الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كان له حائط أطلع بعضه دون بعض فأبر المطلع ثم باع الحائط ، ثم أطلع الباقي ، ففيه وجهان ، قال أبو علي بن أبي هريرة : ما أطلع في ملك المشتري لا يتبع المؤبر ، بل يكون للمشتري ; لأنه حادث في ملكه فلا يصير للبائع ( والثاني ) : أنه يتبع المؤبر ، فيكون [ ص: 57 ] للبائع ; لأنه من ثمرة عامه ، فجعل تابعا له كالطلع الظاهر في حال العقد فإن أبر بعض الحائط دون بعض ثم أفرد الذي لم يؤبر بالبيع ففي طلعه وجهان : ( أحدهما ) : أنه للبائع ; لأنا جعلناه في الحكم كالمؤبر بدليل أنه لو باع الجميع كان للبائع ، فصار كما لو أفرد بعض المؤبر بالبيع ( والثاني ) أنه للمشتري ; لأنه إنما جعل كالمؤبر إذا بيع معه ، فيصير تابعا له ، فأما إذا أفرده فليس بتابع للمؤبر فتبع أصله ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) فيه مسألتان : ( المسألة الأولى ) : إذا باع جميع نخل البستان ، وقد أبر بعضها وبعضها لم يطلع بعد ، فأطلع بعد البيع في ملك المشتري فلا إشكال في أن المؤبر للبائع وأن ما كان وقت العقد مطلعا غير مؤبر تابع له ، فيكون للبائع أيضا ( أما ) ما أطلع بعد ذلك ، فإن كان من طلع العام المستقبل فهو للمشتري ، وليس محل الوجهين ، نبه عليه الماوردي ، وهو ظاهر من كلام المصنف وإن كان من طلع ذلك العام ففيه وجهان ( أحدهما ) وهو قول ابن أبي هريرة ، وادعى الماوردي أنه الأصح ، وتبعه ابن أبي عصرون أن ما أطلع في ملك المشتري لا يتبع المؤبر ، بل يكون للمشتري كحدوثه في ملكه ، وقد صحح ابن الصباغ أيضا هذا الوجه عند الكلام في اختلاط ثمرة النخل المبيعة بثمرة البائع . ( والثاني ) : وهو قول أبي حامد الإسفراييني وقال : إنه المذهب أنه يتبع فيكون للبائع خوفا من سوء المشاركة ، كما أنا جعلنا ما لم يؤبر تبعا لما أبر خوفا من سوء المشاركة ، ووافق أبا حامد على تصحيح هذا الوجه جماعة منهم الرافعي ، وفرق الماوردي منتصرا لقول ابن أبي هريرة بأن ما لم يؤبر يصح العقد عليه ، ويلزم فيه بالشرط ، فجاز أن يصير تبعا لما قد استثناه العقد ، قال : ولو كان التعليل المذكور صحيحا ; كان بيع ما لم يخلق تبعا لما خلق ، كما يجوز بيع ما لم يبد صلاحه تبعا لما بدا صلاحه ، قال : وفيما ذكرنا من ذلك دليل على وهاء قوله ، وفساد تعليله ، يعني أبا حامد .

                                      ( قلت : ) وقد تقدم أن قول ابن أبي هريرة الذي انتصر له الماوردي مخالف لنص الشافعي الصريح ويمكن التمسك للنص بظاهر [ ص: 58 ] الحديث ، فإنه حكم بأن ثمرة النخل المؤبرة للبائع ، وثمرتها تشمل ما كان مطلعا حين العقد ، وما لم يكن خرجنا عنه في ثمرة العام المستقبل بدليل ، فينبغي فيما عداه على ظاهر العموم ، إلا أن يقال : إن قوله فثمرتها لا يشمل إلا الثمرة الموجودة ، وهي المطلعة ، وليس ببعيد ، لكن سوء المشاركة حاصل ، والحاجة داعية إلى ذلك ، وما ألزم به الماوردي من بيع ما لم يخلق تبع لما خلق ، فإنما يلزم لو كان كل ما يشترط في البيع يشترط في الاستثناء . ( وقوله ) إن ما لم يؤبر يصح العقد عليه فرعه على رأيه ، ورأي غيره - وقد تقدم عن أبي إسحاق - أنه لا يصح بيعه وهو الأصح عند المحاملي وغيره ، فعلى هذا لا يصح الفرق المذكور ، وفي التتمة ذكر نظير لهذه المسألة استنبط هذا الوجه منها ، وهي جارية المكاتب إذا أتت بولدين أحدهما قبل الكتابة والآخر بعدها ، قال : نص أن الولدين للسيد ، فاستنبط منها هذا الوجه ، ووجه في الجارية إذا كانت حبلى بولدين فوضعت أحدهما ثم باعها ، فالولد الذي في البطن يبقى للبائع على ظاهر النص على ما قاله الإمام ، ورأى أن الصواب خلافه وأن الولد الثاني للمشتري ، وعن الخضري أنه كان يحكي في ذلك قولين ( أحدهما ) ما نسب إلى النص ( والثاني ) ما رأى الإمام أنه الصواب .

                                      قال ابن الرفعة : ولو كان الخارج بعض الولد ولم ينفصل كله إلا بعد البيع ، فستعرف في باب الجنايات وغيره ، أن المرجح في المذهب أن حكمه حكم ما لم ينفصل منه شيء ، وفيه وجه أن حكمه حكم المنفصل ، فعلى هذا يكون للبائع ، وعلى الأول ينبغي أن يقطع في هذه الحالة بمقابلته بجزء من الثمن ; لأنه قد علم وجوده ، ثم قال الإمام في الحالة الأولى : ثم إذا حكمنا بأن الحمل للبائع فيجب أن يحكم بفساد البيع في الأم على ظاهر المذهب . قال ابن الرفعة : أو يصح على ظاهر المذهب ; لأن هذا شبيه ببيع الجارية الحامل بحر ، من حيث إن البائع لم يستثنه ، وإنما الشرع استثناه ، وقد اختلف قوله يعني الإمام في أن المرجح فيه الصحة أو البطلان ( قلت : ) وتخريجه على بيع الجارية الحامل بحر حسن [ ص: 59 ] متعين ، وحكمه والتصحيح فيه معلوم في موضعه ، ولقد تعجبت من صاحب البيان فإنه قال : إن القول بأن ما أطلع للمشتري ، لم يذكر الشيخ أبو حامد غيره ، والموجود في تعليقه والمنقول عنه خلاف ذلك .



                                      ( المسألة الثانية ) إذا أبر بعض الحائط دون بعض فأفرد المؤبر بالبيع فلا إشكال في أن ثمرته للبائع ، وإن أفرد الذي لم يؤبر بالبيع ففيه وجهان كما ذكر المصنف نقلا وتعليلا ، وممن حكاهما القاضي أبو الطيب ( وقوله ) فصار كما لو أفرد بعض المؤبر بالبيع ، يعني إذا ثبت بهذا البيع حكم التأبير صار كالمؤبر ، فإذا أفرده بالبيع صار كما لو أفرد المؤبر بالبيع ، ونظير المسألة إذا بدا الصلاح في بعض الحائط فأفرد بالعقد الثمرة التي لم يبد صلاحها فيها ففي صحته وجهان كالوجهين . ( والصحيح ) أن الطلع للمشتري ، وممن صححه صاحب البيان ، وقال إمام الحرمين : إن القائل بأن غير المؤبر هنا يتبع المؤبر يقول : دخول وقت التأبير كالتأبير نفسه ، وهذا الكلام من الإمام قد يوهم أن من الأصحاب من يقول : إن وقت التأبير كالتأبير نفسه وكذلك كلام الغزالي يقتضي ذلك ، وقد يوهم ذلك أن هذا القائل يكتفي بحضور الوقت دون أن يحصل تأبير أصلا ، ولم أعلم من قال بذلك ، وإنما مراد الإمام ومن أطلق العبارة إذا حصل تأبير في غير المبيع ، ولم يحصل في المبيع وقد تقدم في ذلك كلام وجزم الفوراني بأنه إذا أفرد النوع الذي لم يؤبر بالبيع أنه ليس حكمه حكم المؤبر ، فيمكن أن يكون محل الوجهين اللذين ذكرهما المصنف وغيره فيما إذا أفرد ما لم يؤبر من نوع واحد ، ويمكن أن يكون مطلقا بناء على أن التأبير في أحد النوعين تأبير في الآخر ، وقد صرح صاحب التتمة بذكر الوجهين فيما إذا أفرد الصنف الذي ليس بمؤبر على طريقة من يرى تبعية النوع للنوع وهو المذهب فيصح إبقاء الوجهين في كلام المصنف على إطلاقهما




                                      الخدمات العلمية