الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وفي بيع اللحم بحيوان لا يؤكل قولان : ( أحدهما ) لا يجوز للخبر ( والثاني ) : يجوز ; لأنه ليس فيه مثله فجاز بيعه به كاللحم بالثوب ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) القولان حكاهما الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي وابن الصباغ والرافعي والقفال والفوراني ، وصرح المحاملي أنه منصوص عليهما ، وذكر الشيخ أبو حامد فيما علق عنه البندنيجي أن قول المنع منصوص عليه في الصرف ، قال المحاملي في المجموع : القياس الجواز ، وقال القفال في شرح التلخيص : إن قول الجواز قاله الربيع ، وإن قول المنع هو الصحيح ، وكذلك قال البغوي في التهذيب : إن الأصح المنصوص في أكثر الكتب لا يجوز لظاهر الخبر ( قلت : ) قوله : إنه المنصوص في أكثر الكتب يعني كتب الشافعي ، وقد رأيت ذلك منصوصا في الأم من بيع الآجال قال الشافعي - رحمه الله - : سواء كان يؤكل لحمه أو لا يؤكل . وقال الرافعي : أصحهما عند القفال المنع لظاهر الخبر وقال في الشرح الصغير : رجح منهما المنع إشارة إلى ترجيح القفال ، وهو الذي جزم به الصيمري في شرح الكفاية . [ ص: 478 ]

                                      والقول الثاني مذهب مالك وأحمد ، وقال ابن أبي عصرون في الانتصار ، والجرجاني في الشافي : إنه أصح القولين ، أعني الصحة ، وجزم به في غيره من كتبه ، قال الشافعي رضي الله عنه في البويطي في ( باب حبل الحبلة ) : ولا بأس من أن يباع ما لا يؤكل لحمه من الأحياء باللحم الموضوع ، ثم قال فيه أيضا : وقد قيل : ولا يباع لحم بحيوان مما يؤكل ، ومما لا يؤكل ، دليل ترجيحه ، وبين القولين ما ذكره المصنف ، والظاهر أن مراده به الخبر الذي قدمته ، وفي الاستدلال به لذلك نظر ; لأن المتقدم خبر سعيد المرسل على أثر أبي بكر ، وتقدم أن الشافعي لا يحتج بالمرسل ، وإنما احتج بذلك لاعتضاده بالأثر ، والذي عضده الأثر فيه إنما هو في بيع العناق بلحم الجزور وهما مما يؤكل لحمهما ، فتبقى دلالة المرسل على غير المأكول مجردة عما يعضدها ، ولا بعد في أن يتمسك بدليل في بعض مدلوله تعاضد ، مثل ذلك في حديث عروة البارقي وشرائه الشاتين بدينار ، وبيعه إحداهما بدينار ، وعمل به في الحكم الموافق للقياس دون المخالف له لما كان مرسلا ، كما بين ذلك في موضعه . إلا أنا نقول : إن الاعتضاد وإن امتنع بالأثر فهو حاصل بأمور أخرى ( منها ) قول أكثر أهل العلم وانتشاره في الناس من غير دافع ، والقياس الذي تقدم في كلام الأصحاب ، فلهذا يصح التمسك بالخبر على ما تمهد أولا ، وإن ورد عليه ما ذكرته هناك ، فهو وارد على الاعتضاد بالأثر ، ولا يمكن التمسك في ذلك بحديث سمرة ، ولو ثبت اتصاله وصحته ; لأنه إنما ورد في بيع الشاة باللحم ، والشاة مأكولة فليس في لفظه عموم يدخل تحته الحيوان غير المأكول ، وقد يقال : إن أثر أبي بكر عضده في منع بيعه بالمأكول وإن كان من غير جنسه ، والمعنى الذي قد يتخيل في ذلك من جهة الربا مندفع باختلاف الجنس ولم يظهر معنى آخر يعلل به فكان التمسك بعموم الخبر أولى .

                                      وقال الشيخ أبو حامد : يكون المعنى في ذلك أنه حي بميت ، وعلى هذا المعنى أيضا يتعدى إلى غير المأكول ، لكن لا يظهر لهذا الوصف معنى مخيل وقال الشيخ أبو حامد فيما علق عنه البندنيجي : إن الأقيس الجواز وبالمنع جزم ابن سراقة في العلتين ، وبما يتبع حمله . [ ص: 479 ] وقال الماوردي : إن القول الأول قال به من أصحابنا من زعم أن دليل المسألة اتباع السنة ( والثاني ) قال به من أصحابنا من زعم أن دليل المسألة اتباع القياس . ( واعلم ) أن تقدير هذا الأصل الذي أشار إليه الماوردي من المهمات فعليه تبتنى هذه المسألة وغيرها ، وبنى القاضي حسين على هذا الأصل الذي ذكره الماوردي الخلاف في بيع الشاة بلحم البقر إذا قلنا : إنها أجناس مختلفة وقد حكى الماوردي فيه طريقين لأصحابنا ولا ينبغي أن يفهم من قولنا : الأصل فيها اتباع القياس أن لا دليل في المسألة غير القياس ، بل المراد أن الحكم المذكور هل هو معقول المعنى ؟ والخبر فيه على وفق القياس ؟ أو هو تعبد يستند فيه إلى اتباع السنة فقط من غير ملاحظة معنى ؟ ومن فروع ذلك أنا إن جعلناه تعبدا امتنع قياس غيره عليه وإلا جاز ، ولا بد هنا من ملاحظة أصل آخر ، وهو أن النص العام إذا استنبط منه معنى يخصصه هل يجوز ؟ فإن الخبر عام في المأكول وغيره ، والمعنى المستنبط وهو ملاحظة الربا يقتضي تخصيصه بالمأكول وقد اشتهر في ذلك خلاف في المذهب وله نظائر ( منها ) لمس ذوات المحارم داخل في عموم الآية والمعنى يقتضي إخراجه وسأذكر ذلك في آخر الكلام إن شاء الله تعالى .



                                      ( فرع ) لا يباع ما لا يؤكل لحمه بالشاة المذبوحة والطير المذبوح ; لأنه في حكم الغائب نص عليه في البويطي ولا اختصاص له بذلك صرح الأصحاب بأنه لا يجوز بيع اللحم في الجلد مطلقا قبل السلخ ولا الجلد أيضا ولو باع اللحم مع الجلد قال القاضي حسين في باب بيع الثمار : الصحيح أنه لا يجوز ، قال : وبيع الأكارع يجوز ; لأن المقاطع معلومة وبيع رأسها إن كان متدليا بجلد رقيقة جاز ، وإن كان هناك لحم كثير لم يجز ، ; لأن المقاطع غير معلومة .



                                      ( فرع ) بيع السمك الحي بالسمك الحي ، هل يجوز أم لا ؟ ( إن قلنا ) يحل ابتلاع السمك حيا في حال صغره فلا يجوز ( وإن قلنا : ) لا يحل فيجوز كما يجوز بيع الغنم بالغنم ، قاله يعقوب بن عبد الرحمن بن أبي عصرون في مجموعه .



                                      [ ص: 480 ] فرع ) على القول الأول لا يجوز بيع لحم ببغل ولا بحمار ولا بعبد ، لا فرق في ذلك بين العبد والبهيمة ، قاله أبو حامد وأبو الطيب والصيمري وغيرهم .



                                      ( فرع ) لو باع شحم الغنم بحوت حي لم يجز ، قاله الصيمري وهو يوافق ما تقدم أن بيع اللحم بالحوت الحي لا يجوز ، وعند ابن أبي هريرة أن الشحم كاللحم على الأصح .



                                      ( فرع ) في بيع الشحم والألية والطحال والقلب ، والكبد ، والرئة بالحيوان وبيع السنام بالإبل وجهان حكاهما الماوردي والرافعي ( أحدهما ) يجوز ; لأن النهي في بيع اللحم بالحيوان ( وأصحهما ) عند الرافعي المنع ، ; لأنه في معناه ، هكذا قال الرافعي ، وجزم صاحب التهذيب بالمنع في السنام والألية ، ولم يذكر غيرهما ، قال الماوردي : وهما مخرجان من القولين في أن أصل المسألة اتباع السنة أو القياس ، ففي الأول يجوز ، وعلى الثاني لا يجوز ; لأن الشحم وجميع هذه الأشياء في الحيوان ، وعلى هذا الأصل الذي قاله الماوردي ينبغي أن يكون الصحيح جواز بيع هذه الأشياء بالحيوان ; لأن الصحيح في المسألة اتباع السنة فلذلك كان الأصح منع بيع اللحم بالحيوان غير المأكول ، فالجمع بين تصحيح المنع في غير المأكول والمنع في هذه الأشياء متضاد . ( قلت : ) تصحيح امتناع بيع اللحم بغير المأكول لا يدل على كون الصحيح من المدركين التعبد ، بل نقول : إن الحكم معقول المعنى ، ولكن فرق بين إلحاق غير المنصوص عليه بالمنصوص ، وبين إخراج بعض المنصوص عليه ، فإن الأول قياس محض يعتبر فيه وجود شرائط القياس لا غير ، وأما الثاني فهو تخصيص العموم بالقياس ، وقد تجد معنى مخيلا يمكن إحالة الحكم عليه ، والقياس به لا ينهض في القوة إلى حيث يخص به العموم ، فإن دلالة العموم على أفراده ظاهرة قوية لا تزال بما هو أقوى منها ، بخلاف إثبات الحكم في محل مسكوت عنه لا معارض للمعنى فيه فبيع اللحم بغير المأكول تعارض فيه ظاهر العموم والمعنى المستنبط فتمسكنا بظاهر العموم .

                                      [ ص: 481 ] وبيع الشحم ونحوه بالحيوان وجد فيه المعنى بدون معارض ، فلذلك أعمل المعنى فيه وليس تنصيص الشارع على اللحم نافيا لغيره ; لأن تعليق الحكم بالاسم لا يدل على نفيه عما عداه ، وقال : وعلى هذا الخلاف بيع الجلد بالحيوان إن لم يكن مدبوغا وإن كان مدبوغا فلا منع ، وجزم الماوردي بجواز بيع اللحم بالجلد وأطلق ، وحكاه الروياني عنه ; لأنه لا ربا في الجلد ، ثم قال الروياني : وقيل : في غير المذبوح وجهان ، وقال غير الحاوي : إنه يجوز بيعه بالعظم أيضا وجها واحدا . وقال القاضي حسين : إن باع جلد المذبوح من الشاة أو الوبر منه بالشاة إن راعينا الخبر يجوز ، وإن راعينا المعنى فوجهان ( أحدهما ) لا يجوز ; لأنه مال ربا ( والثاني ) يجوز ; لأنه ليس بمأكول ، بدليل أنه يباح أكله . ( قلت : ) هذا كلام عجيب ( وقوله ) ( بدليل أنه يباح أكله ) أعجب وقوله ( في الوبر ) أعجب ، فإن الجلد إن أمكن تمشية كونه ربويا ففرضه في جلد يؤكل ، والوبر كيف يمكن تمشية ذلك فيه ، وقد تقدم اعتراض النووي على الرافعي ، واعتذاري عنه وذلك العذر لا يأتي هاهنا والله أعلم .

                                      قال القاضي : فأما إذا باع جلد المذكاة بالشاة - إن راعينا الخبر - يجوز وإن راعينا المعنى فوجهان ، قال : وها هنا أولى بأن لا يجوز ، بعد ذلك رأيت هذا الذي قلته في تعليق القاضي حسين ، قال : إن راعينا الخبر لم يجز ، وإن راعينا المعنى ( فإن قلنا : ) السمك يسمى لحما ، وإنه مع لحوم البرية صنف لم يجز وإلا جاز .

                                      ( فرع ) قال الروياني : إنه لو اشترى الحيوان بالرأس والكراع لم يجز بحال قاله الروياني ، وهو مشكل ، ; لأنه إذا كانت الرأس والكراع من غير جنس اللحم كان بيعها بالحيوان كبيع الشحم بالحيوان وسائر الأجزاء المتقدمة . وقد حكى هو وغيره فيها وجهين ، فما وجه الجزم في الرأس والكراع ؟ إلا أن نقول : إن فيها لحما فإنه يؤيد ما قدمته من البحث هنا فليراجع . ولو باع الألية بالمعز قال القاضي حسين : إن راعينا الخبر الصحيح فإنه [ ص: 482 ] يجوز وإن راعينا المعنى فهو مثله وفيه وجه آخر لا يجوز ( إذا قلنا ) . الألية مع اللحم جنس واحد ، وإن باع الألية بالضأن إن راعينا الخبر فالصحيح أنه يجوز ، وإن راعينا المعنى لا يجوز ، قاله القاضي حسين : وإن باع الألية بالألية واللحم فيصير من قاعدة مد عجوة ; قاله القاضي حسين .

                                      ( قاعدة ) وهي التي وعدت بذكرها في آخر الكلام ، قال الإمام : الذي يجب التنبيه له في مضمون هذا الباب وأمثاله أن من الأصول ما يستند إلى الخبر ، أو إلى ظاهر القرآن ، ولكن القياس يتطرق إليه من طريق الشريعة ، فلا يمنع التصرف في ظاهر القرآن والسنة بالأقيسة الجلية ، إذا كان التنزيل متسعا لا ينبو نظر المنصف عنه ، والشرط في ذلك أن يكون صدر القياس من غير الأصل الذي فيه ، مورد الظاهر ، فإن لم يتجه قياس من غير مورد الظاهر لم يجز إزالة الظاهر بمعنى يستنبط منه يضمن تخصيصه وقصره على بعض المسميات فأما ما لا يتطرق إليه معنى مستمر صائر إلى السير ; فالأصل فيه التعلق بالظاهر وينزل منزلة الوصف ، ولكن قد يلوح مع هذا مقصود الشارع بجهة من الجهات ، فيتعين النظر إليه ، وهذا له أمثلة .

                                      ( منها ) آية الملامسة ترد ، ونص الشافعي في لمس المحارم من جهة أن التعليل لا جريان له في الأحداث الناقضة وما لا يجري القياس في إثباته فلا يكاد يجري في نفيه ، فمال الشافعي رضي الله عنه إلى اتباع اسم النساء ، وأصح قوليه أن الطهارة لا تنتقض ; لأن ذكر الملامسة المضافة إلى النساء مع سياق الأحداث يشعر بلمس اللواتي يقصدن باللمس فإن لم يتجه معنى صحيح دلت القرينة على التخصيص ، ومن هذا القبيل قوله صلى الله عليه وسلم { ليس للقاتل من الميراث شيء } فالحرمان لا سبيل فيه إلى التعليل كما ذكرنا في الخلاف ، وإذا انسد مسلك التعليل اقتضى الحال التعلق باللفظ ، فردد الشافعي نصه في القتل قصاصا ، فوجه الحرمان التعلق بالظاهر مع حسم التعليل ، ووجه التوريث التطلع على مقصود الشارع ، وليس يخفى أن مقصوده مضادة غرض المستعجل .

                                      [ ص: 483 ] والذي نحن فيه من بيع اللحم بالحيوان خارج عن هذا القانون ، فمن عمم تعلق بقول الشارع ، ومن فصل تشوف إلى درك مقصوده ، وهو أن في الحيوان لحما ، ومن تمسك بظاهر اللفظ نقل ترتب كلامه ; فيقرب بعض المراتب ويبعد بعضها ، فالقتل قصاصا أقرب قليلا ، والقتل حدا سيما إذا ثبت بإقرار من عليه الحد بعيد ، ومن هذا القبيل منع بيع اللحم بالعبد ، ولو ادعى العلم في أن هذا ليس مراد الشارع لم يكن بعيدا ، هذا آخر كلام الإمام .

                                      ( فائدة ) له في بعض الألفاظ الحديث : { لا يباع حي بميت } الميت في اللغة من فارقته الحياة فيشمل المذبوح ، وفي الشرع من مات حتف أنفه ولكنه لما قوبل بالحي تعين أن المراد به المعنى الأول ، وأيضا فإن الميت لا يباع بحي ولا بغيره والله تعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية