الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وفي بيع الأرض طريقان : من أصحابنا من قال : فيه قولان ، لأنها في يد البائع إلى أن يحصد الزرع ، فكان في بيعها قولان كالأرض المستأجرة ، ومنهم من قال : يصح بيع الأرض قولا واحدا لأن المبيع في يد المشتري ، وإنما يدخل البائع للسقي أو الحصاد ، فجاز بيعه قولا واحدا كالأمة المزوجة ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) الطريقان مشهوران ، والأولى منسوبة إلى أبي إسحاق المروزي ، وجمهور الأصحاب على الطريقة الثانية ، وهي التي صححها الرافعي وغيره وقاسوها على بيع الدار المشحونة بأمتعة البائع ، وعلى بيع الأمة المزوجة ، وفرقوا بينها وبين الدار المستأجرة بأن يد المستأجر حائلة بكل حال ، فكان كما لو أجر أمته ثم باعها بطل [ ص: 92 ] البيع على أحد القولين ، ولو زوجها ثم باعها صح البيع قولا واحدا ، وذكر الشيخ أبو حامد أن الأصحاب فرقوا بفرقين آخرين لا يتضحان لم نذكرهما ، ورد الجمهور طريقة التخريج على القولين بأنه لو كان في معنى تلك الصورة لوجب القطع بالفساد لأن مدة بقاء الزرع مجهولة ، ألا ترى أن بيع الدار التي استحقت المعتدة سكناها ، إذا كانت العدة معلومة كالأشهر فيها قولان ؟ وإذا كانت مجهولة كالحمل والإقراء بطل قولا واحدا . وذكرابن الرفعة سؤالا قد يعترض به على هذا ، وهو أن لأبي إسحاق أن يقول : مدة الزرع - وإن لم تعلم يقينا - فالعرف الغالب يضبطها ، فإن فرض مخالف فنادر ، وزمنه يسير مغتفر ، والمنع من بيع دار المعتدة بالأقراء ليس لما ذكر ، بل لأنها قد تموت فتكون المنفعة عائدة للمشتري ، ولهذا نقول على طريقة قاطعة لا يصح ، وإن كانت عدتها بالأشهر ، وهذا السؤال مندفع بمن لها عادة مستقيمة في الأقراء والحمل ، فإنه لا يصح بيع الدار التي استحقت سكناها للعدة ، وإن كانت العادة تضبطها ، فلما لم يغتفر ذلك كذلك لا يغتفر مثله في مدة الزرع .

                                      ( وقوله : ) إن المنع من بيع دار المعتدة بالأقراء ليس لما ذكر إلى آخره لا يحسن ، فإن الكلام إنما هو في القطع بالفساد ، ولا يجوز أن تكون العلة في ذلك ما ذكره وإلا لقطعنا بالفساد في دار المعتدة بالأشهر ، فمستند القطع بالفساد في دار المعتدة بالأقراء والحمل وعدم إجراء الخلاف فيه إنما هو الجهالة .

                                      ( وأما ) قوله : إن المنافع تكون عائدة للمشتري ، فاعلم أن المنقول في توجيه الطريقة القاطعة التي ذكرها أن منفعة الدار المعتد فيها ليست مملوكة للمعتدة ، فإنه لو ماتت كانت منافعها للزوج ، فيكون إذا باعها كمن باع دارا واستثنى منفعتها لنفسه مدة معلومة ، والظاهر فيه البطلان ، والذي يليق بهذه الطريقة إذا صححنا بيعها أن تكون المنافع باقية على ملك الزوج إن كان مطلقا ، أو ورثته إن كان ميتا ، فإذا ماتت المعتدة بقيت منافع بقية المدة من الأشهر على الزوج أو ورثته ، ولا تكون للمشتري ، وإنما تكون للمشتري لو نزلنا استحقاق [ ص: 93 ] المعتدة منزلة استحقاق المستأجر ، فحينئذ يجيء فيه الخلاف المذكور فيما إذا عرض ما يفسخ الإجارة : هل تكون منفعة بقية المدة للمشتري أو للبائع ؟ فيه وجهان ، فقد تبين أن السؤال المذكور غير متوجه ، والله أعلم . ( فإن قلت : ) إلحاق بيع الأرض المزروعة بالدار المشحونة بالأمتعة غير متجه لإمكان الاشتغال بتسليم الدار عقيب العقد ، ووجوب ذلك ، فالمنفعة مستحقة للمشتري في تلك المدة بخلاف مدة بقاء الزرع ، وإلحاقها بالأمة المزوجة أيضا غير متجه لأن الأمة المزوجة يمكن تسليمها الآن ووضع اليد عليها بخلاف الأرض المزروعة فإن التخلية التامة مع وجوب إبقاء الزرع غير حاصلة ، فوجب إما القطع بالبطلان أو بدار المعتدة ، ولا قائل به وإما إجراء الخلاف إلحاقا بالعين المستأجرة كما قال أبو إسحاق .

