الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
        صفحة جزء
        [ ص: 281 ] 3 - حكم في النكاح يدفعه الكتاب

        الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها

        قالوا : رويتم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : لا تنكح المرأة على عمتها ولا على خالتها ، وأنه قال : يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، والله - عز وجل - يقول : حرمت عليكم أمهاتكم وبناتكم إلى آخر الآية .

        ولم يذكر الجمع بين المرأة وعمتها وخالتها ولم يحرم من الرضاع إلا الأم المرضعة والأخت بالرضاع ، ثم قال : وأحل لكم ما وراء ذلكم ، دخلت المرأة على عمتها وخالتها وكل رضاع سوى الأم والأخت فيما أحله الله تعالى .

        قال أبو محمد : ونحن نقول : إن الله - عز وجل - يختبر عباده بالفرائض ليعلم كيف طاعتهم أو معصيتهم ، وليجازي المحسن والمسيء منهم من غير أن يكون فيما أحله أو حرمه علة توجب التحليل أو التحريم ، وإنما يقبح كل قبيح بنهي الله تعالى عنه ، ويحسن الحسن بأمر الله - عز وجل - به خلا أشياء جعل الله في الفطر استقباحها : كالكذب ، والسعاية ، والغيبة ، والبخل ، والظلم ، وأشباه ذلك .

        [ ص: 282 ] فإذا جاز أن يبعث الله - عز وجل - رسولا بشريعة فتستعمل حقبا من الدهر ويكون المستعملون لها مطيعين لله تعالى ، ثم يبعث رسولا ثانيا بشريعة ثانية تنسخ تلك الأولى ويكون المستعملون لها مطيعين لله تعالى ، كبعثه موسى - عليه السلام - بالسبت ، ونسخ السبت بالمسيح - عليه السلام - ، وبعثه إياه بالختان في اليوم السابع ، ونسخ ذلك أيضا بالمسيح - عليه السلام - ، جاز أيضا أن يفرض شيئا على عباده في وقت ، ثم ينسخه في وقت آخر والرسول واحد ، وقد قال - عز وجل - : ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها ، يريد بخير منها أسهل منها .

        وإذا جاز أن ينسخ الكتاب بالكتاب ، جاز أن ينسخ الكتاب بالسنة ؛ لأن السنة يأتيه بها جبريل - عليه السلام - عن الله - تبارك وتعالى - ، فيكون المنسوخ من كلام الله تعالى الذي هو قرآن بناسخ من وحي الله - عز وجل - الذي ليس بقرآن .

        ولذلك قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أوتيت الكتاب ومثله معه .

        يريد أنه أوتي الكتاب ومثل الكتاب من السنة ؛ ولذلك قال الله - عز وجل - : وما آتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا .

        وقد علم الله - عز وجل - أنا نقبل منه ما بلغنا عنه من كلام الله تعالى ، ولكنه علم أنه سينسخ بعض القرآن بالوحي إليه ، فإذا وقع ذلك قدح في بعض القلوب وأثر في بعض البصائر فقال لنا : وما آتاكم الرسول فخذوه ، أي : ما آتاكم به الرسول مما ليس في القرآن أو مما ينسخ القرآن فاقبلوه .

        [ ص: 283 ] قال أبو محمد : والسنن - عندنا - ثلاث : ( الأولى ) سنة أتاه بها جبريل - عليه السلام - عن الله تعالى ، كقوله : لا تنكح المرأة على عمتها وخالتها ، ويحرم من الرضاع ما يحرم من النسب ، ولا تحرم المصة ولا المصتان ، والدية على العاقلة ، وأشباه هذه من الأصول .

        ( والسنة الثانية ) سنة أباح الله له أن يسنها وأمره باستعمال رأيه فيها ، فله أن يترخص فيها لمن شاء على حسب العلة والعذر ، كتحريمه الحرير على الرجال وإذنه لعبد الرحمن بن عوف فيه لعلة كانت به ، وكقوله في مكة : لا يختلى خلاها ولا يعضد شجرها . فقال العباس بن عبد المطلب : يا رسول الله ، إلا الإذخر ، فإنه لقيوننا ، فقال : إلا الإذخر ، ولو كان الله تعالى حرم جميع شجرها لم يكن يتابع العباس على ما أراد من إطلاق الإذخر ، ولكن الله تعالى جعل له أن يطلق من ذلك ما رآه صلاحا ، فأطلق الإذخر لمنافعهم .

        [ ص: 284 ] ونادى مناديه - صلى الله عليه وسلم - لا هجرة بعد الفتح ، ثم أتاه العباس شفيعا في أخي مجاشع بن مسعود ليجعله مهاجرا بعد الفتح فقال : أشفع عمي ولا هجرة .

        ولو كان هذا الحكم نزل لم تجز فيه الشفاعات ، وقال : عادي الأرض لله ولرسوله ، ثم هي لكم مني ، فمن أحيا مواتا فهو له .

        وقال في العمرة : ولو استقبلت من أمري ما استدبرت لأهللت بعمرة .

        [ ص: 285 ] وقال في صلاة العشاء : لولا أن أشق على أمتي لجعلت وقت هذه الصلاة هذا الحين .

        ونهى عن لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، وعن زيارة القبور ، وعن النبيذ في الظروف ، ثم قال : إني نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث ، ثم بدا لي أن الناس يتحفون ضيفهم ويحتبسون لغائبهم فكلوا وأمسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن زيارة القبور فزوروها ولا تقولوا هجرا ، فإنه بدا لي أنه يرق القلوب ، ونهيتكم عن النبيذ في الظروف فاشربوا ولا تشربوا مسكرا .

        قال أبو محمد : ومما يزيد في وضوح هذا حديث حدثنيه محمد بن خالد بن خداش قال : حدثني مسلم بن قتيبة قال : حدثنا يونس عن مدرك بن عمارة قال : دخل النبي - صلى الله عليه وسلم - حائط رجل من الأنصار فرأى رجلا معه نبيذ في نقير ، فقال : أهرقه ، فقال الرجل : أوتأذن لي أن أشربه ثم لا أعود ؟ فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : اشربه ولا تعد .

        [ ص: 286 ] فهذه الأشياء تدلك على أن الله - عز وجل - أطلق له - صلى الله عليه وسلم - أن يحظر وأن يطلق بعد أن حظر لمن شاء ، ولو كان ذلك لا يجوز له في هذه الأمور لتوقف عنها كما توقف حين سئل عن الكلالة وقال للسائل : هذا ما أوتيت ولست أزيدك حتى أزاد .

        وكما توقف حين أتته المجادلة في زوجها تسأله عن الظهار فلم يرجع إليها قولا ، وقال : يقضي الله - عز وجل - في ذلك ، وأتاه أعرابي وهو محرم وعليه جبة صوف وبه أثر طيب فاستفتاه فما رجع إليه قولا حتى تغشى ثوبه وغط غطيط الفحل ، ثم أفاق فأفتاه .

        ( والسنة الثالثة ) ما سنه لنا تأديبا ، فإن نحن فعلناه كانت الفضيلة في ذلك ، وإن نحن تركناه فلا جناح علينا إن شاء الله ، كأمره في العمة بالتلحي ، وكنهيه عن لحوم الجلالة وكسب الحجام .

        وكذلك نقول في تحريمه لحوم الحمر الأهلية وكل ذي ناب من السباع وذي مخلب من الطير مع قول الله - عز وجل - : قل لا أجد في ما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به .

        [ ص: 287 ] أراد أنه لا يجد في وقت نزول هذه السورة أكثر من هذا في التحريم ، ثم نزلت المائدة ونزل فيها تحريم المنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ، فزادنا الله تعالى فيما حرم بالكتاب ، وزادنا في ذلك على لسان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تحريم سباع الوحش والطير والحمر الأهلية .

        وكذلك نقول في قصر الصلاة في الأمن مع قول الله - تبارك وتعالى - : فليس عليكم جناح أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا .

        أعلمنا أنه لا جناح علينا في قصرنا مع الخوف ، وأعلمنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه لا بأس بالقصر في الأمن أيضا عن الله - عز وجل - ، وكذلك المسح على الخفين مع قول الله تعالى : فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق وامسحوا برءوسكم وأرجلكم ، وقد روى عيسى بن يونس عن الأوزاعي عن يحيى بن أبي كثير أنه قال : السنة قاضية على الكتاب ، وليس الكتاب بقاض على السنة . أراد أنها مبينة للكتاب منبئة عما أراد الله تعالى فيه .

        التالي السابق


        الخدمات العلمية