكون حصل لها نقص بالولادة كما تقدم التنبيه عليه ، فلو حصل نقص منع [ ص: 422 ] من الرد ووجب الأرش وأما إذا اطلع على العيب وتمكن من الرد قبل بلوغ الولد سبع سنين فقد اختلف الأصحاب في جواز الرد ، فالذي قاله المصنف رحمه الله ورجحه : الجواز للضرورة ، وهو في ذلك موافق للشيخ أبي حامد والقاضي أبي الطيب هنا ، وقال : إنه أصح وأشهر في المذهب ، ونسبه ابن الصباغ إلى أكثر الأصحاب . وقال الروياني رحمه الله : إنه المذهب ، ووافقهم ابن أبي عصرون وهو مقتضى إطلاق نص الشافعي رحمه الله فإن الشيخ أبا حامد نقل أنه قال في القديم : إذا اشترى جارية فولدت ثم أصاب بها عيبا كان له أن يرد الجارية ويمسك الولد إذا لم تكن نقصت بالحمل أو بالوطء ، وليس مراد الشيخ أبي حامد أن ذلك من القديم المخالف للجديد ، ولكن نقل هذه المسألة لم توجد منصوصة للشافعي رحمه الله إلا في القديم .

                                      والوجه الآخر فرعه بعض الأصحاب على هذه المسألة كما قال الشيخ أبو حامد وصاحب التتمة ذكر فيها وجهين هنا من غير ترجيح ، والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب ردا على الوجه الآخر الذي قاله بعض الأصحاب بما قاله المصنف رحمه الله لكن الروياني في البحر مع قوله عن الأول : إنه المذهب قال : إن هذا الوجه أقيس ، وجزم به الجرجاني في المعاياة ، وكذلك القاضي أبو الطيب وغيره في كتاب السير على ما نقله ابن الرفعة . وكلام الرافعي رحمه الله يشعر بترجيحه فإنه ذكر الوجهين في ذلك وقال : وسنذكر نظيره في الرهن . ثم ذكر في الرهن : إذا رهنت الأم دون الولد . إن صح أنهما متبايعان جميعا وإلا يفرق بينهما . وكذلك وافقه على تصحيح هذا في الرهن القاضي حسين والماوردي والمحاملي في التجريد من تعليقة أبي حامد والبغوي في التهذيب والمتولي في التتمة ، ومنهم من يقطع بذلك ، فإذا كان هؤلاء الأئمة قائلين بين قاطع ومرجح بأنهما يباعان معا ولا يفرق بينهما ، ولم يجعلوا ذلك ضروريا مسوغا للتفريق فينبغي ههنا كذلك ، وأن يكون الأصح هنا امتناع التفريق وامتناع الرد كما اقتضاه كلام الرافعي رحمه الله وقال الجرجاني إلا أن يفرق المصنف ومن وافقه بين البيع في الرهن والرد بالعيب ، وسأذكر له فرقا إن شاء الله تعالى . وقد يقال : إنه لو جاز التفريق ينبغي أن يمتنع [ ص: 423 ] الرد هنا ; لأن رجوع الجارية بدون ولدها عيب ، وذلك بمنزلة عيب جديد يمنع بسببه الرد ، ولا شك أن أهل العرف يعدون ذلك عيبا وتقل الرغبات فيمن يكون لها ولد منفصل عنها . وطريق الجواب عن المصنف في ذلك أن يفرض فيما إذا رضي البائع بردها كذلك حتى لا يكون للمشتري إلا الرد أو يرضى بها معيبة ولا يكون له المطالبة بالأرش ، ومتى لم نفرض المسألة كذلك تعين امتناع الرد ، ثم ههنا كلامان : ( أحدهما ) ما استدل به المصنف والشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب على ضعف هذا الوجه من نص الشافعي رحمه الله هو فيه تابع للشيخ أبي حامد ، قاله هكذا حرفا بحرف وفيه نظر ، فإن الشافعي رحمه الله له نصان في المختصر .