                                      ( قلت : ) شرط إلحاق مسألة بأخرى اشتراكهما في مناط الحكم مع عدم الفارق ولا يكفي الاشتراك فيما ليس مناط الحكم في الأصل ، ولا شك أن بين المسائل الخمس قدرا مشتركا من جهة عدم حصول ملك المنفعة للمشتري عقيب العقد ، ولما اتفقوا على صحة بيع الأمة المزوجة دل على أن ذلك غير مقتض لإبطال البيع ، وأن مأخذ البطلان ليس هو عدم حصول المنفعة للمشتري بل عدم القدرة على تسليم العين لثبوت يد المعتدة والمستأجر الحائلتين بين المشتري وبينها ، وأما الأرض المزروعة والدار المشحونة ، والأمة المزوجة ، فثلاثتها مشتركة في أنه لا يد حائلة فالمقتضي للبطلان إذا أجري فيه لعدم اشتراكهما في مناط الحكم ، والأرض المزروعة لها شبه من كل من الدار المشحونة والأمة المزوجة تشبه الدار المشحونة من جهة أن لكل منهما أمدا ينتظر ، ويفترقان في الاشتغال بالتسليم عقيب البيع في الدار دون الأرض ، وتشبه الأمة المزوجة في أن كلا منهما يستحق فيه استيفاء ملك المنفعة على المشتري ، ولا يجب إزالتها عقيب العقد ، ويفترقان في أن الزرع له غاية بخلاف النكاح ، فلذلك حسن قياسها عليها ، وقياسها على الأمة أرجح ، كما فعل المصنف فإنه قد يقال : إن منفعة الدار في مدة التفريغ مستحقة للمشتري ، ولذلك وجب على البائع تفريغها ، [ ص: 94 ] فلم يكن المبيع مسلوب المنفعة بخلاف الأمة المزوجة والأرض المزروعة فإن منفعتهما غير مستحقتين للمشتري مدة بقائهما . ولم أعلم أحدا حكى في صحة بيع الدار المشحونة بالأمتعة خلافا وذكروا الطريقين في الأرض المزروعة قال الإمام : ولا شك أن القياس يقتضي التسوية بينهما ، إذ لا فرق ، ويمكن أن نقول ما ذكرناه من تخصيص الخلاف بالأرض المزروعة . وحكى الإمام في أن المشتري إذا كان جاهلا بأن الدار مشحونة هل يثبت له الخيار ؟ وجهان ، والمذهب ثبوته أما الأرض المزروعة فيثبت الخيار جزما عند الجهل ، سواء قلنا : إن تسليمها يمكن أم لا لعدم إمكان الانتفاع بها في الحال ؟ إلا أن يختار البائع قلع الزرع ويكون غير ضار بالأرض فلا خيار ، كما سيأتي الوجه الذي نقله الإمام في عدم ثبوت الخيار في الدار المشحونة بالأمتعة ، وأن الغالب في العادة اشتمال الدار على أمتعة ثم إنها تفرغ بعد ذلك ، والله أعلم .

                                      ( التفريع ) بائع الأرض المزروعة إذا خلى بينها وبين المشتري فهل يحكم بصيرورتها في يده ؟ فيه وجهان ( أحدهما ) لا ، لأنها مشغولة بملك البائع كالدار المشحونة بالأمتعة ( وأصحهما ) على ما ذكره الإمام والغزالي والرافعي ، نعم لحصول التسليم في الرقبة وهي المبيعة ، وأما الدار المشحونة فالتسليم فيها متأت في الحال ، فلا حاجة تدعو إلى التخلية قبله ، على أن الإمام أورد فيها وجها أن اليد لا تثبت فيها بخلاف الأرض وجعل في المسألتين ثلاثة أوجه ، وادعى أن ظاهر المذهب ثبوت اليد فيها ، وحكاه غير الإمام أيضا . وحكى الغزالي في البسيط وجها أن اليد لا تثبت في الدار ولا تثبت في الأرض فيجتمع من نقله ونقل الإمام أربعة أوجه ، ووجه الفرق على الوجه المحكي في البسيط أن التشاغل بالتفريغ ممكن ، فنزل الممكن الذي لا عسر فيه منزلة الموجود ، قال ابن الرفعة : ولعل القائل بأنه لا يحصل التسليم هو أبو إسحاق المروزي ، فلا يصح إبطال مذهبه ، يعني في البيع إلا بإقامة الدليل على صحة القبض ، وهذان الوجهان في صحة تسليم الأرض المزروعة يؤخذان من لفظ الكتاب ، فإنه ذكر [ ص: 95 ] في تعليل الطريقة الأولى أنها في يد البائع وفي تعليل الثانية أن المبيع في يد المشتري وقد يقول الفقيه : هذان التعليلان متصادمان .

                                      ( والجواب ) أن ذلك يحتمل ، إذا كان في أحد الكلامين زيادة كما في هذه الصورة ، فإن في تعليل الطريقة الثانية ما ينبه على دفع خيال التعليل الأول ، وتبين أن قوله : إنها في يد البائع ليس كذلك ، لأن المبيع هو العين ، والعين في يد المشتري ، ودخول البائع لأجل السقي والحصاد المتعلقين بالزرع خاصة لا يمنع ثبوت اليد على العين ، والله أعلم . ( تنبيه ) من قال بصحة تسليمها مزروعة لا شك أنه يقول بصحة البيع ، ومن لم يقل به يحتمل أن يقول بتخريجها على العين المستأجرة كما قال أبو إسحاق ويحتمل أن يجزم بالصحة ويفرق بما تقدم من أن العين المستأجرة عليها يد حائلة ، والأرض المزروعة في يد بائعها ، لكنه قد يكون الزرع لغير البائع وهو مستحق الإبقاء فيساوي يد الإجارة .



                                      ( فرع ) لو انقلع الزرع قبل المدة لحاجة أو جذه البائع قبل وقت حصاده وجب عليه تسليم الأرض ، وليس له استبقاء الأرض ما بقي مدة الزرع ، لأنه إنما يستحق من الأرض ما كان صالحا لذلك الزرع ، قاله الماوردي والأصحاب ، ولو كان الزرع مما لو جذ قبل حصاده قوي أصله واستخلف ، وفرخ كالدخن فجذه قبل حصاده كان له استبقاء الأصل الباقي إلى أوان الحصاد لأنه من جملة ذلك الزرع ، وليس له استيفاء ما استخلف وفرخ بعد الحصاد ، لأنه غير ذلك الزرع ، وعلى البائع قلعه ، ولا يملكه المشتري كما يملك أصل القت الذي يجذ مرة ، لأن القت أصل ثابت ، والزرع فرع زائل ، واستخلاف بعضه نادر ، قال ذلك الماوردي . ( فرع ) قال الرافعي : كل زرع لا يدخل في البيع لا يدخل ، وإن قال : بعت الأرض بحقوقها ، يحكى ذلك عن الشيخ أبي حامد ، قال الرافعي : ورأيته لمنصور التميمي في المستعمل أيضا ( قلت : ) وقد رأيت ذلك في تعليق أبي حامد في بيع القرية أنه إذا قال : بمزارعها [ ص: 96 ] دخلت المزارع ، وإن قال بحقوقها لم تدخل المزارع ، كما ذكره المصنف فيما تقدم ( وأما ) في الأرض فلم أقف عليه فيها .



                                      ( فرع ) عندنا لا يؤمر البائع بقطع الزرع الذي له في الحال ، بل له إبقاؤه إلى أوان الحصاد ، خلافا لأبي حنيفة رضي الله عنه فعنده منفعة الأرض مستحقة للمشتري ، فلذلك أوجب القطع ، وعندنا هي مستحقة للبائع ، فلذلك لم نوجبه ، وأوجبنا الإبقاء ، وعند وقت الحصاد يؤمر بالقطع والتفريغ ، ويجبر البائع عليه ، وعليه تسوية الأرض ، وعليه قطع العروق التي يضر بقاؤها بالأرض كعروق الذرة ، نص عليه ، كما إذا كان في الدار المبيعة أمتعة لا يتسع لها باب الدار ، ينقض وعلى البائع ضمانه ، وهكذا ذكروه وجزموا بوجوب التسوية ، وسيأتي فيه وجه مذكور في مسألة الحجارة عن صاحب التتمة ، وقياسه أن يأتي هنا . ( وأما ) ضمان النقصان في باب الدار فقال القاضي أبو الطيب : في موضع الحجارة إن أمكن تقويم ما نقص من قيمة ما انهدم لزم البائع ذلك ، وإن لم يمكن لزمه تسوية حلقة الباب ، وقال هنا : يحتمل أن يقال : يلزمه بناؤه كما يلزمه تسوية الأرض . وهو مقتضى كلام المحاملي والقاضي حسين .



                                      ( فرع ) لو كان المشتري جاهلا بالزرع بأن كان رأى الأرض قبل ذلك ثم اشتراها وبها زرع . ولم يرها حين العقد . فله الخيار في فسخ البيع . لأن الزرع عيب يمنع منفعة الأرض . فإن فسخ رجع بالثمن وإن أقر فللبائع ترك الزرع في الأرض إلى وقت حصاده . كما نقوله في الثمرة المؤبرة . وسيأتي ذلك إن شاء الله تعالى . فلو رضي البائع بتسليم الزرع للمشتري أو قلعه ويكون قلعه غير مضر بالأرض لم يكن للمشتري خيار نص عليه . وإن كان المشتري عالما بالزرع فلا خيار له . قاله الماوردي والأصحاب . واتفقوا عليه . وهذا إذا لم يطرأ ما يقتضي تأخر الزرع عن وقت الحصاد المعتاد . ولو طرأ ما يوجب ذلك ففيه كلام أذكره قريبا في فرع وجوب الأجرة .



                                      ( فرع ) في وجوب الأجرة على البائع في مدة بقاء الزرع في الأرض . إن كان المشتري عالما فلا أجرة قطعا . وإن كان جاهلا [ ص: 97 ] فوجهان عن رواية صاحب التقريب والذي أورده المعظم أنه لا تجب الأجرة وتقع تلك المدة مستثناة . كما لو باع دارا مشحونة بأقمشة لا يستحق المشتري الأجرة لمدة التفريغ وهذا ما جزم به الماوردي وخلافه ( والأظهر ) عند الغزالي والجرجاني الوجوب وجعل الإمام محل الخوف فيما إذا كان جاهلا . قال الروياني : إنما تجب الأجرة إذا زرعها بعقد الإجارة أو بغير حق . وهنا لم يوجد واحد منهما ، ثم ههنا كلامان ( أحدهما ) أن هذا الخلاف هل محله إذا اكتفينا بالتخلية وجعلناها قبضا ، أو إذا لم نكتف بها ؟ أو هو على الإطلاق ؟ . قال ابن الرفعة : ما ذكر من التعليل يقتضي أن ذلك يختص بحالة عدم الاكتفاء قال : والأشبه أن يقال : إن اكتفينا بها فالخلاف متوجه . وإن لم نكتف بها ( فإن قلنا : ) الأجرة لا تجب أو اكتفينا بالتخلية فههنا أولى ( وإن قلنا : ) تجب . فههنا وجهان مبنيان على أن البائع إذا انتفع بالمبيع قبل إقباضه هل تلزمه الأجرة أم لا ؟ وفيه خلاف ( فإن قلنا : ) لا : لم تجب هنا ( وإن قلنا : ) نعم : وجبت ولا ننظر إلى أنه ثم متعد ولا تعدي منه ههنا . لأن باب الضمان لا يختلف .

                                      وقال ابن الرفعة : إنه لولا تعليل الإمام يعني تعليله وجه عدم إيجاب الأجرة بقدرة المشتري على الفسخ . لولا هذا التعليل لأمكن أن يقال : الوجهان في الرجوع بالأجرة إنما هما قبل التخلية أو بعدها . وقلنا : إنها لا تكفي . ويكونان مبنيين على جناية البائع . فإن قلنا : كالأجنبي ضمن الأجرة وإلا فلا . قال الإمام : وللخلاف نظائر في الحجارة ( قلت : ) والأشبه أن الخلاف في وجوب الأجرة في مسألتنا هذه كما في مسألة الحجارة مطلق . فيما إذا اكتفينا بالتخلية ، وفيما إذا لم نكتف بها . ومأخذه أن تفويت المنافع هل هو كالعيب أم لا ؟ بل المنافع مستقلة متميزة عن المبيع ، كما يشعر به تعليل الإمام والغزالي وجه الوجوب في هذه المسألة ( فإن قلنا : ) بالثاني ضمنا مطلقا ولا أثر للإجارة في إسقاطها ولا فرق في ذلك بين أن نقول يكتفى بالتخلية أو لا ، وهذا يوافق الوجه الذي يقول في مسألة الحجارة بوجوب الأجرة قبل القبض وبعده ، وإن جعلنا تفويت المنافع بمنزلة التعييب اكتفت على أن جناية البائع على المبيع كالآفة السماوية أو كجناية الأجنبي ؟ . [ ص: 98 ]

                                      ( إن قلنا : ) كجناية الأجنبي ضمنها مطلقا قبل التخلية وبعدها ، اكتفينا بالتخلية ، وجعلناها قبضا ، أو إذا لم نكتف بها أو هو على الإطلاق - فإن كان ذلك قبل التخلية - لم تلزمه الأجرة وإن كان بعد التخلية - فإن لم نكتف بها فكذلك ، وهذا قول من لا يوجب الأجرة في مسألة الحجارة مطلقا ، وإن اكتفينا بالتخلية - والفرض أن الزرع الذي هو عيب حاصل قبل القبض - فلا تجب الأجرة أيضا لأنه بالإجارة رضي بذلك . فإن لم يكن له أجرة كما لو رضي بالعيب لم يكن له أرش ، فقد تلخص أن الخلاف في وجوب الأجرة جار مطلقا إما قبل التخلية أو بعدها إذا لم يكتف بها . فمأخذ الوجوب أمران ( أحدهما ) إلحاق البائع بالأجنبي ( والثاني ) أن المنافع متميزة عن المقصود فليس تفويتها بمنزلة العيب ، ومأخذ عدم الوجوب جعلها عيبا وإلحاق تعييب البائع بالآفة السماوية . ( وأما ) بعد التخلية والاكتفاء بها فمأخذ الوجوب أن المنافع متميزة غير معقود عليها كما تقدم ، أو إلحاق البائع بالأجنبي ، ومأخذ الإسقاط جعل تعييب البائع كالآفة السماوية ، فإذا أجاز المشتري سقط حقه من الأرش ، لأنه قد رضي بالعيب كذلك هنا إذا أجاز سقط حقه من الأجرة بقية المدة ، لأن سببه متقدم قبل القبض وقد رضي به .

                                      ( فإن قلت : ) مقتضى ما ذكرت أن يكون الصحيح عدم وجوب الأجرة ، لأن الأصح عند الأكثرين أن جناية البائع كالآفة السماوية ، وقد جزم الرافعي بأن استعمال البائع المبيع يخرج على جنايته ، إن جعلناها كالآفة السماوية لم تجب ، وإلا وجبت ، فيخرج من ذلك أن الأصح في مسألتنا أنه لا تجب الأجرة لا في مسألة الزرع ولا في مسألة الحجارة ، لكن قد تقدم في مسألة الحجارة أن الأصح وجوبها بعد القبض وعدم وجوبها قبله ، وقد تقدم عن الغزالي والجرجاني أنه الأصح عندهما في مسألتنا أيضا .

                                      ( قلت : ) أما الغزالي فإن الأصح عنده أن جناية البائع كالأجنبي ، فلا يرد عليه تصحيحه هنا الوجوب ، فإن ذلك موافق ، وقد قدمنا عن الأكثرين في مسألتنا أن الأصح عدم الوجوب ، وكذلك تقدم عن الشيخ أبي محمد في مسألة الحجارة . [ ص: 99 ] وأما ) ما تقدم عن الأكثرين في مسألة الحجارة من تصحيح الوجوب بعد القبض دون ما قبله ، فالفرق بينها وبين مسألتنا هذه أنه هنا إذا رضي بالزرع يلزمه إبقاؤه إلى أوان الحصاد فالرضا بالزرع رضا بالإبقاء الذي هو من لوازمه ، وكذلك لا تجب الأجرة .

                                      ( وأما ) الحجارة فإنه إذا رضي بها لا يلزمه إبقاؤها ، بل يجبر البائع على قلعها ، لكن لك أن تقول : إن مدة القلع أيضا قد رضي بها كما أن مدة قلع الزرع عند أوانه داخلة تحت رضاه ، وإن كان القلع في ذلك الوقت واجبا فكان ينبغي أن لا تجب لها أجرة إلا إذا زاد وأخر البائع ، فحينئذ تجب ، والله أعلم .

                                      ( تنبيه ) ما حكيته في مأخذ وجوب الأجرة من أن المنافع متميزة عن المعقود عليه كذلك قال الإمام والغزالي ، وهو يقتضي أن البائع إذا انتفع بالعين المبيعة قبل القبض تجب عليه الأجرة من غير تخريج ، على أن جنايته كجناية الأجنبي أو لا ، والذي ذكره الرافعي هو طريقة التخريج خاصة ، وما ذكروه ههنا يقتضي طريقة أخرى ، كما أشرت إليه ، وهي ظاهرة فإن جناية البائع والكلام فيها محله إذا ورد على المعقود عليه أو على بعضه من جزء أو صفة .

                                      ( أما ) المنافع فللتردد في إلحاقها بجزء المبيع أو صفته بحال ظاهر فإن ثبت ذلك فيكون في استعمال البائع المبيع طريقان ( أحدهما ) وجوب الأجرة ( والثاني ) تخريجها على جنايته ، والله أعلم .

                                      ( فرع ) وهو الكلام الثاني تقدم أن الإمام جعل محل الخلاف في وجوب الأجرة في حالة الجهل ( أما ) في حالة العلم فلا تجب قطعا ، وكذلك تقدم في الخيار أنه لا يثبت إلا في حالة الجهل ( أما ) في حالة العلم فلا ، قال ابن الرفعة : وهو ظاهر إذا لم يطرأ أمر يقتضي تأخر الزرع عن وقت حصاده المعتاد فإن التبقية إنما وطن المشتري نفسه عليها إلى ذلك الوقت ( أما ) إذا تأخر عن الوقت المعتاد فقد يقال : إنه يثبت له الخيار ، ويكون إذا أجاز في استحقاقه الأجرة الخلاف السالف ، وأصل ذلك أنه إذا علم عيبا بالمبيع وأقدم عليه فلا خيار ، فلو زاد ثبت الخيار على المشهور ، ثم قال : واطلاق الشافعي رضي الله عنه يقتضي تركه إلى الحصاد ، سواء تأخر عن [ ص: 100 ] وقته المعتاد أم لم يتأخر ، ومراده بالحصاد أول أوقاته لا حقيقة الحصاد .



                                      ( فرع ) ما تقدم من وجوب الإبقاء إلى أوان الحصاد محله عند الإطلاق أو اشتراط التبقية إليه فلو شرط البائع قلع الزرع وتفريغ الأرض ، قال ابن الرفعة هنا : ففي وجوب البقاء بهذا الشرط تردد ، حكاه عن الأصحاب في أواخر كتاب الصلح ، ووجه وجوب الوفاء ظاهر ( وأما ) وجه عدم الوجوب .



                                      ( فرع ) يشترط في بيع الأرض المزروعة تقدم الرؤية على العقد . فإن موضع منابت الزرع غير مرئي حالة العقد ، يدل على ذلك كلام الشافعي والأصحاب منهم الماوردي وغيره فإنه قيل في الفرع المتقدم أن يكون رآها قبل ذلك . قال المتولي : إذا أدرك الزرع فعليه الحصد والنقل إلى مكان آخر فإن أراد أن يدرس الزرع في تلك الأرض وينقيه لم يكن له ذلك إلا بالرضا وإن كان تلحقه بالنقل إلى مكان مشقة ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا شرط دخول الزرع في البيع فإن كان بقلا أو قصيلا ، لم يبلغ أوان الحصاد - قال الماوردي والمحاملي وغيرهما من المتقدمين والمتأخرين : صح البيع في الأرض والزرع ، ولا يلزم في الزرع شرط القطع ، لأنه دخل في العقد تبعا للأرض وصار كالثمرة التي لم يبد صلاحها إذا بيعت مع محلها ، وستأتي هذه المسألة في الثمار ، وفيها بحث ، وإن كان الزرع قد اشتد واستحصد فإن كان مشاهد الحب كالشعير فالبيع صحيح في الأرض والزرع ، وإن كان غير مشاهد كالحنطة والعدس ففي بيعه مفردا قولان ، فإن جوزنا فبيعه مع الأرض أولى ، وإن منعنا ففي بيعه تبعا للأرض وجهان ( أحدهما ) يجوز كأساس البنيان ( والثاني ) لا ، لأنه مقصود فإذا بطل ففي بطلانه في الأرض قول واحد للجهل بالحصة من اختلاف أصحابنا في تعليل تفريق الصفقة .



                                      ( فرع ) إذا اشترى أرضا رآها قبل البيع ولم يرها حين [ ص: 101 ] البيع ، فوجد فيها زرعا ثبت له الخيار ، نص عليه الشافعي رضي الله عنه وبعض الأصحاب ، وقد تقدم .

                                      ( تنبيه ) مراد المصنف بالأرض المزروعة بزرع يحصد مرة واحدة ، كالحنطة والشعير ، فهي محل الخلاف في صحة بيعها ، أما المزروعة بزرع يحصد مرة بعد أخرى كالبقول فالعقد صحيح قولا واحدا ، قاله صاحب التتمة ، وهو ظاهر ، لأنها كالشجر فينبغي أن ينبه لذلك لئلا يظن أن ذكر المصنف لها بعد تقدم القسمين مقتض لشمول الخلاف ، والله أعلم . ( فائدة ) قوله : حتى يحصد ، يقال : أحصد الزرع أي بلغ أوان الحصاد ، فقال ابن داود في قول الشافعي : وإن كان فيها زرع فهو للبائع حتى يحصد بكسر الصاد . وقال : إنه أفصح وأصح في المعنى من فتحها لأنه إذا بلغ أوان الحصاد جذ على حصده ، وما ذكره من كلام الشافعي ظاهر ، وأما قول المصنف هنا : والحكم ببقاء ملك البائع مستمر إلى وجود الحصاد ، فيصح أن يقال : - بضم الياء وفتح الصاد - ويصح - بفتح الياء وكسر الصاد - أي حين يحصد البائع الزرع . ولا يصح حتى يحصد - بضم الياء وكسر الصاد - هنا ، أي حتى يبلغ أوان الحصاد لأن يده لا تزول بذلك ، فاليد مستحقة للبائع إلى إحصاد الزرع ، ويد البائع ثابتة إلى الحصاد ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية