الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
كتاب التيمم .

والقول المحيط بأصول هذا الكتاب يشتمل بالجملة على سبعة أبواب : الباب الأول : في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها . الثاني : معرفة من تجوز له هذه الطهارة . الثالث : في معرفة شروط جواز هذه الطهارة . الرابع : في صفة هذه الطهارة . الخامس : فيما تصنع به هذه الطهارة . السادس : في نواقض الطهارة . السابع : في الأشياء التي هذه الطهارة شرط في صحتها أو في استباحتها . الباب الأول

في معرفة الطهارة التي هذه الطهارة بدل منها .

اتفق العلماء على أن هذه الطهارة هي بدل من الطهارة الصغرى ، واختلفوا في الكبرى ، فروي عن عمر وابن مسعود أنهما كانا لا يريانها بدلا من الكبرى ، وكان علي وغيره من الصحابة يرون أن التيمم يكون بدلا من الطهارة الكبرى ، وبه قال عامة الفقهاء .

والسبب في اختلافهم : الاحتمال الوارد في آية التيمم ، وأنه لم تصح عندهم الآثار الواردة بالتيمم للجنب ، أما الاحتمال الوارد في الآية فلأن قوله تعالى : ( فلم تجدوا ماء فتيمموا ) يحتمل أن يعود الضمير الذي فيه على المحدث حدثا أصغر فقط ، ويحتمل أن يعود عليهما معا ، لكن من كانت الملامسة عنده في الآية الجماع ، فالأظهر أنه عائد عليهما معا ، ومن كانت الملامسة عنده هي اللمس باليد ، أعني قوله تعالى : ( أو لامستم النساء ) فالأظهر أنه إنما يعود الضمير عنده على المحدث حدثا أصغر فقط ، إذ كانت الضمائر إنما يحمل أبدا عودها على أقرب مذكور إلا أن تقدر في الآية تقديما وتأخيرا حتى يكون تقديرها هكذا : يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة ، أو جاء أحد منكم من الغائط ، أو لامستم النساء ، فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ، وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين ، وإن كنتم جنبا فاطهروا وإن كنتم مرضى أو على سفر فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا .

ومثل هذا ليس ينبغي أن يصار إليه إلا بدليل ، فإن [ ص: 58 ] التقديم والتأخير مجاز ، وحمل الكلام على الحقيقة أولى من حمله على المجاز ، وقد يظن أن في الآية شيئا يقتضي تقديما وتأخيرا ، وهو أن حملها على ترتيبها يوجب أن المرض والسفر حدثان ، لكن هذا لا يحتاج إليه إذا قدرت " أو " ههنا بمعنى الواو ، وذلك موجود في كلام العرب في مثل قول الشاعر :

وكان سيان أن لا يسرحوا نعما أو يسرحوه بها واغبرت السوخ

.

فإنه إنما يقال : سيان زيد وعمرو ، وهذا هو أحد الأسباب التي أوجبت الخلاف في هذه المسألة .

وأما ارتيابهم في الآثار التي وردت في هذا المعنى فبين مما خرجه البخاري ومسلم : أن رجلا أتى عمر - رضي الله عنه - فقال : أجنبت فلم أجد الماء ، فقال : لا تصل ، فقال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد الماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إنما كان يكفيك أن تضرب بيديك ، ثم تنفخ فيهما ، ثم تمسح بهما وجهك وكفيك ، فقال عمر : اتق الله يا عمار ، فقال : إن شئت لم أحدث به " وفي بعض الروايات : أنه قال له عمر : نوليك ما توليت ، وخرج مسلم عن شقيق قال : كنت جالسا مع عبد الله بن مسعود وأبي موسى فقال أبو موسى : يا أبا عبد الرحمن أرأيت لو أن رجلا أجنب ، فلم يجد الماء شهرا كيف يصنع بالصلاة ؟ فقال عبد الله لأبي موسى : لا يتيمم وإن لم يجد الماء شهرا ، فقال أبو موسى : فكيف بهذه الآية في سورة المائدة ( فلم تجدوا ماء فتيمموا صعيدا طيبا ) فقال عبد الله : لو رخص لهم في هذه الآية لأوشك إذا برد عليهم الماء أن يتيمموا بالصعيد ، فقال أبو موسى لعبد الله : ألم تسمع لقول عمار ؟ وذكر له الحديث المتقدم ، فقال له عبد الله : ألم تر عمر لم يقنع بقول عمار ؟ لكن الجمهور رأوا أن ذلك قد ثبت من حديث عمار ، وعمران بن الحصين ، خرجهما البخاري ، وإن نسيان عمر ليس مؤثرا في وجوب العمل بحديث عمار ، وأيضا فإنهم استدلوا بجواز التيمم للجنب ، والحائض بعموم قوله - عليه الصلاة والسلام - " جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا " . وأما حديث عمران بن الحصين فهو " أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رأى رجلا معتزلا لم يصل مع القوم فقال : يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم ؟ فقال : يا رسول الله أصابتني جنابة ولا ماء . فقال عليه الصلاة والسلام : عليك بالصعيد فإنه يكفيك " ولموضع هذا الاحتمال اختلفوا : هل لمن ليس عنده ماء أن يطأ أهله أم لا يطؤها ؟ ( أعني : من يجوز للجنب التيمم ) .

التالي السابق


الخدمات العلمية