                                      ( أحدهما ) قوله : ولا بأس أن يرهن الجارية ولها ولد صغير ; لأن هذا ليس بتفرقة وحمله جماعة من الأصحاب على أن معناه أن الرهن لا يوجب تفريقا ، ثم ما يتفق من بيع وتفريق فهو من ضرورة إلجاء الرهن إليه ، وهؤلاء هم الذين جوزوا بيع المرهونة وحدها ، والتفريق بينها وبين ولدها ، لكن طائفة من الأصحاب قالوا : معناه أنه لا تفرقة في الحال ، وإنما التفرقة عند البيع ، وحينئذ يباعان معا . ويحذر من التفريق فإن أراد المصنف هذا النص فالأصحاب يختلفون في تفسيره كما رأيت . والتفسير الثاني هو الصحيح لعدم إفضائه إلى محذور . وليس في النص المذكور تصريح بأنها تباع دون الولد كما في لفظة الكتاب . والنص الثاني في المختصر أيضا قبل ذلك فيما وطئ الراهن الجارية المرهونة قال الشافعي رحمه الله : فإن أحبلها ولم يكن له مال غيرها لم تبع ما كانت حاملا ، فإذا ولدت بيعت دون ولدها ، وهذا النص أقرب إلى لفظ المصنف رحمه الله لكنه يبعد إرادته ; لأن الولد ههنا في هذه الصورة حر ; لأنه ابن الراهن المالك ، فالتفرقة ضرورية ، وبهذا فرق جماعة بين هذه الصورة والصورة الأولى حيث [ ص: 424 ] لا يجوز التفرقة على الأصح ; لأن الولد هناك مملوك وهنا حر ، وإذا كان كذلك فلا يصح التمسك به ; لأن الولد هنا في الرد بالعيب مملوك ، وهذا لا يخفى عمن هو دون المصنف والشيخ أبي حامد وإن أراد نصا آخر فلم أعلمه ، والله أعلم .

                                      لكن يدل على أن المصنف وأبا حامد أرادا هذا النص الثاني ، وأنه هو الذي وقع به الرد على صاحب هذا الوجه أن القاضي أبا الطيب قال في الرد عليه : ولهذا قال الشافعي رحمه الله : إن الجارية المرهونة إذا حبلت لم تبع ما دامت حاملا ، فإذا ولدت بيعت دون ولدها . وقال صاحب الشامل : إذا كانت جارية فولدت حرا يباع الرهن دون الولد ; لأنه موضع حاجته . وقال صاحب التتمة : كالمرهونة إذا علقت بولد حر ، والجارية الجانية إذا كان لها ولد حر جاز بيعها دون الولد . وقال الروياني : المذهب أنه يجوز هذا التفريق كما قال الشافعي رحمه الله في الجارية المرهونة إذا ولدت حرا : تباع الأم لحق المرتهن دون الولد ; لأنه موضع حاجته في الأم . فكلام هؤلاء الأئمة يدل على أنهم إنما ردوا على صاحب هذا الوجه بهذا النص وهو مشكل ; لأن الولد الحر يجوز بيع أمه ، سواء أكانت مرهونة أم غير مرهونة ; لأنه لا يمكن بيعه معها أصلا لضرورة فيه محققة وليس كالولد الرقيق ، وطريق حمل هذا الإشكال أن الجامع بين الصورتين الضرورة وإن كان الولد هنا رقيقا وهناك حرا فإنه لو لم يجز الرد ههنا أدى إلى إبطال حق المشتري من الرد ويعترض على هذا بأن المحذور هو التفريق في الملك ، وإذا كان الولد حرا الفرقة حاصلة ، فلا تفريق ، بخلاف مسألتنا هنا فإن الرد يوجب التفريق في الملك وقياس التفريق على ما ليس بتفريق لا يظهر .

                                      ( الكلام الثاني ) في تخيل الفرق بين الرد بالعيب وبين البيع في الرهن ، قد يقال : انتصار المصنف أن هنا أمرين مسوغين للتفريق ( أحدهما ) الضرورة وإلا لأدى إلى إبطال حق المشتري من الرد ، وإلزامه أخذ الأرش وبقاء المعيب في عقد عسر ، فلا طريق له إلا الرد . وأما الراهن فإنه يجب عليه وفاء دينه ، فإن كان مال غيره وفينا منه [ ص: 425 ] ولم يبع ، لما قاله الماوردي هناك ، وإن لم يكن له مال إلا الجارية المرهونة ، والشارع منع من التفريق فصار كما لو كان الدين يحيط بقيمة الجارية وولدها ولا مال له غيرهما ، فإنا نبيعهما توصلا إلى وفاء الدين الذي التزمه وحجر على نفسه بسببه ، وهذا المعنى وحده كاف في الفرق ومصحح لما ذكره المصنف رحمه الله ( والأمر الثاني ) أن هذا التفريق بالفسخ ، وقد اغتفروا في الفسخ ما لم يغتفروا في إنشاء العقود ; ألا ترى أن الأصحاب رحمهم الله قالوا : لو باع الكافر عبدا مسلما بثوب ، ثم وجد بالثوب عيبا [ فإن ] له استرداد العبد في أصح الوجهين ؟ ولو وجد مشتري العبد به عيبا فطريقان : ( أحدهما ) القطع بالجواز . ( والثاني ) على الوجهين . ولو تقابلا حيث لا عيب ، وقلنا الإقالة فسخ فعلى الوجهين ؟ فهذه المسائل الثلاثة اغتفروا فيها حصول ملك الكافر على المسلم بالفسخ ، وإن كانوا لم يغتفروا بإنشاء العقد . وعلله الغزالي رحمه الله في المسألة الأولى بأن الاختيار في الرد إما عود العوض إليه فهو قهري كما في الإرث واستشكله الرافعي ، ورأى أن الأصوب في توجيهه أن الفسخ يقطع العقد فيكون نازلا منزلة استدامة الملك ، والإمام علله بأن الرد يرد على العقد ، وارتداد العبد يترتب على انفساخ العقد . وله في رد الثوب غرض سوى تملك العبد ، أي وهو التخلص من عيبه وهذا الغرض - وهو التخلص من العيب - حاصل في الجارية إذا ولدت ثم اطلع على عيبها بخلاف الرهن فإنه لا غرض إلا التوصل إلى وفاء دينه ، والراهن ألزم نفسه بذلك وملاحظة الضرورة لا بد منها .

                                      وأما الفسخ وحده فليس بكاف ; ألا ترى أنهم جزموا في الفلس بعدم التفريق لما كان مال المفلس كله معيبا ولا ضرورة تدعو إلى [ ص: 426 ] التفريق ، وإن كان الرافعي رحمه الله قال باحتمال جريان الخلاف الذي في الرهن والرد بالعيب فيه ، وأن جزمهم يحتمل أن يكون على الأصح . وحكى الماوردي وجها يوافق هذا الاحتمال ، وحكاه المتولي أيضا عند الكلام في التفريق بالبيع ، وكذلك ملاحظة الفسخ لا بد منها ، والضرورة وحدها لا تكفي ; ألا ترى أن في رجوع الزوج في شطر الصداق لم يجوزوا ذلك لأجل حق الزوج ، بل نقلوه إلى نصف القيمة ; لأن استرجاع الشطر تملك جديد . هذا ما ظهر لي في تقوية ما ذهب إليه المصنف رحمه الله ومن وافقه على ما فيه ومع ذلك يحتاج إلى ملاحظة ما يقدم التنبيه عليه في فرض المسألة إذا رضي البائع بالرد ، أو نفرض أن ذلك لا تنقص به قيمتها ، وهو بعيد ، والأول أقرب ، والله أعلم .

                                      ( التفريع : ) إن قلنا بجواز الرد كما قال المصنف فذاك ( وإن قلنا ) بامتناع الرد فقد قال المصنف رحمه الله : إنه يجب الأرش ، وكذلك قاله الجرجاني والرافعي ، وعلله الجرجاني بأن الرد كالميئوس منه ، ولك أن تقول : إنه يمكن بأن يعتق الولد أو يموت أو يصل سن التفريق وقد يكون بقي منه زمن قليل أو كثير إلا أنه تقدم لنا وجهان عن الإمام فيما إذا كان البائع بعيدا حكيناه فيما إذا رضي أحد المشترين بالعيب تفريعا على منع الاستقلال بالرد . والأصح منهما الرجوع بالأرش ، فليكن الوجه الآخر جاريا هنا لكنه ضعيف مفرع على ضعفه ، ولنا خلاف هناك أنه لو رد أحدهما الجميع عند حصوله في ملكه وأراد استرجاع نصف الثمن هل يجبر البائع عليه كما في مسألة النعل ؟ ( فإن قلنا ) بالإجبار فههنا أن يرد الولد معها يحتمل أن يكون كذلك فإن لم يفعل سقط حقه من الرد وتعين الأرش ، ولا يعقل في هذه المواضع كلها عن فرض المسألة فيما إذا لم يحدث عيب جديد .




                                      الخدمات العلمية