الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( ومن ملك عينا وعلم بها عيبا لم يجز أن يبيعها حتى يبين عيبها . لما روى عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : { المسلم أخو المسلم ، فلا يحل لمسلم باع من أخيه بيعا يعلم فيه عيبا إلا بينه له } فإن علم غير المالك بالعيب لزمه أن يبين ذلك لمن يشتريه لما روى أبو سباع قال : { اشتريت ناقة من دار واثلة بن الأسقع فلما خرجت بها أدركنا عقبة بن عامر فقال : هل بين لك ما فيها ؟ قلت : وما فيها ؟ إنها لسمينة ظاهرة الصحة . فقال : أردت بها سفرا أم أردت بها لحما ؟ قلت : أردت عليها الحج قال : إن بخفها نقبا . قال صاحبها : أصلحك الله ما تريد إلى هذا تفسد علي ؟ ، ، قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يحل لأحد يبيع [ ص: 299 ] شيئا إلا بين ما فيه ، ولا يحل لمن يعلم ذلك إلا بينه فإن باع ولم يبين العيب صح البيع . لأن النبي صلى الله عليه وسلم صحح البيع في المصراة } مع التدليس بالتصرية ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) حديث عقبة بن عامر هذا رواه ابن ماجه وأخرجه الحاكم في المستدرك وقال : هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه . فأما حكمه بصحته فصحيح ; لأن رواته كلهم ثقات من رجال الصحيح ولا يظهر فيه علة مانعة ، وأما قوله إنه على شرط الشيخين ففيه نظر ; لأن في رواته يحيى بن أيوب وهو الغافقي ، وشيخ شيخه عبد الرحمن بن شماسة وكلاهما لم يرو عنه البخاري ، وإنما هما من أفراد مسلم . وللحاكم شيء كثير مثل هذا ، وذلك محمول منه - والله أعلم - على أن الرجال المذكورين في إسناد هذا الحديث لا تقصر رتبتهم عن الرجال الذين اتفق الشيخان عليهم وإثبات ذلك صعب ، فإنه يتوقف على سير جميع أحوال هؤلاء وهؤلاء ، والموازنة بينهما ، وإن تأتى ذلك في النادر فإنه يصعب في الأكثر ، ولعل عند البخاري شيئا من حال الشخص الذي لم يخرج له لا نطلع نحن عليه ، فدعوى أنه على شرطه فيها ما علمت . نعم هذا الحديث على شرط مسلم لأن الرجلين المذكورين أخرج لهما مسلم والباقين متفق عليهم . وقد ذكر البخاري في جامعه الصحيح هذا الحديث من كلام عقبة بن عامر فقال في ( باب إذا بين البيعان ولم يكتما ونصحا . وقال عقبة بن عامر : { لا يحل لامرئ يبيع سلعة يعلم بها داء إلا أخبره } ) أورده هكذا معلقا ، وذلك لا يقدح في رواية من رواه مرفوعا ، وعقبة أفتى بذلك بمقتضى الحديث الذي سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم . ( واعلم ) أن في لفظ الحديث في رواية كل من ابن ماجه والحاكم مخالفة يسيرة في اللفظ لما ذكره المصنف رحمه الله في الكتاب ، فإن لفظ ابن ماجه { المسلم أخو المسلم ، ولا يحل لمسلم باع لأخيه بيعا فيه عيب إلا بينه له } ولفظ الحاكم كذلك ، وكذلك البيهقي عنه { المسلم [ ص: 300 ] أخو المسلم ، ولا يحل لمسلم إن باع من أخيه بيعا فيه عيب أن لا يبينه له } وليس في شيء من الروايتين التقييد بالعلم كما في كلام المصنف رحمه الله وإن كان العلم لا بد منه في التكليف ، ولكن ترك ذكره كما في الرواية أبلغ من الزجر عن ذلك وأدعى إلى الاحتياط والاحتراز ، فإنه قد يكون بالمبيع عيب لا يعلمه البائع ، ولكنه متمكن من الاطلاع عليه ، ولو بحث عنه واستكشفه لعلمه ، فإهماله لذلك وتركه الاستكشاف مع تجويزه له تفريط منه لا يمنع تعرضه للإثم بسببه ، نعم التقييد بالعلم مذكور في الأثر الذي ذكره البخاري من كلام عقبة ، وبقية المخالفة في اللفظ يسيرة لا يتعلق بها معنى ، وكل الألفاظ المذكورة تدل على أن الذي لا يحل هو الكتمان لا البيع ومعرفة هذا هنا نافعة في صحة البيع كما سيأتي إن شاء الله تعالى في آخر الفصل . وروى هذا الحديث عقبة بن عامر بن عبس - بباء موحدة من تحت ساكنة - الجهني ، وفي نسبه وكنيته اختلاف كثير ، والأصح في كنيته أبو حماد سكن مصر وكان واليا عليها ، وتوفي بها في آخر خلافة معاوية ، روى عنه جماعة من الصحابة وخلق من التابعين ، وسند هذا الحديث من يحيى بن أيوب إليه ، وهم أربعة كلهم مصريون ، وقبر عقبة معروف مشهور بالقرافة . وحديث واثلة بن الأسقع الذي ذكره المصنف رحمه الله أخرجه الحاكم في المستدرك من طريق أبي سباع المذكور ، وقال : هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه ، وفي حكمه بصحته نظر فإنه من رواية أبي جعفر الرازي عن يزيد بن أبي مالك عن أبي السباع ، وأبو جعفر الرازي وهو عيسى بن عبد الله بن ماهان التميمي ، وثقه يحيى بن معين وأبو حاتم الرازي وتكلم فيه جماعة ، قال الفلاس : سيئ الحفظ ، وقال أبو زرعة الرازي : يهم كثيرا وقال أحمد : ليس بقوي وقال مرة : مضطرب الحديث وقال مرة : صالح الحديث وعن الساجي أنه قال : صدوق ليس بمتقن وقال ابن حبان : كان ممن ينفرد بالمناكير عن المشاهير ، لا يعجبني الاحتجاج بخبره إلا فيما يوافق الثقات ولا يجوز الاعتبار بروايته فيما يخالف الأثبات . [ ص: 301 ] وأما يزيد بن أبي مالك فقال يعقوب الفسوي : في حديثه لين وابنه خالد ، هذا ما قاله الفسوي ، وقال أبو حامد : من فقهاء الشام وهو ثقة ، وسأل أبو زرعة عنه فأثنى عليه خيرا ، وهو يزيد بن عبد الرحمن بن أبي مالك ، وقد روى عنه واثلة نفسه ، وما قاله أبو حاتم وأبو زرعة فيه أولى مما قاله الفسوي . وأما أبو سباع فشامي تابعي لم أعلم من حاله غير ذلك ، وواثلة بن الأسقع الراوي لهذا الحديث من الصحابة المشهورين وهو من بني ليث بن بكر بن عبد مناف بن كنانة ، واختلف في نسبه إلى ليث ، ولا خلاف أنه من بني ليث ، أسلم والنبي صلى الله عليه وسلم يتجهز إلى تبوك ويقال : إنه خدم النبي صلى الله عليه وسلم ثلاث سنين ، وعلى هذا يكون إسلامه قبل تبوك إن كان المراد ثلاث سنين كوامل ، وكان من أهل الصفة سكن الشام بقرية يقال لها البلاط على ثلاثة فراسخ من دمشق ، وشهد المغازي بدمشق وحمص ، ثم تحول إلى بيت المقدس ومات بها ، وهو ابن مائة سنة . وقال ابن معين : توفي سنة ثلاث وثمانين وهو ابن مائة وخمس سنين ، كذا قال البخاري في التاريخ الكبير ، ورواه في الصغير عن ابن عياش ، وهو إسماعيل عن سعيد بن خالد ، وقيل : بل توفي بدمشق في آخر خلافة عبد الملك سنة خمس أو ست وثمانين . قال أبو مسهر : ويحيى بن بكير : مات سنة خمس وثمانين وهو ابن ثمان وتسعين سنة يكنى أبا الأسقع ، وقيل : أبو محمد ، وقيل : أبو قرصافة ، وهذا القول الثالث في كنيته قال البخاري : إنه وهم وقيل : أبو الخطاب نقله البغوي في معجمه والصحيح في نسبه واثلة بن الأسقع بن عبد العزى بن عبد ياليل بن ناشب بن غيرة بن سعد بن ليث بن بكر والأسقع بقاف وغيره - بغين معجمة مكسورة وياء مثناة من تحت مفتوحة - ومن فضائله ما ذكره البخاري في تاريخه عنه قال : لما نزلت { إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت } فقال : وأنا من أهلك ؟ فقال : وأنت من أهلي ، [ ص: 302 ] قال : فهذا أرجا ما أرتجي ، وأكثر الناس يقولون فيه : واثلة بن الأسقع ، وروي عن مكحول قال هو واثلة بن عبد الله بن الأسقع . وأبو السباع شامي تابعي ذكره الحاكم أبو أحمد وابن عساكر من طريقه ولم يزد على ذلك ، وروى البيهقي هذا الحديث في السنن الكبير عن الحاكم وأبي بكر المخزومي معا بذلك الإسناد ، ولفظ الحديث في المستدرك وسنن البيهقي كما ذكره المصنف رحمه الله إلا شيئا يسيرا فيه " فلما خرجت بها أدركني واثلة ، وهو يجر رداءه فقال : يا عبد الله اشتريت ؟ قلت : نعم قال : بين لك ما فيها ؟ " والباقي سواء في المعنى وهذان الحديثان اللذان ذكرهما المصنف رحمه الله عن عقبة وواثلة متفقان على تحريم كتمان البائع العيب . ويزيد حديث واثلة بتحريم ذلك على غير البائع أيضا إذا علمه وقد وردت أحاديث في المعنى غير ما ذكره المصنف منها عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم { مر على صبرة طعام فأدخل يده فيها فنالت أصابعه بللا فقال : ما هذا يا صاحب الطعام ؟ قال : أصابته السماء يا رسول الله . قال : أفلا جعلته فوق الطعام حتى يراه الناس ؟ من غش فليس مني } رواه مسلم في أول كتابه الصحيح وأصحاب السنن .

                                      وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم { مر برجل يبيع طعاما فقال : كيف تبيع ؟ فأخبره فأوحى الله إليه أن أدخل يدك فيه فأدخل يده فإذا هو مبلول ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من غش } رواه البيهقي . وعن العداء : - بفتح العين وتشديد الدال المهملة وبعدها ألف ممدودة - ابن خالد قال : كتب إلي النبي صلى الله عليه وسلم { هذا ما اشترى محمد رسول الله من العداء بن خالد بيع المسلم المسلم لا داء ولا خبثة ولا غائلة } رواه البخاري تعليقا ، فقال : ويذكر عن العداء بن خالد . وقال قتادة : الغائلة الزنا والسرقة والإباق - وهكذا هو في البخاري : { اشترى محمد رسول الله من العداء بن خالد } والخبثة ما كان غير طيب الكسب ، وسأل الأصمعي سعيد بن أبي عروبة عنها فقال : بيع أهل عهد المسلمين ، والأول أصح ، وهي - بكسر الخاء [ ص: 303 ] وسكون الباء الموحدة وبالثاء المثلثة - فكأنه يقول : لا مرض ولا حرام ولا شيء يغوله أي بملكه من إباق وغيره . ورواه الترمذي وابن ماجه متصلا كلاهما عن محمد بن بشار عن عباد بن الليث عن عبد المجيد بن وهب قال : قال لي العداء بن خالد بن هوذة : { ألا أقرؤك كتابا كتبه لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قلت : بلى فأخرج لي كتابا : هذا ما اشترى العداء بن خالد بن هوذة من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم اشترى منه عبدا أو أمة لا داء ولا غائلة ولا خبثة بيع المسلم المسلم } قال الترمذي : هذا حديث حسن غريب ، وعن مكحول وسليمان بن موسى كليهما عن واثلة بن الأسقع قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { من باع عيبا ولم يبينه لم يزل في مقت الله ولم تزل الملائكة تلعنه } رواه ابن ماجه . وعن عمير بن سعيد عن عمه وهو الحارث بن سويد النخعي قال : { خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى البقيع فرأى طعاما يباع في غرائر فأدخل يده فأخرج شيئا كرهه فقال : من غشنا فليس منا } قال الحاكم في المستدرك : هذا حديث صحيح . وعن أبي الحمراء قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بجنبات رجل عنده طعام في وعاء فأدخل يده فيه فقال : لعلك غششت : من غشنا فليس منا } رواه ابن ماجه والأحاديث في تحريم الغش ووجوب النصيحة كثيرة جدا وحكمها معلوم من الشريعة ، وكتمان العيب غش ، وفي حديث حكيم بن حزام الثابت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { البيعان بالخيار ما لم يتفرقا فإن صدقا وبينا بورك لهما في بيعهما ، وإن كذبا وكتما محقت بركة بيعهما } .

                                      وعن تميم الداري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { الدين النصيحة } وعن جرير رضي الله عنه قال : { بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم على إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة والنصح لكل مسلم } رواهما مسلم . [ ص: 304 ] أما اللغة ) فالعيب ، قال الجوهري : العيب والعيبة والعاب بمعنى واحد تقول عاب المتاع إذا صار ذا عيب وعيبته أنا يتعدى ولا يتعدى فهو معيب ومعيوب أيضا على الأصل فيقول : ما فيه معابة ومعاب أي عيب ، والمعاب العيوب ، وعيبه نسبه إلى العيب ، وعيبه جعله ذا عيب وتعيبه مثله . وقال ابن فارس : العيب في الشيء معروف وقد قسم أصحابنا العيب وأوضحوه وبينوه بيانا شافيا ، وسأذكر ذلك إن شاء الله تعالى عند قول المصنف : والعيب الذي يرد به المبيع ما يعده الناس عيبا . والنقب - بفتح النون والقاف وبعدها باء موحدة ، وهو مصدر نقب بكسر القاف ينقب بفتحها - يقال : نقب خف البعير إذا رق وحفي ونقب الخف إذا تخرق ، ويقال نقب البيطار - بفتح القاف - سرة الدابة ليخرج منها ماء ، وتلك الحديدة منقب ، وذلك المكان منقب ، وقوله بخفها قال أهل اللغة : الخف للبعير والحافر للفرس والبغل والحمار ، وما ليس بمنشق القائم من الدواب والظلف للبقر والغنم والظباء ، وكل حافر منشق منقسم . والتدليس المراد به إخفاء العيب مأخوذ من الدلسة وهي الظلمة ، وقال الأزهري : التدليس أن يكون بالسلعة عيب باطن ولا يخبر البائع المشتري بذلك العيب الباطن ويكتمه إياه فإذا كتم البائع العيب ولم يخبر به فقد دلس ، ويقال فلان لا يدلس ولا يواكس أي لا يخادع ، وما في فلان دلس ولا وكس ، أي ما فيه خبث ولا مكر ولا خيانة . هذا من كلام الأزهري رحمه الله .

                                      ( أما الأحكام ) فقد تضمن الفصل ثلاث مسائل : الأولى أن من ملك عينا وعلم بها عيبا لم يجز أن يبيعها حتى يبين عيبها ، وهذا الحكم متفق عليه للنصوص المتقدمة لا خلاف فيه بين العلماء قال الشافعي رحمه الله في آخر باب الخراج بالضمان من المختصر : " وحرام التدليس . وكذلك جميع الأصحاب " . [ ص: 305 ] وأما ما قاله الجرجاني في الشافي والمحاملي في المقنع أنه إذا كان مع الرجل سلعة وبها عيب يعلمه وأراد بيعها ، استحب له إظهاره ، فعبارة رديئة موهمة وإن ذلك غير واجب ، وذلك لا يقوله أحد له علم ، وتقييد المصنف رحمه الله بالعلم قد تقدم شيء من الكلام فيه . وإن نص الحديث مطلق بخلاف ما أورده المصنف رضي الله عنه في التنبيه . ومن علم بالسلعة عيبا لم يجز أن يبيعها حتى يبين عيبها ، وذلك يشمل المالك والوكيل والولي . وعبارته هنا مختصة بالمالك ، لكن الوكيل والولي يندرج في قوله هنا : وإن علم غير المالك بالعيب لزمه أن يبين ، وقول المصنف رحمه الله في الكتابين جميعا يدل على أن البيع عند كتمان العيب محرم .

                                      وعبارة الشافعي في قوله : وحرام التدليس . وكذلك عبارة كثير من الأصحاب تدل على حرمة كتمان العيب ووجوب بيانه ولم يتعرض للبيع ، وكذلك ألفاظ الأحاديث في ذلك . وقد أشرت إلى هذا المعنى فيما تقدم ولكن لا منافاة بين الكلامين ، وكلا الأمرين حرام وحرمتهما مختلفة ، فالتدليس حرام بالقصد في نفسه ، والبيع ليس حراما لذاته ولكن حرام لغيره ، وضبط هذا نافع فيما سيأتي في صحة البيع . وفي عبارة المصنف والأصحاب وألفاظ الحديث تنبيه على أنه لا يكفي البائع العالم بالعيب أن يقول : هو معيب ، أو يبيعه بشرط البراءة من العيوب ، أو يقول : إن به جميع العيوب أو إنه لا يضمن غير الحل كما جرت عادة بعض الناس بفعل ذلك ، بل لا بد من بيان العيب المعلوم بعينه والعبارات الأولى كلها فيها إجمال لا بيان وقد يظن المشتري سلامته عن ذلك ، فإن البائع إنما قال ذلك حذرا من العهدة بخلاف ما إذا نص له على العيب بعينه ، فإنه يدخل فيه على بصيرة . وإطلاق المصنف رحمه الله والأصحاب والشافعي حرمة التدليس ووجوب البيان يتناول ما إذا كان المشتري مسلما أو كافرا ولفظ الأحاديث التي ذكرت واستدل بها المصنف رحمه الله إنما تدل على المسلم للمسلم ، وهذا كما تقدم ورد في الخطبة على خطبة أخيه ، والسوم على سومه وجمهور العلماء رحمهم الله على أنه لا فرق في ذلك بين المسلم والكافر . [ ص: 306 ] وحكى الرافعي في كتاب النكاح عن أبي عبيد بن حربويه من أصحابنا في الخطبة أن المنع مخصوص بما إذا كان مسلما ، أما الذمي فتجوز الخطبة على خطبته قال : وبمثله أجاب في السوم على السوم .

                                      ( قلت ) فيحتمل أن يطرد ذلك هنا أيضا ، ويجعل تحريم الكتمان خاصا بما إذا كان المشتري مسلما ، ويوافقه ما تقدم في الحديث ببيع المسلم المسلم ، لا داء ولا خبثة ، وفسر سعيد بن أبي عروبة الخبثة بيع أهل العهد ، ويحتمل أن لا يطرد ابن حربويه مذهبه هنا ، وهو الأقرب ويفرق بأن الخطبة على الخطبة والسوم على السوم ليس فيه إلا إيغار الصدور ، وذلك حاصل في حق الكافر . وأما كتمان العيب ففيه ضرر بين وأخذ المال الذي بذله المشتري ثمنا على ظن السلامة ، وله استرجاعه عند الاطلاع ، فكيف يحكم بإباحة ذلك على ما لا يظن بأحد من العلماء القول به ؟ على أن قول ابن حربويه في الخطبة على الخطبة والسوم على السوم مخالف لقول جمهور العلماء ، قالوا : تحرم الخطبة على خطبة الكافر أيضا ، وممن وافق ابن حربويه في الخطبة على الخطبة الأوزاعي ، والظاهر أنه لا يطرد ذلك في مسألتنا هنا للفرق المتقدم . ومن الحجة على تعميم الحكم في مسألتنا وفي مسألة الخطبة والسوم على البيع قوله صلى الله عليه وسلم : { لهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين } . وأما التقييد في هذه الأحاديث فإنه خرج على الغالب ولا يكون له مفهوم ، أو أن المقصود التهييج والتنفير عن فعل هذه الأمور مع من يشاركه في الإسلام والآخرة ، ويثبت عمومه بدليل آخر والله أعلم .



                                      ( المسألة الثانية ) أنه إن علم غير المالك بالعيب أن يبين ذلك لمن يشتريه للحديث الثاني الذي ذكره المصنف ، ولقوله صلى الله عليه وسلم : [ ص: 307 ] { الدين النصيحة } والأحاديث في ذلك كثيرة صحيحة صريحة . وممن صرح بهذه المسألة مع المصنف رحمه الله ابن أبي عصرون والنووي في الروضة من زياداته وذلك مما لا أظن فيه خلافا لوجوب النصيحة . وقد دخل في قول المصنف غير المالك البائع بوكالة أو ولاية الذي دل كلامه في التنبيه عليه وغير البائع ومن ليس له تعلق بهما ، إلا أنه اطلع على العيب وإن كان أجنبيا ، كما في قصة واثلة بن الأسقع وله ثلاثة أحوال : ( أحدها ) أن يعلم أن البائع أعلم المشتري بذلك ، فلا يجب عليه الإعلام في هذه الحالة لحصول المقصود بإعلام البائع .

                                      ( الحالة الثانية ) أن يعلم أو يظن أو يتوهم أن البائع لم يعلمه فيجب عليه لإطلاق الحديث ، ولقصة واثلة ، فإنه استفسر من المشتري هل أعلمه البائع ، فدل على أنه لم يكن جازما بعدم إعلامه ، وذلك لأنه من جملة النصح . لكن هذا إنما يكون إذا كان التوهم بمحتمله ، فلو وثق بالبائع لدينه وغلب على ظنه أنه يعلم المشتري به وهي الحالة الثالثة ، فيحتمل أن يقال : لا يجب عليه الإعلام في هذه الحالة لظاهر حال البائع . وخشية من التعرض لإيغار صدره والبائع يتوهمه أنه أساء الظن به ويحتمل أن يقال : إنه يجب الاستفسار كما فعل واثلة بن الأسقع لأن الأصل عدم الإعلام ولا يجدون في الاستفسار مع عموم الحديث في وجوب التبيين . هذا كله إذا كان البائع عالما بالعيب . فإن كان الأجنبي عالما به وحده وجب عليه البيان بكل حال . وأما وقت الإعلام ففي حق البائع قبل البيع ، فلو باع من غير إعلام عصى كما تقدم ، وفي حق الأجنبي قبل البيع أيضا عند الحاجة ، فإن لم يكن حاضرا عند البيع أو لم يتيسر له وجب عليه الإعلام بعده ليرد بالعيب كما فعل واثلة ، ولا يجوز له تأخير ذلك عن وقت حاجة المشتري إليه والله أعلم .

                                      ( فرع ) قال الإمام : الضابط فيما يحرم من ذلك أن من علم شيئا يثبت الخيار فأخفاه أو لم يوضح ما ينبغي في تدليس فيه فقد [ ص: 308 ] فعل محرما ، فإن لم يكن السبب مسببا للخيار فترك التعرض له لا يكون من التدليس المحرم ولا يجب ذكر القيمة فإن الغبن لا يثبت بمجرده خيار ، والله أعلم



                                      ( المسألة الثالثة ) إن باع ولم يبين العيب صح البيع مع المعصية . قال الشافعي رحمه الله في المختصر : " وحرام التدليس ولا ينقض به البيع " وجملة القول في ذلك أن البائع إذا باع سلعة يعلم أن فيها عيبا ، فإما أن يشترط فيها السلامة مطلقا أو عن ذلك العيب ، وإما أن يطلق ، فإن أطلق واقتصر على كتمان العيب وهي مسألة الكتاب ، فمذهبنا وجمهور العلماء أن البيع صحيح ، ونقل المحاملي والشيخ أبو حامد وغيرهما عن داود أنه لا يصح . ونقله ابن المغلس عن بعض من تقدم من العلماء أيضا . واحتج أصحابنا بحديث المصراة كما ذكره المصنف رضي الله عنه فإن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مشتري المصراة بالخيار إن شاء أمسك وإن شاء رد مع التدليس الحاصل من البائع بالتصرية وهي عيب مثبت للخيار بمقتضى الحديث ، فدل على أن التدليس بالعيب وكتمانه لا يبطل البيع ، وبأن النهي لمعنى في العاقد والنهي إذا كان لمعنى في العاقد لا يمنع صحة البيع كالبيع على بيع أخيه ، وإنما يبطل النهي إذا توجه إلى المعقود عليه كالنهي عن الملامسة والمنابذة ، ألا ترى أن النهي عن بيع وقت النداء لما لم يرجع إلى ذات العقد لم يقتض الفساد ، بل ما نحن فيه أولى بالصحة ; لأن البيع وقت النداء متوجه إليه ، وإن كان معللا بأمر خارج . وأما هنا في المصراة فلم يرد النهي على البيع ، وإنما ورد هنا على كتمان العيب كما أشرت إليه فيما تقدم وفي المصراة على التصرية ، فليس البيع منهيا عنه أصلا ، بل هو من حيث هو مباح ، والحرام هو الكتمان ، والبيع وقت الجمعة منهي عنه لاشتماله على التفويت ، فلتفهم الفرق بين الموضعين . وبهذا يجاب عن استدلال الظاهرية بقوله صلى الله عليه وسلم : { كل عمل ليس عليه أمرنا فهو رد } فنقول : التدليس هو المنهي عنه ، وهو مردود .

                                      ( فإن قلت : ) قد تقدم أن البائع إذا لم يبين العيب حرام ، [ ص: 309 ] وأن المصنف رحمه الله صرح به في التنبيه ، وإذا كان كذلك فهو مثل البيع وقت النداء ، فلم يكن أولى منه بالصحة ( قلت ) لا شك أن المراتب ثلاث : ( المرتبة الأولى ) وهي أعلاها ما كان منهيا عنه لمعنى فيه ، كبيع الملامسة . ( المرتبة الثانية ) ما كان منهيا عنه لا لمعنى فيه من حيث هو ، بل لاستلزامه أمرا ممنوعا كالبيع وقت النداء فهو مستلزم للتفويت الممنوع ، أو هو فرد من أفراد ما يحصل به التفويت ، والمتضمن أو المستلزم للممنوع ممنوع . ( المرتبة الثالثة ) وهي أدناها ما لم ينه عنه أصلا ولكن به يتحقق ما هو منهي عنه ، فهذا لم يخرجه الشرع عن قسم الإباحة فهو كسائر المباحات إذا استلزم شيء منها محرما في بعض الأوقات ، لا نقول : إنه ينقلب من الإباحة إلى التحريم ، ويوضح لك هذا أنه في المرتبة الثانية إذا اشتغل بالبيع وفوت السعي للجمعة يأثم إثمين : إثم للبيع المنهي عنه ، وإثم لتفويت الواجب ، وفي هذه المرتبة لا يأثم إلا إثما واحدا على الغش وكتمان العيب على البيع ، ولا يأثم على البيع إثما آخر .

                                      وإذا حكمنا على البيع المقارن للغش بالتحريم كذلك حكم على المجموع المتضمن للغش المحرم ، وليس المراد أن ذلك الفعل حرام ثم ، أي ليس البيع أصلا في حالة من الأحوال مستلزما للكتمان ; لأن كل بيع يمكن أن يخبر معه بالعيب ، ولا يجوز الحكم على البيع بالتحريم إلا على الوجه الذي بينته ، إذ يراد تحريم المجموع أعني البيع مع الغش فليس البيع وحده منهيا عنه بطريق القصد ، ولا بطريق الاستلزام ، وقد وافق الظاهريون أو من وافق منهم على تصحيح البيع مع النجش قالوا : لأن البيع غير النجش ، وذلك يوافق ما قلناه هنا ووافقوا على تصحيح البيع مع تلقي الركبان ونص الحديث على ذلك ، فهو حجة لنا هنا أيضا . والظاهرية في المصراة ونحوها يجعلون ذلك خارجا بالنص ويتمسكون فيما عدا ذلك بما ذكروه ، وقد تبين الجواب عنه بحول الله [ ص: 310 ] وقوته .

                                      وذكر البيهقي في باب صحة البيع الذي وقع فيه التدليس حديثا رواه البخاري { أن ابن عمر اشترى إبلا هيما من شريك لرجل يقال له نواس من أهل مكة ، فأخبر نواس أنه باعها من شيخ كذا وكذا . فقال : ويلك ، فجاء نواس إلى ابن عمر فقال : إن شريكي باعك إبلا هيما ولم يعرفك ، قال : فاستقها إذن ، فلما ذهب ليستاقها قال ابن عمر : دعها . رضينا بقضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لا عدوى } ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) نقل الماوردي قبل باب : لا يبيع حاضر لباد ، عن أبي علي بن أبي هريرة أنه كان يقول : في ثمن التدليس حرام ، لا ثمن المبيع ، ألا ترى أن المبيع إذا مات يرجع على البائع بأرش عيب التدليس فدل على أنه أخذ منه بغير استحقاق ، وهذا شيء عجيب ، كيف يكون الثمن حراما والبيع صحيحا ؟ وسيأتي في باب المرابحة كلام في ذلك في مسألة الإخبار بالزيادة ، ولعل مراد ابن أبي هريرة هنا أن القدر الزائد بسبب التدليس الذي يستحق استرجاعه عند فوات المبيع هو المحرم ، لا جملة الثمن وهو ظاهر كلامه ، ومع ذلك فيه نظر ; لأنه لو رضي المشتري بالعيب استقر ملك البائع على الثمن كله ولو لم يرض به - والمبيع قائم - استرجعه كله ، فإن كان عدم استقراره موجبا للوصف بالتحريم فليكن جميعه حراما أو لا فلا يكون شيء منه حراما .



                                      ( فرع ) هذا كله في مسألة الكتاب إذا باع من غير شرط ، ولكنه كان عالما بالعيب ، أما لو اشترط السلامة فكانت معيبة ، أو شرط وصفا وأخلف ، فالمشهور الصحة ، وثبوت الخيار كحالة الإطلاق . وحكى الرافعي عن الحناطي أنه حكى قولا غريبا أن الخلف في الشرط يوجب فساد البيع وهو يوافق ما تقدم عن الظاهرية ، وهم قائلون بذلك في الشرط أيضا ، ولا يلزم طرد هذا القول الغريب هناك ; لأن تعلق الغرض بالوصف المشروط لفظا أقوى ، وعند الإطلاق العقد متعلق بالمتعين ، وإن كان العرف يقتضي السلامة ، فهذا فرق على القول الذي حكاه الحناطي حتى لا يلزم طرده ، وإن كان هو ضعيفا ; لأن مورد العقد المعين مع الشرط أيضا ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية