الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    70 - ( فصل )

                    [ ص: 135 ] الطريق العاشر الحكم بشهادة امرأتين ويمين المدعي في الأموال وحقوقها : وهذا مذهب مالك ، وأحد الوجهين في مذهب الإمام أحمد ، حكاه شيخنا واختاره ، وظاهر القرآن والسنة يدل على صحة هذا القول ، فإن الله سبحانه أقام المرأتين مقام الرجل ، والنبي صلى الله عليه وسلم قال في الحديث الصحيح : { أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل ؟ قلن : بلى } ( 146 ) ، فهذا يدل بمنطوقه على أن شهادتها وحدها على النصف ، وبمفهومه على أن شهادتها مع مثلها كشهادة الرجل ، وليس في القرآن ولا في السنة ، ولا في الإجماع ما يمنع من ذلك بل القياس الصحيح يقتضيه ، فإن المرأتين إذا قامتا مقام الرجل - إذا كانتا معه - قامتا مقامه وإن لم تكونا معه ، فإن قبول شهادتهما لم يكن لمعنى الرجل ، بل لمعنى فيهما ، وهو العدالة وهذا موجود فيما إذا انفردتا ، وإنما يخشى من سوء ضبط المرأة وحدها وحفظها ، فقويت بامرأة أخرى .

                    فإن قيل : البينة على المال إذا خلت من رجل لم تقبل ، كما لو شهد أربع نسوة ، وما ذكرتموه ينتقض بهذه الصورة ، فإن المرأتين لو أقيمتا مقام الرجل من كل وجه لكفى أربع نسوة مقام رجلين ، وتقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين .

                    وأيضا ، فشهادة المرأتين ضعيفة ، فقويت بالرجل ، واليمين ضعيفة ، فينضم ضعيف إلى ضعيف فلا يقبل .

                    وأيضا ، فإن الله سبحانه قال : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ، فلو حكم بامرأتين ويمين لكان هذا قسما ثالثا ؟ والجواب : أما قولكم : " أن البينة إذا خلت عن الرجل لم تقبل " ، فهذا هو المدعي ، وهو محل النزاع ، فكيف يحتج به ؟ وقولكم : " كما لو شهد أربع نسوة " ، فهذا فيه نزاع ، وإن ظنه طائفة إجماعا كالقاضي وغيره .

                    قال الإمام أحمد في الرجل يوصي ولا يحضره إلا النساء قال : أجيز شهادة النساء فظاهر هذا أنه أثبت الوصية بشهادة النساء على الانفراد ، إذا لم يحضره الرجال .

                    وذكر الخلال عن أحمد : أنه سئل عن الرجل يوصي بأشياء لأقاربه ويعتق ، ولا يحضره إلا النساء : هل تجوز شهادتهن ؟ قال : نعم ، تجوز شهادتهن في الحقوق . وقد تقدم ذكر المواضع التي قبلت فيها البينات من النساء ، وأن " البينة " اسم لما يبين الحق ، وهو أعم من أن يكون برجال ، أو نساء ، أو نكول ، أو يمين ، أو أمارات ظاهرة ، والنبي صلى الله عليه وسلم قد قبل شهادة المرأة في الرضاع ، وقبلها الصحابة في مواضع قد ذكرناها ، وقبلها التابعون . [ ص: 136 ]

                    وقولكم : " وتقبل في غير الأموال شهادة رجل وامرأتين " .

                    قلنا : نعم ، وذلك موجود في عدة مواضع ، كالنكاح ، والرجعة ، والطلاق ، والنسب ، والولاء ، والإيصاء ، والوكالة في النكاح وغيره على إحدى الروايتين . وقولكم : " شهادة المرأتين ضعيفة ، فقويت بالرجل ، واليمين ضعيفة ، فينضم .

                    ضعيف إلى ضعيف ، فلا يقبل " .

                    جوابه : أنا لا نسلم ضعف شهادة المرأتين إذا اجتمعتا ، ولهذا يحكم بشهادتهما إذا اجتمعتا مع الرجل ، وإن أمكن أن يؤتى برجلين ، فالرجل والمرأتان أصل لا بدل ، والمرأة العدل كالرجل في الصدق والأمانة والديانة ، إلا أنها لما خيف عليها السهو والنسيان قويت بمثلها ، وذلك قد يجعلها أقوى من الرجل الواحد أو مثله ، ولا ريب أن الظن المستفاد من شهادة مثل أم الدرداء وأم عطية ، أقوى من الظن المستفاد من رجل واحد دونهما ودون أمثالهما .

                    وأما قوله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان } ولم يذكر المرأتين واليمين .

                    فيقال : ولم يذكر الشاهد واليمين ، ولا النكول ، ولا الرد ، ولا شهادة المرأة الواحدة ، ولا المرأتين ، ولا الأربع نسوة ، وهو سبحانه لم يذكر ما يحكم به الحاكم ، وإنما أرشد إلى ما يحفظ به الحق ، وطرق الحكم أوسع من الطرق التي تحفظ بها الحقوق .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية