الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى : ( إذا مسح على الخف ثم خلعه أو انقضت مدة المسح وهو على طهارة المسح قال في الجديد : يغسل قدميه ، وقال في القديم : يستأنف الوضوء ، واختلف أصحابنا في القولين فقال أبو إسحاق : هي مبنية على القولين في تفريق الوضوء ، فإن قلنا يجوز التفريق كفاه غسل القدمين ، وإن قلنا لا يجوز لزمه استئناف الوضوء ، وقال سائر أصحابنا : القولان أصل في نفسه : ( أحدهما ) يكفيه غسل القدمين لأن المسح قائم مقام غسل القدمين ، فإذا بطل المسح عاد إلى ما قام المسح مقامه كالمتيمم إذا رأى الماء . ( والثاني ) يلزمه استئناف الوضوء ; لأن ما أبطل بعض الوضوء أبطل جميعه كالحدث ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله : قال أبو إسحاق " هي مبنية " هكذا هو في النسخ أي المسألة ، وللشافعي رضي الله عنه في هذه المسألة نصوص مختلفة . قال المزني في مختصره : قال الشافعي رضي الله عنه : وإن نزع خفيه بعد مسحهما غسل قدميه ، قال : وفي القديم وكتاب ابن أبي ليلى يتوضأ ، هذا نقل المزني وقال في البويطي : من مسح خفيه ثم نزعهما فأحب إلي أن يبتدئ الوضوء ، فإن لم يفعل وغسل رجليه فقط وهو على طهارة المسح أجزأه ذلك ، وسواء غسلهما بقرب نزعه أو بعده ما لم ينتقص وضوءه ، هذا نصه في البويطي . وقال في الأم في باب ما ينقض المسح : إذا أخرج إحدى قدميه أو هما من الخف بعد مسحه فقد انتقض المسح وعليه أن يتوضأ ، وقال في الأم أيضا في باب وقت المسح على الخفين : لو مسح في السفر يوما وليلة ثم نوى الإقامة أو قدم بلده نزع خفيه واستأنف الوضوء ، لا يجزيه غير ذلك ، قال : ولو كان المسافر قد استكمل يوما وليلة ثم دخل في صلاة فنوى الإقامة قبل إكمال الصلاة فسدت صلاته وكان عليه أن يستقبل وضوءا ثم يصلي تلك [ ص: 554 ] الصلاة . قال بعده بأسطر : وإذا شك المقيم هل استكمل يوما وليلة أم لا ، نزع خفيه واستأنف الوضوء ، وقال في كتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى رضي الله عنهما من كتاب الأم أيضا : إذا صلى وقد مسح خفيه ثم نزعهما أحببت أن لا يصلي حتى يستأنف الوضوء ، فإن لم يزد على غسل رجليه جاز .

                                      فهذه نصوص الشافعي ومن هذه الكتب نقلتها . ونقل الأصحاب والمزني عن القديم أنه يجب الاستئناف ، ونقل ابن الصباغ والروياني وغيرهما أن الشافعي نص في حرملة أنه يكفيه غسل القدمين . وخالفهم البندنيجي وصاحب العدة فنقلا وجوب الاستئناف عن القديم والأم والإملاء وحرملة ، ونقلا جواز الاقتصار على القدمين عن البويطي وكتاب ابن أبي ليلى ، هذه نصوص الشافعي . واتفق الأصحاب على أن في المسألة قولين : ( أحدهما ) وجوب الاستئناف .

                                      ( والثاني ) يكفي غسل القدمين . ثم اختلفوا في أصلهما على ست طرق : ( أحدها ) أن أصلهما تفريق الوضوء ، إن جوزناه كفى غسل القدمين وإلا وجب الاستئناف ، وهذا الطريق قول ابن سريج وأبي إسحاق المروزي وأبي علي بن أبي هريرة وحكاه الشيخ أبو حامد والبندنيجي عن أبي العباس وأبي إسحاق وحكاه الماوردي عن أبي علي بن أبي هريرة وجمهور البغداديين . والطريق الثاني والقولان أصل بنفسه غير مبني على شيء ، وهذا الطريق نقله المصنف وغيره من الجمهور .

                                      ( والثالث ) هما مبنيان على قولين للشافعي في أن طهارة بعض الأعضاء إذا انتقضت هل ينتقض الباقي ؟ إن قلنا ينتقض وجب استئناف الوضوء وإلا كفى القدمان ، حكاه القاضي أبو الطيب في تعليقه والماوردي . قال الماوردي : هو قول أصحابنا البصريين .

                                      ( والرابع ) هما مبنيان على أن المسح على الخف هل يرفع الحدث عن الرجل ؟ إن قلنا : نعم وجب الاستئناف لأن الحدث عاد إلى الرجل فيعود إلى الجميع ، وإن قلنا لا يرفع كفى القدمان ، وهذا الطريق مشهور في طريقتي العراقيين والخراسانيين .

                                      ( والخامس ) أنهما مرتبان ومبنيان على تفريق الوضوء على غير ما سبق . فإن جوزنا التفريق كفى القدمان وإلا فقولان .

                                      ( والسادس ) عكسه إن منعنا التفريق وجب الاستئناف وإلا فقولان ، حكى هذين الطريقين الدارمي في الاستذكار . [ ص: 555 ] واختلف المصنفون في أرجح هذه الطرق فقال الشيخ أبو حامد : الصحيح الطريق الأول وهو البناء على تفريق الوضوء ، وقال الخراسانيون : هذا الطريق غلط صريح ، ممن صرح بذلك شيخهم القفال وأصحابه الثلاثة الشيخ أبو محمد والقاضي حسين والفوراني والمتولي والبغوي وآخرون ، قال إمام الحرمين : هذا الطريق غلط عند المحققين واحتجوا في تغليطه بأشياء ( أحدها ) أن التفريق لا يضر في الجديد بلا خلاف وقد نص على القولين في الجديد كما سبق .

                                      ( والثاني ) أن التفريق بعذر لا يضر وانقضاء المدة عذر .

                                      ( الثالث ) أن القولين جاريان مع قرب الزمان حتى لو توضأ ومسح الخف ثم خلعه قبل جفاف الأعضاء جرى القولان ، ولا خلاف أن مثل هذا التفريق لا يضر ، وهذا الثالث هو الذي اعتمده إمام الحرمين والمتولي والبغوي . وفرق الشيخ أبو محمد الجويني بين التفريق هنا وهناك بأن ماسح الخف إذا نزعه بطلت طهارة القدمين ، والطهارة إذا بطل بعضها بطلت كلها فلهذا جرى القولان مع قرب الزمان ، وأما من فرق الوضوء تفريقا يسيرا فلم يبطل شيء مما فعل فلهذا جاز له البناء بلا خلاف . وأجاب الشيخ أبو حامد عن الاعتراض الأول بأن الشافعي إنما نص في كتاب ابن أبي ليلى من الجديد على استحباب الاستئناف لا على وجوبه ، وهذا الجواب فاسد لأن الاستئناف منصوص عليه في غير كتاب ابن أبي ليلى من الكتب الجديدة كالأم وغيره مما سبق . وأما الاعتراض الثاني وهو أن التفريق بعذر لا يضر ، فلا يسلمه العراقيون كما سبق في بابه ، وأما الثالث وهو جريان القولين وإن نزع على الفور فلا يسلمه صاحب هذه الطريقة ، وقال القفال وسائر الخراسانيين والمحاملي من العراقيين أصح الطرق البناء على رفع الحدث ، والأصح أن المسح يرفع الحدث عن الرجل ، وضعف البندنيجي وابن الصباغ وصاحبه الشاشي وغيرهم البناء على رفع الحدث وقالوا : الأصح أنهما أصل بنفسه ، واختار الدارمي الطريق السادس ، فهذه طرق الأصحاب واختلافهم في أرجحها ، والأصح أنهما أصل في نفسه . وأما أصح القولين فاختلفوا فيه فصحح جماعة وجوب الاستئناف منهم الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب في تعليقه والمحاملي في كتابه وسليم الرازي [ ص: 556 ] في كتابه رءوس المسائل وصاحب العدة والشيخ نصر في كتابيه الانتخاب والتهذيب وقطع به جماعات من أصحاب المختصرات كالمقنع للمحاملي والكفاية لسليم الرازي والكافي للشيخ نصر .

                                      وصحح جماعة الاكتفاء بالقدمين منهم القاضي حسين والمصنف في التنبيه والروياني والبغوي والجرجاني في كتابيه التحرير والبلغة والشاشي في كتابيه والرافعي في كتابيه وقطع به جماعة من أصحاب المختصرات منهم الماوردي في كتابه الإقناع والغزالي في الخلاصة ، وهذا هو الأصح المختار ، فعلى هذا يستحب استئناف الوضوء كما نص عليه في كتاب ابن أبي ليلى وغيره ليخرج من الخلاف . ثم إذا قلنا يكفيه غسل القدمين فغسلهما عقب النزع أجزأه ، فإن أخر غسلهما حتى طال الزمان ففيه قولا تفريق الوضوء ، صرح به المتولي وصاحب العدة والروياني وغيرهم وهو واضح ، ويجيء حينئذ الخلاف في التفريق بعذر هل يؤثر أم لا ؟ والله أعلم . هذا كله إذا خلع الخفين وهو على طهارة المسح ، فإن كان على طهارة الغسل بأن كان غسل رجليه في الخف فطهارته كاملة ولا يلزمه شيء بلا خلاف بل يصلي بطهارته ما أراد وله أن يستأنف لبس الخفين بهذه الطهارة والله أعلم .

                                      وأما قول المصنف : ( قال في الجديد يغسل قدميه . وقال في القديم : يستأنف ) فظاهره أنه ليس في الجديد الاستئناف وليس كذلك بل في الجديد قولان كما سبق ، وقوله : واختلف أصحابنا في ذلك فقال أبو إسحاق : هي مبنية على تفريق الوضوء وقال سائر أصحابنا القولان أصل في نفسه ، هذا مما ينكر على المصنف لأن قوله سائر أصحابنا معناه باقيهم غير أبي إسحاق فهو تصريح بأن أبا إسحاق انفرد واتفق الباقون على خلافه ، وليس الأمر كذلك بل قد قال بمثل قول أبي إسحاق ابن سريج وأبو علي بن أبي هريرة والبغداديون كما سبق بيانه ، ولا يعذر المصنف في مثل هذا لأنه مشهور موجود في تعليق الشيخ أبي حامد والماوردي وهو كثير النقل منها والله أعلم .

                                      ( فرع ) إذا ظهرت الرجل وانقضت المدة وهو في صلاة بطلت صلاته بلا خلاف ، نص عليه الشافعي كما سبق في نصه في الأم واتفق عليه [ ص: 557 ] الأصحاب قالوا : ولا يجيء فيه القول القديم في سبق الحدث أنه يتوضأ ويبني لأن هذا مقصر بمضايقة المدة وترك تعهد الخف بخلاف من سبقه الحدث ، ودليل بطلان صلاته أن طهارته في رجليه ووجب غسلها بلا خلاف ، وفي الباقي القولان .

                                      ( فرع ) إذا لم يبق من مدة المسح قدر يسع صلاة ركعتين فافتتح صلاة ركعتين فهل يصح الافتتاح ثم تبطل الصلاة عند انقضاء المدة ؟ أم لا تصح أصلا ؟ ففيه وجهان حكاهما الروياني في البحر قال : وفائدتهما لو اقتدى به غيره ثم فارقه عند انقضاء المدة هل يصح اقتداؤه ؟ فيه الوجهان .

                                      ( قلت ) : وفائدة أخرى وهو أنه لو أحرم بركعتين نافلة ثم أراد أن يقتصر على ركعة ويسلم إن قلنا انعقدت جاز وإلا فلا ، والأصح الانعقاد لأنه على طهارة في الحال فكيف يمتنع انعقاد صلاته . والله أعلم .

                                      ( فرع ) في مذاهب العلماء فيمن خلع خفيه أو انقضت مدته وهو على طهارة المسح . قد ذكرنا أن في مذهبنا قولين : أصحهما يكفيه غسل القدمين .

                                      ( والثاني ) يجب استئناف الوضوء ، وللعلماء أربعة مذاهب : ( أحدها ) يكفيه غسل القدمين وبه قال عطاء وعلقمة والأسود وحكي عن النخعي وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه والثوري وأبي ثور والمزني ورواية عن أحمد رضي الله عنهم . ( والثاني ) يلزمه استئناف الوضوء وبه قال مكحول والنخعي والزهري وابن أبي ليلى والأوزاعي والحسن بن صالح وإسحاق وهو أصح الروايتين عن أحمد رضي الله عنه .

                                      ( الثالث ) إن غسل رجليه عقب النزع كفاه وإن أخر حتى طال الفصل استأنف الوضوء وبه قال مالك والليث .

                                      ( الرابع ) لا شيء عليه لا غسل القدمين ولا غيره بل طهارته صحيحة يصلي بها ما لم يحدث كما لو لم يخلع ، وهذا المذهب حكاه ابن المنذر عن الحسن البصري وقتادة وسليمان بن حرب واختاره ابن المنذر وهو المختار الأقوى ، وحكاه أصحابنا عن داود إلا أنه قال : يلزمه نزعهما ولا يجوز أن يصلي فيهما . وهذه المذاهب تعرف أدلتها مما ذكره المصنف رحمه الله وجرى في خلال الشرح إلا مذهب الحسن [ ص: 558 ] فاحتج له بأن طهارته صحيحة فلا تبطل بلا حدث كالوضوء ، وأما نزع الخف فلا يؤثر في الطهارة بعد صحتها كما لو مسح رأسه ثم حلقه ، وقال أصحابنا : الأصل غسل الرجل والمسح بدل ، فإذا زال وجب الرجوع إلى الأصل . والله أعلم



                                      ( فرع ) إذا نزع أحد خفيه فهو كنزعهما وهذا مذهبنا ومذهب جمهور العلماء منهم مالك والثوري وأبو حنيفة والأوزاعي وابن المبارك وأحمد رضي الله عنهم وحكى ابن المنذر عن الزهري وأبي ثور أنهما قالا : يغسل التي نزع خفها ويمسح على خف الأخرى : دليلنا أنهما كعضو واحد ولهذا لا يجب الترتيب فيهما فصار ظهور أحدهما كظهورهما والله أعلم




                                      الخدمات العلمية