الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( إذا وجد المشتري بالمبيع عيبا لم يخل إما أن يكون المبيع باقيا على جهته أو زاد أو نقص ، فإن كان باقيا على جهته وأراد الرد لم يؤخره ، فإن أخره من غير عذر سقط الخيار ; لأنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال ، فكان على الفور كخيار الشفعة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) للمبيع المعيب خمسة أحوال : أن يكون باقيا على جهته ، أو زائدا أو ناقصا ، أو زائدا من وجه وناقصا من وجه أو تالفا ، ذكر المصنف الثلاثة الأولى وعقد لكل منها فصلا . وذكر الخامسة في فصل بعد ذلك ولم يذكره في القسم هنا ; لأنه لا يقال وجد العيب بالمبيع بعد تلفه ، وهو يقسم فيما إذا وجد بالمبيع عيبا ، ولو أريد ( وجد ) العلمية التي تتعدى إلى مفعولين صح إطلاقها بعد التلف ، لكن ظاهر كلامه أنها من وجدان الضالة . وذلك يستدعي موجودا . وأما الزائد من وجه والناقص من وجه فإما أن يكون المراد أن الأمر لا يخلو عن ذلك ، فالقسمة حينئذ حاضرة ، وإما أن يكون تركه لأن حكمه يعلم من القسمين ، وقلما يقع التعرض له ، وعطفه بأو على ( أما ) غير متضح من جهة العربية . وكثيرا ما يقع ذلك في كلام المصنفين . وكذلك قوله : أو زاد . وكان الأولى أن يقول : زائدا عطفا على ما هنا . [ ص: 331 ] أما الأحكام ) فإذا كان المبيع الذي ظهر به العيب باقيا بحاله ، فقد تقدم أنه يخير بين إمساكه ورده ، فإن أراد رده فخيار الرد على الفور عندنا وعند جمهور العلماء ، وكنت أحسب أن ذلك مجمع عليه حتى رأيت ابن المنذر نقل عن أبي ثور أنه لا يكون الرضا إلا بالكلام ، أو يأتي من الفعل ما يكون في المعقول في اللغة أنه رضا ، فله أن يرد حتى تنقضي أيامه ويستمع لأنه ملكه ، وكذلك نقل ابن حزم فإن قال : لا يسقط الرد إلا بإحدى خمسة أشياء : مطبقة بالرضا ، أو خروجه كله أو بعضه عن ملكه ، أو إيلاد الأمة ، أو موته ، أو ذهاب عين الشيء أو بعضه ، قال : وهو قول أبي ثور وغيره . انتهى . ومن يعد أقوال أبي ثور وجوها يلزمه أن يجعل هذا وجها من المذهب ، وهو في غاية الغرابة . ونقل ابن المنذر عن جماعة من العلماء المتقدمين فتاوى محتملة لئلا يكون الرد على الفور ومحتملة لخلافه ; فلذلك لم أذكرها ، ولعلي أذكرها بعد هذا في تفصيل الأشياء المبطلة للخيار إن شاء الله .

                                      وقد استدل الأصحاب بكون الرد على الفور بدليلين ( أحدهما ) أن الأصل في البيع اللزوم ، وذلك متفق عليه ، ومن الدليل فيه قوله صلى الله عليه وسلم في حديث : { المتبايعان بالخيار وإن تفرقا بعد أن تبايعا ولم يترك واحد منهما البيع فقد وجب البيع } " متفق عليه ، وذلك يقتضي لزوم العقد من الجانبين ، وأنه لا خيار بعد التفرق ، ثم إنا أثبتنا الخيار بالعيب بالدليل الدال عليه من الإجماع وغيره ، والقدر المحقق من الإجماع ثبوته على الفور ، والزائد على ذلك لم يدل عليه إجماع ولا نص ، فيجري فيه على مقتضى اللزوم جمعا بين الدليلين ، وتقليلا لمخالفة الدليل ما أمكن ، ولأن الضرر الذي شرع الرد لأجله يندفع بالبدار ، وهو ممكن ، فالتأخير تقصير فيجري عليه حكم اللزوم الذي هو الأصل .

                                      ( الدليل الثاني ) ما ذكره المصنف رحمه الله من أن القياس على خيار الشفعة وفيه احترازات . قال ابن معن : احترز بقوله : [ ص: 332 ] ثبت بالشرع من خيار الشرط في البيع . وبقوله : لدفع الضرر عن المال عن خيار الأمة إذا عتقت تحت عبد ( إذا قلنا ) ليس الخيار على الفور ، ومن خيار المرأة بالمطالبة بالعنة أو الطلاق في الإيلاء . ومن الخيار بين القصاص والدية . وقد أجاد في ذلك وزاد غيره خيار العنة أيضا كخيار الأمة . قال بعض الفضلاء : وهو منقوض بخيار المجلس فإنه ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال . وليس على الفور ، وهذا النقض مندفع بأن خيار المجلس ثبت رفقا بهما كما قاله المصنف رحمه الله في أول البيع ، وذلك على وجه التروي والنظر في المصلحة ، لا لدفع الضرر المحقق ، فإنه قد لا يكون ثم ضرر أصلا ، ولا يستند إلى ظهور وصف في المبيع . وبعد أن كتبت هذا رأيت هذا المعنى بعينه لأبي محمد عبد الله بن يحيى الصعبي في كلامه على المذهب الذي سماه غاية المفيد ونهاية المستفيد " وجعل قوله : لدفع الضرر احترازا من خيار المجلس ، فإنه ثبت للارتياء والنظر ، وقد يورد على المصنف في ذلك خيار التصرية على قول أبي حامد المروذي كما تقدم ، فإنه خيار ثبت بالشرع لدفع الضرر عن المال ، ومع ذلك يمتد إلى ثلاثة أيام عند أبي حامد ، وقد يجاب عن هذا بأن أبا حامد يجعل ثبوته ثلاثا بالحديث ، ولا يجعله لكونه عيبا بدليل أنه يثبته مع العلم ، وإذا كان كذلك فلا يكون لدفع الضرر عن المال . وقد يورد على المصنف أيضا الخيار الذي أثبته النبي صلى الله عليه وسلم لحبان بن منقذ .

                                      فإن ذلك خيار ثابت بالشرع لدفع الضرر عن المال ، وهو يمتد ثلاثة أيام ، ويجاب عنه بأن ذلك مختص بحبان بن منقذ كما أشار إليه الشافعي رضي الله عنه فيما تقدم . ويجاب عن كل من هذا وخيار المصراة على قول أبي حامد بأنهما خارجان من مقتضى القياس المذكور بالنص على خلاف القياس ، فيبقى فيما سواهما على مقتضاه . وقد يورد على المصنف أنه قاس في باب الشفعة سقوط الخيار بتأخير الطلب من غير عذر على الرد بالعيب . وههنا قاس الرد بالعيب على الشفعة ، وأجابوا عن هذا بأن قياس الرد بالعيب على الشفعة ورود الخبر فيها ، وقياس الشفعة على الرد بالعيب لأن الشفعة [ ص: 333 ] تردد قول الشافعي فيها بخلاف الرد بالعيب ، فإن أكثر العلماء اتفقوا على أنه على الفور ، وعدوا ذلك من محاسن المهذب . وإذا تأملت كلام المصنف في باب الشفعة حكمت بعدم صحة السؤال لأنه لما قال : إنها على الفور على الجديد ، استدل له بالحديث ثم قال : فعلى هذا إن أخر الطلب من غير عذر سقط ; لأنه على الفور فسقط بالتأخير من غير عذر كالرد بالعيب وهذا الكلام يقتضي المغايرة بين الحكمين ، وإن سقوط الخيار بالتأخير هو المقيس على الرد بالعيب ، وهو غير كونه على الفور الثابت بالحديث وههنا في الرد بالعيب ، المقصود إثبات كونه على الفور بالقياس على الشفعة ، فالمقيس هناك على الرد بالعيب غير المقيس هنا على الشفعة ، فلا سؤال ولا إشكال ولا حاجة إلى الجواب المذكور . ولكن لك أن تقول : إن كان السقوط بالتأخير من غير عذر ظاهر اللزوم لكون الخيار على الفور ، ولا حاجة في الشفعة إلى قياسه على الرد بالعيب ، وإن لم يكن كذلك فلا يكفي الرد بالعيب لثبوته ، إن ثبت أنه على الفور ، بالقياس على الشفعة ، كما هو مدلول كلام المصنف هنا . فيحتاج إلى الجواب المذكور . وقد خطر لي في الجواب عن ذلك والاعتذار عن المصنف في جعله سقوط الشفعة بالتأخير بعد تقرير كونه على الفور منشئا على الرد بالعيب مسألة غريبة نقلها أبو سعد الهروي عن تعليق البندنيجي ، أن الشافعي رضي الله عنه نص في اختلاف العراقيين على القول الصحيح أن الشفعة على الفور للشفيع خيار المجلس لأنه قال : ولو عفا عن الشفعة ثم تركها ، ثم بدا له فأراد المطالبة بها ، كان له ما دام في المجلس .

                                      قال الهروي : ووجهه أن العفو تقرير لملك المشتري لجهة المعارضة ، فيعقب بخيار المجلس كالشراء وعكسه الإبراء عن الدين فإنه إسقاط محض ، ولم يتضمن تقرير ملك في غيره . ( قلت : ) فلعل المصنف رحمه الله اطلع على هذا النص القائل بأن الشفعة لا تبطل بالعفو ما دام في المجلس على قول الفور ، [ ص: 334 ] ولا شك أن التأخير أولى بعدم البطلان ، فأراد أن يدفع ذلك بالقياس على الرد بالعيب ، وهذا ينبغي السؤال عنه ، على أني نظرت باب الشفعة من اختلاف العراقيين نظر العجل ، فلم أر هذا النص فيه ، وهو غريب مشكل ، ورأيت في كتاب أحمد بن بشرى الذي جمع فيه من نصوص الشافعي ما يوافقه ، فإنه قال : وتسليم الشفعة أن يقول سلمت شفعتي أو تركتها أو ما أشبهه ، ثم يفارق الشهود الذين قال بين أيديهم : قد سلمت شفعتي ، فإن لم يفارقهم حتى يقول : أنا على شفعتي ، فذلك له ، وهذا هو ذاك النص بعينه وأيضا فقد اختلف الأصحاب في خيار المجلس في الشفعة ، وفسره بعضهم بأنه يخير بين الأخذ والترك في المجلس ( وإن قلنا ) بالفور فما قاله المصنف يدفعه .



                                      ( فرع ) إذا ادعى البائع أن المشتري أخر الرد بعد العلم ، وأنكر المشتري فالقول قول المشتري مع يمينه ، قاله الروياني عن جامع القاضي أبي حامد .



                                      ( فرع ) أطلق المصنف رحمه الله أن التأخير من غير عذر يسقط الخيار ، والمراد بذلك أن يبادر على العادة . قال أصحابنا : فلا يؤمر بالعدو والركض ليرد ولو كان مشغولا بصلاة أو أكل أو قضاء حاجة فله الخيار إلى أن يفرغ وكذا لو اطلع حين دخل وقت هذه الأمور فاشتغل بها فلا بأس ، وكذا لو لبس ثوبا وأغلق بابا . قال الماوردي والرافعي : ولو وقف عليه ليلا فله التأخير إلى أن يصبح ، وقال الهروي في الأشراف : إلى ضوء النهار ، وهما راجعان إلى معنى واحد ، هكذا أطلق الماوردي والرافعي جازما بذلك اعتبارا بالعرف . وقال صاحب التتمة : إذا اطلع بالليل ولم يتمكن من حضور مجلس الحكم ، ولا من استحضار الشهود ليفسخ بحضرتهم ولا من إخبار [ ص: 335 ] البائع بذلك ، فعامة أصحابنا قالوا : لا بد أن يقول في الوقت فسخت ، وإلا سقط حقه ، وكان القفال يقول : لا يبطل ، بل يؤخر حتى يحضر البائع أو الشهود أو يحضر مجلس الحكم . والظاهر أن صاحب التتمة يطرد هذا الخلاف في تأخر الفسخ بالعذر مطلقا ، ويشمل ذلك الصور المتقدمة من الأكل وقضاء الحاجة ونحوه ، ويكون ذكر هذه الأعذار المتقدمة إنما تستمر على رأي القفال ويحتمل أن يكون ذلك مختصا بالليل ، لما فيه من التأخير كما يقوله في الغيبة والمرض أنها الأعذار المتقدمة فلا يعد في العرف تأخيرا ، وهذا الاحتمال الثاني أوفق لكلام الرافعي واشتراط صاحب التتمة عدم التمكن في الليل يقتضي أنه متى تمكن فيه كان كالنهار ، وكذلك قال ابن الرفعة : لا فرق بين الليل والنهار إذا تمكن من المسير فيه من غير كلفة ، أما إذا كان فيه كلفة فله التأخير إلى الصباح ، وهذا وإن كان المعنى والفقه يقتضيه فلم أر التصريح به لغيره .

                                      قال البغوي وابن أبي عصرون : إنه في الليل لا يلزمه تعجيل الفسخ ، ولا الإشهاد على نفسه بالرد في أصح الوجهين ، وهذا الوجه الذي أشار إليه يسلكه مسلك الغيبة ، وسيأتي الكلام فيها إن شاء الله ، ولو لقي البائع فرد عليه قبل سلامه صح ، ولو رد عليه بعد سلامه صح أيضا ، خلافا لمحمد بن الحسن ، قاله الماوردي والرافعي وغيرهما ، وفي بعض الشروح للتنبيه حكاية وجهين في كون السلام عذرا هو بعيد ، وإن كان الإمام قال في الشفعة : إن من عده في اشتراط قطع ما هو مشغول به من الطعام وقضاء الحاجة لا يبعد أن يشترط ترك الابتداء بالسلام ، ولو علم به وهو ممنوع بعته أو مرض كان على حقه إلى أن يزول المنع . قاله الماوردي . وسيأتي كلام كثير في حالة الغيبة ، لو لم يتم الغرض إلا باستيفائه فهذه كلها أعذار احترز عنها المصنف رحمه الله بقوله : من غير عذر . وقال الأئمة : إن الكلام في المبادرة وما يكون تقصيرا وما لا يكون محله كتاب الشفعة ، وأحالوا الكلام هنا عليه ، وقد حكوا هناك وجها أنه يلزمه إذا اطلع على الشفعة قطع ما هو عليه من طعام ، والخروج من الحمام والنافلة ونحو ذاك ، تحقيقا للبدار ، قال ابن الرفعة : ومثله لا يبعد جريانه ههنا لأنهما في قرن ، وعد ابن الرفعة من [ ص: 336 ] الأعذار إباق العبد قبل القبض ، فإن المشتري إذا اطلع عليه وأخر لا يسقط حقه ، بل لو صرح بإسقاطه لم يسقط على الصحيح .

                                      ( قلت ) والحكم كما ذكر ، ولكن ذلك لأن السبب متجدد في كل وقت ، فلا يحصل حقيقة التأخير فلا يحسن عده في جملة الأعذار .

                                      ( فرع ) وأما الذي لا يكون عذرا فكثير ( منها ) لو بادر حين العلم بالعيب فلقي البائع فأخذ في محادثته ، ثم أراد الرد فلا رد له ، قاله الماوردي والرافعي وغيرهما ولو أخر الرد مع العلم بالعيب ثم قال : أخرت لأني لم أعلم أن لي حق الرد فإن كان قريب العهد بالإسلام ، أو نشأ في برية لا يعرفون الأحكام قبل قوله ، ومكن وإلا فلا ، وعن الفروع حكاية قولين كالأمة إذا ادعت الجهالة بالحكم ، ولو قال : لم أعلم أنه يبطل بالتأخير قبل قوله ; لأنه مما يخفى على العوام هكذا قال الرافعي . وقال النووي : إنما يقبل قوله ، ولم أعلم أن الرد على الفور ، وقول الشفيع : لم أعلم أن الشفعة على الفور ، إذا كان ممن يخفى عليه مثله ، وقد صرح الغزالي وغيره بهذا في كتاب الشفعة .

                                      ( قلت ) وفي الإطلاقين نظر ، ويتعين أن يقال : يقبل قوله إذا كان ممن يخفى عليه أو مجهول الحال ، أما من علم أنه لا يخفى عليه فلا يقبل قوله ، وعلى هذا يحمل إطلاقهم ، وحيث بطل حق الرد بالتقصير يبطل حق الأرش أيضا .



                                      ( فرع ) لو اطلع على عيب قبل القبض ، تلزمه المبادرة على الفور أيضا ، على ما يظهر من كلامهم ، ولا يقال : إن له التأخير إلى القبض لأن كل ما كان قبل القبض من ضمان البائع ، ودوام العيب عيب



                                      ( فرع ) فيه تحقيق الكلام في الفور وكيفية الرد وحال الغيبة والمرض ؟ قال القاضي حسين عن عامة الأصحاب : إن عليه الفسخ على الفور . وعن الشيخ وهو القفال إن له التأخير إلى حضور مجلس [ ص: 337 ] الحكم ، هكذا رأيته في تعليقه . وأراد أبو سعد الهروي في النقل عن القاضي حسين أنه رد على القفال ، وقال : سبيله أن يفسخ الواقع منه لتيسر الإثبات له ، ويقرب منه ما تقدم عن صاحب التتمة ونقل عن عامة الأصحاب في الليل أنه لا بد من تلفظه بالفسخ . وعن القفال أنه يؤخر إلى وجود البائع أو الشهود أو مجلس الحكم . قال الإمام : إن تمكن من الفسخ بين يدي قاض فلا عذر في التأخير ، وإن لم يحضر خصمه ولم يتمكن من الإشهاد فليبتدر الرفع إلى القاضي بحيث لا يعد تقصيرا في العرف ، ولا يلزمه النطق بالفسخ قبل الحضور . فإن رفع إلى الحاكم مع حضور الخصم بطل حقه على المذهب ، وإن لم يجد الغريم فأمكنه أن يتلفظ بالرد ويشهد فلم يفعل ، ورفع إلى القاضي فوجهان . وقال الغزالي في البسيط : إن نهض إلى البائع كما اطلع لم يكن مقصرا ، وإن لم يكن حاضرا ورفع إلى القاضي فليس مقصرا ، وإن فسخ في بيته وأشهد فليس مقصرا ، وإن رفع إلى القاضي مع حضور الغريم بطل حقه على المذهب ، وإن لم يكن الغريم حاضرا وأمكن الإشهاد ، فلم يشهد ورفع إلى القاضي فوجهان ، وهو موافق لكلام الإمام ، وجزمه أولا بأنه إذا رفع إلى القاضي ليس مقصرا محمول على ما إذا لم يمكن الإشهاد ، جمعا بين أول كلامه وكلام الإمام أنه يرد على الغريم ، فإن لم يحضر فالإشهاد ، أو يكتفي بالحاكم وجهان ، فعلى أحد الوجهين الغريم ثم الإشهاد ثم الحاكم ، وعلى الوجه الآخر الغريم ثم الإشهاد أو الحاكم في رتبة واحدة ، وهذا إذا لم يكن حاضرا في مجلس الحكم ، فإن كان حاضرا بين يدي القاضي فلا يعذر في التأخير ، كما قدمه الإمام .

                                      وقال في الوسيط : إن كان العاقد حاضرا فليرد عليه في الحال ، وإن كان غائبا فليشهد على الرد اثنين ، فإن عجز فليحضر مجلس القاضي فإن رفع إلى القاضي والخصم حاضر فمقصر ، وإن كان الشهود حضورا فرفع إلى القاضي فوجهان إذ في الرجوع إلى القاضي مزيد تأكيد ، فاقتضى هذا الترتيب الغريم ثم الإشهاد ثم الحاكم ، وقيل الغريم ثم الإشهاد أو الحاكم في رتبة واحدة . [ ص: 338 ] وقال في الوجيز : ترد عليه في الوقت إن كان حاضرا ، وإن كان غائبا أشهد شاهدين حاضرين ، فإن لم يكن حاضرا عند القاضي فوافق ما في الوسيط ، قال الرافعي : وفي الترتيب المذكور إشكال يعني الذي في الوسيط والوجيز .

                                      قال : لأن الحضور في هذا الموضع إما أن يعني به الاجتماع في المجلس ، أو الكون في البلد فإن كان الأول فإذا لم يكن البائع عنده ولا وجد الشهود ، ولم يسع إلى القاضي ولا سعى إلى البائع واللائق لمن يمتنع من المبادرة إلى القاضي إذا وجد البائع أن يمنع منها إذا أمكنه الوصول إليه وإن كان الثاني فأي حاجة إلى أن يقول : شاهدين حاضرين ؟ . ومعلوم أن الغائب عن البلد لا يمكن إشهاده ، ثم على التفسيرين فكون حضور مجلس الحكم مشروطا بالعجز عن الإشهاد بعيدا ، أما على الأول فلأن حضور مجلس الحكم قد يكون أسهل عليه من إحضار من يشهده أو الحضور عنده وأما على الثاني فلأنه لو اطلع على العيب وهو حاضر في مجلس الحكم ينفذ فسخه ولا يحتاج إلى الإشهاد ، بل يتعين عليه ذلك إن أراد الفسخ ، فظهر أن الترتيب الذي يقتضيه ظاهر لفظ الكتاب غير مرعي . انتهى كلام الرافعي . ووافقه النووي على هذا الإشكال وقال : إن الترتيب الذي ذكره الغزالي مشكل خلاف المذهب وقال الرافعي : إن الذي فهمه من كلام الأصحاب أن البائع إن كان في البلد رد عليه بنفسه أو بوكيله ، كذا لو كان وكيله حاضرا ولا حاجة إلى المرافقة ، فلو تركه ورفع الأمر إلى مجلس الحكم فهو زيادة توكيد وحاصل هذا تخييره بين الأمرين . وإن كان غائبا عن البلد دفع الأمر إلى مجلس الحكم ، وإلى أن ينتهي إلى الخصم أو القاضي في الحالين لو تمكن من الإشهاد على الفسخ هل يلزمه ؟ وجهان . قطع صاحب التتمة وغيره باللزوم ، ويجري مجرى الخلاف فيما إذا أخر بعذر من مرض أو غيره ، ولو عجز في الحال عن الإشهاد فهل عليه التلفظ بالفسخ ؟ وجهان .

                                      ( أصحهما ) عند الإمام وصاحب التهذيب لا حاجة إليه ، انتهى ما ذكره الرافعي وهو مخالف لما قاله الإمام والغزالي في كون الرفع إلى القاضي مع حضور الخصم مبطلا ، كما يقوله الإمام ، وعند الرافعي هو مخير بينهما ومخالف له أيضا في الاكتفاء بالإشهاد عن الحضور إلى الحاكم [ ص: 339 ] كما يقتضيه كلام الغزالي في البسيط والوجيز ، وصدر كلام الإمام في النهاية .

                                      وعلى ما قاله الرافعي لا يكتفي بذلك جزما ، ولا يجوز التشاغل به عن الحاكم وزائد على كلام الإمام والغزالي بلزوم الإشهاد عند الإمكان إلى أن ينتهي إلى الخصم أو القاضي في الحالين على ما قطع به صاحب التتمة وغيره ، وإن كان آخر كلام الإمام والغزالي في البسيط يمكن حمله على الوجهين في ذلك الذي حكاهما الرافعي ، لكنه إن صح حمله على ذلك قاصر على الحاكم دون الخصم ، فهذه الأمور الثلاثة في كلام الرافعي رحمه الله ، وفي كلام الإمام زيادة بيان أنه إن تمكن من الفسخ بين يدي قاض فلا عذر في التأخير ، ومقتضى ذلك أنه مقدم على الجميع ، وهو كذلك بلا نزاع ، فقول الرافعي : إنه يخير بين الأمرين إن أراد في غير مجلس الاطلاع وهو الظاهر فبقيت عليه هذه الحالة لم يذكرها ، وإن أراد مطلقا اقتضى أنه من الحاكم ، ويذهب إلى البائع أو يترك البائع في المجلس ويذهب إلى الحاكم . وسنذكر عن ابن الرفعة ما فيه . وما ذكره الرافعي من أن الأصح عند الإمام وصاحب التهذيب أنه لا حاجة إلى التلفظ بالفسخ عند العجز مخالف لما تقدم عن القاضي حسين ونقله عن عامة الأصحاب وموافق لما نقله عن القفال ، وفيما ذكره الرافعي من التخيير بحيث لا بد من معرفته سأفرد له فرعا في آخر الكلام إن شاء الله تعالى .

                                      وقال ابن الرفعة في الكفاية ، على سبيل الإيراد على الغزالي : إن الإمام ذكر في الشفعة أن الشفيع لو ابتدر مجلس الحكم فهو فوق مطالبة المشتري ، وحكيا معا وجهين فيما إذا تمكن من الإشهاد وتركه ، ودفع إلى القاضي ، وهذا يدل على أن المضي إلى القاضي أقوى من لقاء الخصم ، وأن الإشهاد أقوى من المضي إلى القاضي هكذا كلامه في الكفاية . وقال في المطلب : إن مراد الغزالي هنا في الوسيط والوجيز بالحضور الحضور في البلد ، وكذلك مراده في البسيط هنا ويظهر على ذلك أن الرفع إلى القاضي مع حضور الخصم في البلد ليس بتقصير ، بل هو فوقه لاحتمال المنازعة . وأما الرفع إلى القاضي مع حضور الشهود مجلس الاطلاع ، ففيه الوجهان ، ثم قال ابن الرفعة : إنه على قولنا لا يجب الفسخ بحضرة [ ص: 340 ] الشهود ، فهل يجب عليه أن يشهد أنه طالب للرد : يشبه أن يكون فيه وجهان كالشفعة . ومن ذلك إن صح ينتظم ثلاثة أوجه ، ثالثها الإشهاد يعتبر عند تيسره على طلب الرد ، لا على نفس الرد .

                                      ( قلت : ) والصحيح كما تقدم عن الرافعي أنه يلزمه الإشهاد على نفس الرد ، وأما الإشهاد على أنه طالب الرد ولا يكفي فإنه ههنا يمكنه إنشاء الرد بحضرة الشهود وفي الشفعة لا يمكنه الأخذ إلا بأمور هي مقصودة إذ ذاك ، فليس المقدور في حقه إلا الإشهاد على الطلب ، ثم اعترض ابن الرفعة على نفسه بأن الإمام والغزالي في البسيط قالا في الشفعة : إن الشفيع إذا ترك مطالبة المشتري مع الحضور ، وابتدر الحاكم فهو فوق مطالبة المشتري . وهذا المعنى يجوز أن يقال في حالة حضور المشتري في البلد ، وحضوره مجلس الاطلاع على الشفعة ، ويجوز أن يقال مثله في الحالين في الرد بالعيب ، أجاب بأنه يحمل ما ذكره في الشفعة على حالة غيبة المشتري عن مجلس الاطلاع عليها ; لأن في حالة الحضور لا خلف على الشريك في قوله : أنا طالب بالشفعة أو تملكت بها ، أو وجد بدل المال ، فإن نازعه المشتري إذ ذاك رفعه إلى الحاكم ، وفي حال غيبة المشتري عن مجلس الاطلاع لا بد من المضي إما له أو للحاكم ، فكان مخيرا بينهما [ أيهما ] أحوط ، وهكذا لا تباين بين الكلامين . قال : وهذا قلته بناء على ما صار إليه معظم الأصحاب من أنه إذا أمن الرد على . . . لا يعذر بطلب الحاكم .

                                      أما إذا قلنا بما صار إليه القفال فيما حكى القاضي عنه فلا فرق بين الحالين في جواز تأخير الطلب إلى وقت الحضور بين يدي القاضي كما [ أن ] ذلك مقتضى إطلاق القاضي في تعليقه عنه ولا جرم ، قال الإمام مشيرا إلى هذا الوجه : لو كان المردود عليه حاضرا فابتدر القاضي فظاهر المذهب أنه يبطل حقه ، لكن حكاية الهروي عن القفال لا تدخل حالة قصوره مع البائع ، بل حال غيبته وتمكنه فيها من الإشهاد ، وإذا كان كذلك ظهر صحة ما قال الغزالي من الجزم بأنه يقصر ، يعني إذا رفع إلى القاضي والخصم حاضر . أي في مجلس الاطلاع . [ ص: 341 ] قلت ) ما حكى الهروي عن الشيخ أبي حامد أن الرفع إلى القاضي والطلب منه أن يحضر المشتري حتى يأخذ منه بالشفعة تطويل يبطل الحق . قال ابن الرفعة : وقد ينحل ما ذكرناه على ما يختاره من فهم كلام الوسيط اتباعا لما في الوجيز أن تأخير الرد بحضرة القاضي قد جمعهما مجلس الاطلاع تقصير جزما . وكذا تأخيره إذا اجتمع هو والمالك في مجلس الاطلاع وفيه ما سلف عن الإمام ، وقد عرفت اندفاعه ، وعند عدم حضور البائع مجلس الاطلاع لكنه حاضر في البلد ، هل يجعل بترك الإشهاد قبل الانتهاء إليه مقصرا ؟ وجهان جاريان فيما إذا كان غائبا عن البلد وترك الإشهاد قبل الانتهاء إلى القاضي ، المفهوم منهما في الوجيز أنه غير مقصر ، ولو لم يقدر على الإشهاد في حال حضور البائع في البلد أو غيبته عنها فلا تقصير إلا بإهمال طلب البائع أو القاضي . وهل يكون طلب القاضي تقصيرا في حال حضور البائع في البلد وتيسر طلبه قبل طلب القاضي ؟ فيه الوجهان عن القفال وغيره ومع ذلك لا يتوجه على الغزالي ما ذكرته في الكفاية وذكره الرافعي فيما يظنه فليتأمل .

                                      ( قلت : ) وملخص ذلك أنه إن حضر البائع مجلس الاطلاع رد جزما ، وإن حضر المشتري مجلس الاطلاع فكذلك ، لا على ما يفهمه كلام القاضي حسين من النقل عن القفال ، وإن لم يحضر أحد منهما مجلس الاطلاع وحضر في البلد فعلى ما قاله الرافعي ، واقتضى كلام الإمام في الشفعة أنه يكون مخيرا بين البائع والحاكم . وقال ابن الرفعة : إنه في هذه الصورة الوجهان عن القفال وغيره ، يعني فيكون التخيير على رأي القفال خاصة . وعامة الأصحاب على خلافه ، وليس بصحيح لأنه قد وافق عند تأويل كلام الإمام والغزالي في الشفعة أن الرفع إلى الحاكم أحوط . فهذه مناقشة في كلام ابن الرفعة . وأيضا مناقشة ثانية ، هي أن كلام الغزالي في الوسيط جعل الحضور إلى القاضي عند العجز عن الشهود ، وذلك يوهم الاكتفاء بالشهود ، ولم يقل به أحد من الأصحاب فيما علمته عند القدرة على القاضي أو البائع . ومناقشة ثالثة وهي أن ما ذكره لا يدفع اعتراض الرافعي في قوله : لم يسع إلى القاضي ولا يسعى إلى البائع كما يقتضيه كلام الغزالي .

                                      [ ص: 342 ] وقوله ) إن حضور مجلس الحكم قد يكون أسهل من إحضار الشهود ، فيكون الحضور إلى القاضي مشروطا بالعجز عن الشهود [ وهو ] كما يقتضيه كلام الغزالي بعيد ، وما ادعاه ابن الرفعة من إرادة حضور مجلس الحكم صحيح ولكن لا يدفع سؤال الشافعي رحمه الله ، فقد ظهر أن إشكال كلام الغزالي باق بحاله ، فإن اتضح بعض مراده وتلخيص الحكم على الصحيح الذي تحصل من كلام الرافعي وغيره ، وفي كل من الحالتين يجب الإشهاد إذا تيسر قبل الانتهاء إلى البائع أو الحاكم على الأصح ، ولا يجب التلفظ بالفسخ قبله على الأصح ، وتلخيصه بأيسر من هذا على الصحيح . وسأفرد للكلام في ذلك فرعا ، ولك أن تعبر بعبارة مختصرة فتقول : تجب المبادرة إلى البائع أو الحاكم ، فإن مر في طريقه إلى أحدهما بالآخر ولقي شهودا وجب إشهادهم قبل ذلك في الأصح ، وإذا أردت تمييز المراتب فاعلم أن المرتبة الأولى أن يحضر مع الحاكم في مجلس الاطلاع فيبادر ولا يؤخر قطعا ، على ما قاله ابن الرفعة واقتضاه كلام الإمام .

                                      ( الثانية ) أن يحضر البائع مجلس الاطلاع فكذلك لا على ما يقتضيه نقل القاضي حسين عن القفال أنه له التأخير إلى حضور مجلس الحكم حذرا من إنكار البائع .

                                      ( الثالثة ) حضور الشهود مجلس الاطلاع فلا يعذر في التأخير لإمكان الإثبات بهم ، ولم أر تصريحا بنقلها إلا ما تقدم من إطلاق أنه يجب الإشهاد قبل الانتهاء إلى الحاكم والبائع إن أمكن على الأصح ، ومقتضى ذلك أن يأتي ذلك الوجه هنا أيضا ، وقد قدمت ما فيه ، ففي هذه الصور الثلاث متى أخر عن مجلس الاطلاع بطل حقه إما جزما أو على الأصح . وظاهر هذا الإطلاق يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون الحاكم أبعد من البائع أو أقرب . وقد يقال ينبغي أنه إذا كان يمر في مضيه إلى أحدهما بالآخر يعذر ، كما لو كان معه في مجلس الاطلاع فلا يعذر في التأخير عنه إلى أن ينتهي إلى الآخر . وقد قدمت ذلك أيضا . وسنعيد الكلام فيه . [ ص: 343 ] الخامسة ) أن يكون الموجود في البلد واحدا منهما ، أما الحاكم أو البائع فلا شك في تعيينه .

                                      ( السادسة ) إذا لم يكن واحد منهما في البلد تعين الإشهاد .

                                      ( السابعة ) إذا كان الشهود في البلد وتيسر الاجتماع بهم قبل البائع أو الحاكم فيجب الإشهاد على الصحيح . وقال الغزالي في الشفعة : إن المذهب أنه لا يجب .

                                      ( الثامنة ) إذا كان الشهود في البلد ولا تيسر بهم الاجتماع قبل البائع أو الحاكم فلا يجب المضي إليهم جزما .

                                      ( التاسعة ) إذا كان الشهود في البلد تيسر الاجتماع بهم قبل البائع أو الحاكم فيجب الإشهاد على الأصح ولا يكفي جزما .

                                      ( العاشرة ) إذا لم يكن في البلد شيء من الثلاثة فهل يجب أن يتلفظ بالفسخ ؟ يأتي فيه الوجهان المذكوران في كلام الرافعي في حالة العجز عن الإشهاد ، الأصح عدم الوجوب .



                                      ( فرع ) إذا رفع الأمر إلى الحاكم عند غيبة الخصم على ما تقدم فكيف يدعي ؟ قال القاضي حسين في فتاويه : يدعي شراء ذلك الشيء من فلان الغائب بثمن معلوم وأنه أقبضه الثمن ثم ظهر العيب ، وأنه فسخ البيع ويقيم البينة على ذلك في وجه مسخر ينصبه القاضي ويحلفه القاضي مع البينة ; لأنه قضاء على الغائب ، ثم يأخذ المبيع منه ويضعه على يد عدل ، والثمن يبقى دينا على الغائب فيقضيه القاضي من ماله ، فإن لم يجد له سوى المبيع باعه لقضاء دينه ، هكذا قاله القاضي ونقله الرافعي عنه . وقوله في الدعوى : إنه فسخ البيع ، إنما ذكره القاضي تفريعا على رأيه في أنه لا يؤخر الفسخ حتى يحضر إلى الحاكم ، بل يفسخ عند الشهود أو وحده ، وأما على الأصح أنه لا يجب عليه التلفظ بالفسخ إذا لم يوجد الشهود وحضر عند الحاكم على ذلك فإنه ينشئ الفسخ عنده ، وتكون الدعوى التي يقيم البينة عليها بالشراء وقبض الثمن وظهور العيب فقط . وقوله : ينصب مسخرا . تفريع على رأيه أيضا في الاحتياج إليه في الدعاوى . والأصح عند غيره أنه لا يلزم القاضي [ ص: 344 ] نصب المسخر وتحليفه بعد البينة على الأصح من المذهب في الدعوى على الغائب . وقيل : يستحب . وقوله : " يقضيه القاضي من ماله " يشمل النقد وغيره . وهو في النقد ظاهر وأما غير النقد فيحتمل أن يقال إنه مثل البيع . فيتخير القاضي في بيع ما شاء منها ، ويحتمل أن يقال : إنه يتعين بيع المبيع لأنه أقرب إلى مقصود البائع . فإن عجز باع من غيره ليكمله . قال ابن الرفعة : وهو الذي يظهر . وليس كما قال لأنه ليس للبائع غرض في أخذ الثمن من المبيع دون غيره ، بل هو وغيره سواء ، فينبغي أن يحمل كلام القاضي على ذلك ولا يحمل على ماله سوى المبيع ; لأنه لا يتعين في ذلك ، والله تعالى أعلم .

                                      ( فرع ) فأما إذا رفع إلى القاضي في حال حضور الخصم في البلد على ما تقدم أنه مخير أو كان عند الحاكم في مجلس الاطلاع على العيب ، وقد تقدم أن المعتبر حينئذ المبادرة إلى الحاكم جزما ، فلظاهر أنه لا فائدة في ذلك إلا إعلام الحاكم بالفسخ ، وطلب غريمه ليدعي عليه وحينئذ فالاكتفاء بذلك عند الإشهاد مستمر على الصحيح أن القاضي يقضي بعلمه ، أما إذا منعنا من القضاء بالعلم فلا يفيده إخبار الحاكم بذلك وحده ، قبل مجيء الغريم ، وإذا جاء الغريم لا يمكنه أن يقول : إنه الآن كما اطلع على العيب ليقدم اعترافه عند الحاكم ، ولا يقبل قوله في قوله : الفسخ في ذاك الوقت ، ولا يمكن الحاكم أن يحكم له به تفريعا على منع الحكم بالعلم فيقف وهذا يحسن أن يكون مأخذا لتقديم الإشهاد وأنه لا يرفع إلى الحاكم عند العجز على الإشهاد على ما اقتضاه كلام الوسيط . لكن ذاك يقتضي تقديمه على النهوض إلى البائع أيضا ، وقد عرف بما ذكرته من علم الحاكم بتقديم علمه بالعيب ، وعدم انتفاعه بعلمه بالفسخ ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) الخصم الذي يرد عليه على وجه التعين أو التخير بينه وبين الحاكم من هو ؟ كلام المصنف ساكت عن ذلك ، وإطلاق كلام الغزالي والرافعي أنه البائع ، وذلك يقتضي أنه لا فرق بين أن يكون عقد لنفسه أو لغيره . قال ابن الرفعة : وفي الثانية نظر ( إذا قلنا ) لا عهدة تتعلق بالوكيل ، وعلى كل حال فله الرد على الموكل ( قلت ) والكلام في العهدة [ ص: 345 ] معروف في موضعه ، فلذلك حسن الإطلاق ههنا محالا على البيان ، ثم وقد صرح الرافعي في آخر هذا الباب بأن له الرد على الوكيل وعلى الوصي ، يعني إذا باشر الوصي أو الوكيل العقد وقد مر ذلك فيما إذا أوصى إليه ببيع عبده وشراء جارية بثمنه وإعتاقها ففعل ، ثم وجد المشتري عيبا بالعبد ، قام الوصي ببيع العبد المردود ، ويدفع الثمن إلى المشتري . قال : ولو فرض الرد بالعيب على الوكيل فهل للوكيل بيعه ثانيا ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) وبه قال أبو حنيفة رحمه الله كالوصي ليتم البيع على وجه لا يرد عليه ( وأصحهما ) لا ; لأنه امتثل المأمور ، وهذا ملك جديد فيحتاج إلى إذن جديد ويخالف الإيصاء فإنه تولية وتفويض ، ولو وكله بأن يبيع بشرط الخيار للمشتري ( فإن قلنا ) ملك البائع لم يزل ، فله بيعه ثانيا ( وإن قلنا ) زال وعاد ، فهو كالرد بالعبد ، ثم إذا باعه الوصي ثانيا ، فإن باعه بأقل من الثمن الأول فالنقصان على الوصي ، أو في ذمة الموصي ؟ فيه وجهان ( أصحهما ) الأول ، وبه قال ابن الحداد . وعلى هذا لو مات العبد في يده كما رد غرم جميع الثمن ، ولو باعه بأكثر من الثمن الأول لزيادة قيمة أو راغب دفع قدر الثمن للمشتري والباقي للوارث ، وإن لم يكن كذلك فقد بان بطلان البيع الأول للعين ويقع عتق الجارية عن الوصي إن اشتراها في الذمة ، وإن اشتراها بغير ثمن العبد لم ينفذ الشراء ولا الإعتاق وعليه شراء جارية أخرى وإعتاقها بهذا الثمن على الموصي ، هكذا أطلقه الأصحاب ولا بد فيه من تقييد لأن بيعه بالعين وتسليمه عن علمه بالحال ، حكاية ينعزل بها ، ولا يتمكن من شراء جارية أخرى ، هكذا قال الرافعي . قال النووي : الصورة مفروضة فيمن لم يعلم .

                                      ( وأما ) قول ابن الرفعة : على كل حال له الرد على الموكل ، يوهم أن ذلك بلا خلاف ، وليس كذلك بل الخلاف في العهدة فيهما جميعا ، فالصحيح مطالبتهما جميعا ، الوكيل والموكل ، وقيل : الوكيل دون الموكل ، وقيل : الموكل دون الوكيل والكلام هنا في المردود عليه ، فظهر أنه كذلك ، وقد ذكره في التحالف وذكروا خلافا فيه وفي ولي المحجور عليه إذا باشر العقد ، فأما الوكيل فلا شك في اتجاه رد الإتلاف هنا كما قلنا من العهدة . [ ص: 346 ] وأما ) ولي المحجور ففيه الجزم بالرد عليه ، وإلا فكيف الخلاص من رفع الجزم بالرد عليه إلى الظلامة ، وكذلك القاضي ونائبه في مال اليتيم . وأما الوارث فإنه يرد عليه وقد جزم أصحابنا بجريان التحالف معه . وأما الرد بالعيب هنا فقد ذكر الرافعي ما تقدم . وقد ذكر الشيخ أبو حامد وابن الصباغ وصاحب البحر المسألة أيضا . وأنه يرد على الوكيل أي جوازا . وهي من المسائل التي فرعها ابن سريج على الجامع الصغير لمحمد بن الحسن . والأصل فيها أن السلعة متى عادت إلى الوكيل بغير اختياره فله ردها على الموكل ، ومتى عادت إليه باختياره فلا ، فإن ردت عليه بعيب فإن كان بعيب لا يحدث مثله فالوكيل يرده على الموكل ، وإن لم يمكن تقدمه على القبض فقبله الوكيل لم يكن له رده على الموكل ، وإن احتمل فإن أقام المشتري بينة فالقول قول الوكيل ، فإن حلف سقط الرد وإلا ردت على المشتري ، فإن حلف ورد على الوكيل لم يرد على الموكل كما لو صدقه ، وقال القاضي الطبري : إن قلنا : رد الثمن بمنزلة البينة له رده على الموكل ، قال الروياني : وفيه نظر عندي يعني لأنها لا تتعدى إلى ثالث ( فرع ) الإشهاد الواجب أطلقه الرافعي وغيره . وقال الغزالي : يشهد اثنين . قال ابن الرفعة : وذلك على سبيل الاحتياط لأن الواحد مع اليمين كاف ، والأمر كما قال .



                                      ( فرع ) تقدم أنه إذا كان الخصم غائبا من البلد يرفع الأمر إلى مجلس الحكم والغيبة المذكورة لا شك أنه يكفي فيها مسافة القصر ، وهل تكفي مسافة العدوى ؟ قال ابن الرفعة : يشبه أن يكون فيها الخلاف في الاستعداء وقبول شهادة الفرع ، وكتاب القاضي إلى القاضي ، والدعاء لأداء الشهادة ، قال : وقد يقال : غيبته عن البلد وإن قلت المسافة كالغيبة البعيدة ، كما ذكر وجه في بعض الصور السالفة ; لأن في تكليف الخروج عنها مشقة لا تليق بما نحن فيه ، قال : وهذا ما يفهم كلام الرافعي الجزم به .

                                      ( قلت : ) والجزم بذلك هو الظاهر ، وإذا كان كلام الرافعي لا يقتضيه إلا بإطلاق الغيبة ، فإن جزم الأصحاب فيما تقدم بأن عند حضور الحاكم مجلس الاطلاع تجب المبادرة إليه يبعد معه أن يكون [ ص: 347 ] الحاكم حاضرا في البلد ، فيجوز تركه والمضي إلى البائع في دون مسافة القصر أو مسافة العدوى ، فينبغي أن يعتبر مطلق الغيبة إلا أن يكون موضع البائع خارج البلد ، أو أقرب من موضع الحاكم في البلد ، ففيه نظر .

                                      ( فرع ) تقدم من كلام الرافعي أنه مخير بين البائع والحاكم ، وهذا بإطلاقه يقتضي أنه يجد أحدهما ويعدل عنه إلى الآخر ، لا سيما قول الرافعي : إنه إن ترك البائع ورفع إلى الحاكم فهو زيادة تأكيد ، فإنه دل على هذا المعنى لكن هذا يرده تصريحهم : متى كان الحاكم في مجلس الاطلاع لا يجوز التأخر للبائع وبالعكس ، فيتعين حمل هذه العبارة على ما سوى هذه الصورة ، وأنه إنما يجوز له الذهاب إلى الآخر إذا لم يتفق له لقاء الآخر قبله ، ثم بعد ذلك قد يكون موضع الحاكم والبائع متساويين في القرب والبعد ، فظهر التخير ، وقد يكون أحدهما أقرب من غير أن يمر به بأن يكونا في جهتين ، فهل نوجب المضي إلى الأقرب منهما أو يكون التخيير مستمرا ؟ إطلاق كلامهم يدل على الثاني وهذا الفرع هو الذي وعدت به . ولأجل ما فيه قلت فيما تقدم : إنه إذا مر في طريقه بأحدهما لا يعذر في مجاوزته إلى الآخر .

                                      ( فرع ) وروى محمد بن سيرين قال : ابتاع عبد الرحمن بن عوف جارية فقيل له : إن لها زوجا ، فأرسل إلى زوجها فقال له : طلقها فأبى فجعل له مائتين فأبى ، فجعل له خمسمائة فأبى ، فأرسل إلى مولاها أنه قد أبى أن يطلق فاقبلوا جاريتكم ، تمسك بعض الناس بهذا الأثر ، والمدعي أنه لا مخالف له من الصحابة وهو محتمل لأن يكون عبد الرحمن لا يرى الخيار على الفور ، أو أنه لا يبطل بمثل هذا التأخير ، وليس في الأثر أنه رد جبرا ، فيحتمل أن مالكها رضي بردها ، وإن سقط بالتأخير فيكون إقالة ، وكل منهما مخالف للمذهب .



                                      ( فرع ) محل الذي تقدم من وجوب الفور في شراء الأعيان ، أما الموصوف المقبوض إذا وجد معيبا ( فإن قلنا ) : إنه يملكه بالرضا فلا شك أن الرد ليس على الفور ( وإن قلنا ) يملك بالقبض فيجوز أن يقال على الفور والأوجه المنع ; لأنه ليس معقودا عليه ، قاله الإمام ونقله الرافعي عنه في باب الكتابة ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية