الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( أتأمرون الناس بالبر وتنسون أنفسكم وأنتم تتلون الكتاب أفلا تعقلون واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم وأنهم إليه راجعون ) الأمر : طلب إيجاد الفعل ، ويطلق على الشأن ، والفعل منه : أمر يأمر ، على : فعل يفعل ، وتحذف فاؤه في الأمر منه بغير لام ، فتقول : مر زيدا وإتمامه قليل ، أو مر زيدا ، فإن تقدم الأمر واو أو فاء ، فإثبات الهمزة أجود ، وهو مما يتعدى إلى مفعولين : أحدهما بنفسه ، والآخر بحرف جر ، ويجوز حذف ذلك الحرف ، وهو من أفعال محصورة تحذف من ثاني مفعوليها حرف الجر جوازا تحفظ ولا يقاس [ ص: 182 ] عليها . البر : الصلة ، وأيضا : الطاعة . قال الراجز :


لاهم رب إن بكرا دونكا يبرك الناس ويفخرونكا



والبر : الفؤاد ، وولد الثعلب والهر ، وبر والده : أجله وأعظمه . يبره : على وزن فعل يفعل ، ورجل بار ، وبر ، وبرت يمينه ، وبر حجه : أجلها وجمع أنواعا من الخير ، والبر سعة المعروف والخير ، ومنه : البر والبرية للسعة . ويتناول كل خير ، والإبرار : الغلبة ، قال الشاعر :


ويبرون على الآبي المبر



النسيان : ضد الذكر ، وهو السهو الحادث بعد حصول العلم ، ويطلق أيضا على الترك ، وضده الفعل ، والفعل : نسي ينسى على فعل يفعل ، ويتعدى لواحد ، وقد يعلق نسي حملا على علم ، قال الشاعر :


ومن أنتم إنا نسينا من انتم     وريحكم من أي ريح الأعاصر



وفي البيت احتمال .

التلاوة : القراءة ، وسميت بها لأن الآيات أو الكلمات أو الحروف يتلو بعضها بعضا في الذكر . والتلو : التبع ، وناقة متل : يتبعها ولدها . العقل : الإدراك المانع من الخطأ ، ومنه عقال البعير ، يمنعه من التصرف ، والمعقل : مكان يمتنع فيه ، والعقل : الدية لأن جنسها إبل تعقل في فناء الولي ، أو لأنها تمنع من قتل الجاني ، والعقل : ثوب موشى ، قال الشاعر :


عقلا ورقما تظل الطير تتبعه     كأنه من دم الأجواف مدموم



والعقال : زكاة العام ، قال الشاعر :


سعى عقالا فلم يترك لنا سبدا     فكيف لو قد سعى عمرو عقالين



ورمل عقنقل : متماسك عن الانهيار . الصبر : حبس النفس على المكروه ، والفعل : صبر يصبر على فعل يفعل ، وأصله أن يتعدى لواحد ، قال الشاعر :


فصبرت عارفة لذلك حرة     ترسو إذا نفس الجبان تطلع



وقد كثر حذف مفعوله حتى صار كأنه غير متعد .

( لكبيرة ) : من كبر يكبر ، ويكون ذلك في الجرم وفي القدر ، ويقال : كبر علي كذا ، أي شق ، وكبر يكبر ، فهو كبير من السن . قال الشاعر :


صغيرين نرعى البهم يا ليت أننا     إلى اليوم لم نكبر ولم يكبر البهم



الخشوع : قريب من الخضوع ، وأصله : اللين والسهولة ، وقيل : الاستكانة والتذلل . وقال الليث : الخضوع في البدن ، والخشوع في البدن والبصر والصوت ، والخشعة : الرملة المتطامنة . وفي الحديث : " كانت الكعبة خشعة على الماء " .

الظن : ترجيح أحد الجانبين ، وهو الذي يعبر عنه النحويون بالشك ، وقد يطلق على التيقن . وفي كلا الاستعمالين يدخل على ما أصله المبتدأ والخبر بالشروط التي ذكرت في النحو ، خلافا لأبي زيد السهيلي ، إذ زعم أنها ليست من نواسخ الابتداء . والظن أيضا يستعمل بمعنى التهمة ، فيتعدى إذ ذاك لواحد ، قال الفراء : الظن يقع بمعنى الكذب ، والبصريون لا يعرفون ذلك .

( أتأمرون الناس بالبر ) الهمزة للاستفهام وضعا ، وشابها هنا التوبيخ والتقريع لأن المعنى الإنكار عليهم وتوبيخهم على أن يأمر الشخص بخير ، ويترك نفسه ، ونظيره في النهي قول أبي الأسود :


لا تنه عن خلق وتأتي مثله     عار عليك إذا فعلت عظيم



وقول الآخر :


وابدأ بنفسك فانهها عن غيها     فإن انتهت عنه فأنت حكيم



فيقبح في العقول أن يأمر الإنسان بخير وهو لا يأتيه ، وأن ينهى عن سوء وهو يفعله ، وفي تفسير البر هنا أقوال : الثبات على دين رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، وهم لا يتبعونه ، أو اتباع التوراة وهم [ ص: 183 ] يخالفونها في جحدهم صفته . وروي عن قتادة وابن جريج والسدي : أو على الصدقة ويبخلون ، أو على الصدق وهم لا يصدقون ، أو حض أصحابهم على الصلاة والزكاة ولا يأتونهما . وقال السلمي : أتطالبون الناس بحقائق المعاني وأنتم قلوبكم خالية عن ظواهر رسومها ؟ وقال القشيري : أتحرضون الناس على البدار وترضون بالتخلف ؟ وقال : أتدعون الخلق إلينا وتقعدون عنا ؟ وألفاظا من هذا المعنى ، وأتى بالمضارع في : ( أتأمرون ) ، وإن كان قد وقع ذلك منهم لأنه يفهم منه في الاستعمال في كثير من المواضع : الديمومة وكثرة التلبس بالفعل ، نحو قولهم : زيد يعطي ويمنع ، وعبر عن ترك فعلهم بالنسيان مبالغة في الترك ، فكأنه لا يجري لهم على بال ، وعلق النسيان بالأنفس توكيدا للمبالغة في الغفلة المفرطة .

( وتنسون ) : معطوف على تأمرون ، والمنعي عليهم جمعهم بين هاتين الحالتين من أمر الناس بالبر الذي في فعله النجاة الأبدية ، وترك فعله حتى صار نسيا منسيا بالنسبة إليهم . ( أنفسكم ) ، والأنفس هنا : ذواتهم ، وقيل : جماعتهم وأهل ملتهم ، ثم قيد وقوع ذلك منهم بقوله : ( وأنتم تتلون الكتاب ) : أي أنكم مباشرو الكتاب وقارئوه ، وعالمون بما انطوى عليه ، فكيف امتثلتموه بالنسبة إلى غيركم وخالفتموه بالنسبة إلى أنفسكم ؟ كقوله تعالى : ( وتكتموا الحق وأنتم تعلمون ) . والجملة حالية ولا يخفى ما في تصديرها بقوله : ( وأنتم ) من التبكيت لهم والتقريع والتوبيخ لأجل المخاطبة بخلافها لو كانت اسما مفردا ، والكتاب هنا : التوراة والإنجيل ، وفيهما النهي عن هذا الوصف الذميم ، وهذا قول الجمهور . وقيل : الكتاب هنا القرآن ، قالوا : ويكون قد انصرف من خطاب أهل الكتاب إلى خطاب المؤمنين ، ويكون ذلك من تلوين الخطاب ، مثل قوله تعالى : ( يوسف أعرض عن هذا واستغفري لذنبك ) ، وفي هذا القول بعد ، إذ الظاهر أن هذا كله خطاب مع أهل الكتاب .

( أفلا تعقلون ) : مذهب سيبويه والنحويين : أن أصل الكلام كان تقديم حرف العطف على الهمزة في مثل هذا ومثل ( أولم يسيروا ) ( أثم إذا ما وقع ) لكن لما كانت الهمزة لها صدر الكلام ، قدمت على حرف العطف ، وذلك بخلاف هل ، وزعم الزمخشري أن الواو والفاء وثم بعد الهمزة واقعة موقعها ، ولا تقديم ولا تأخير ، ويجعل بين الهمزة وحرف العطف جملة مقدرة يصح العطف عليها ، وكأنه رأى أن الحذف أولى من التقديم والتأخير . وقد رجع عن هذا القول في بعض تصانيفه إلى قول الجماعة ، وقد تكلمنا على هذه المسألة في شرحنا لكتاب التسهيل . فعلى قول الجماعة يكون التقدير : فألا تعقلون ، وعلى قول الزمخشري يكون التقدير : أتعقلون فلا تعقلون ، أمكثوا فلم يسيروا في الأرض ، أو ما كان شبه هذا الفعل مما يصح أن يعطف عليه الجملة التي بعد حرف العطف ، ونبههم بقوله : ( أفلا تعقلون ) على أن فيهم إدراكا شريفا يمنعهم من قبيح ما ارتكبوه من أمر غيرهم بالخير ونسيان أنفسهم عنه ، وإن هذه حالة من سلب العقل ، إذ العاقل ساع في تحصيل ما فيه نجاته وخلاصه أولا ، ثم يسعى بعد ذلك في خلاص غيره ، ابدأ بنفسك ثم بمن تعول ، ومركوز في العقل أن الإنسان إذا لم يحصل لنفسه مصلحة ، فكيف يحصلها لغيره ؟ ألا ترى إلى قول الشاعر :


إذا المرء لم يخزن عليه لسانه     فليس على شيء سواه بخزان



فإذا صدر من الإنسان تحصيل المصلحة لغيره ، ومنع ذلك لنفسه ، كان ذلك خارجا عن أفعال العقلاء ، خصوصا في الأمور التي يرجى بسلوكها النجاة من عذاب الله ، والفوز بالنعيم السرمدي . وقد فسروا قوله : ( أفلا تعقلون ) بأقوال : ( أفلا تعقلون ) أفلا تمنعون أنفسكم من مواقعة هذه الحال المردية بكم ، أو : أفلا تفهمون قبح ما تأتون من معصية ربكم في اتباع محمد ، صلى الله عليه وسلم ، والإيمان به ، أو : أفلا تنتهون ; [ ص: 184 ] لأن العقل ينهى عن القبيح ، أو أفلا ترجعون ; لأن العقل يراد إلى الأحسن ، أو أفلا تعقلون أنه حق فتتبعونه ، أو أن وبال ذلك عليكم راجع ، أو : أفلا تمتنعون من المعاصي ، أو : أفلا تعقلون ، إذ ليس في قضية العقل أن تأمر بالمعروف ولا تأتيه ، أو : أفلا تفطنون لقبح ما أقدمتم عليه حتى يصدكم استقباحه عن ارتكابه ، وكأنكم في ذلك مسلوبو العقل ; لأن العقول تأباه وتدفعه . وشبيه بهذه الآية ( لم تقولون ما لا تفعلون ) الآية . والمقصود من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : الإرشاد إلى المنفعة والتحذير عن المفسدة ، وذلك معلوم بشواهد العقل ، فمن وعظ ولم يتعظ فكأنه أتى بفعل متناقض لا يقبله العقل ، ويصير ذلك الوعظ سببا للرغبة في المعصية ; لأنه يقال : لولا اطلاع الواعظ على أن لا أصل لهذه التخويفات لما أقدم على المعصية ، فتكون النفس نافرة عن قبول وعظ من لم يتعظ ، وأنشدوا :


مواعظ الواعظ لن تقبلا     حتى يعيها قلبه أولا



وقال علي - كرم الله وجهه : قصم ظهري رجلان : عالم متهتك ، وجاهل متنسك . ولا دليل في الآية لمن استدل بها على أنه ليس للعاصي أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، ولا في قوله تعالى : ( لم تقولون ما لا تفعلون ) ولا للمعتزلة في أن فعل العبد غير مخلوق لله تعالى ، قالوا : التوبيخ لا يحسن إلا إذا كانوا فاعلي أفعالهم ، وهذه مسألة مشكلة يبحث فيها في علم الكلام . وهذا الإنكار والتوبيخ والتقريع ، وإن كان خطابا لبني إسرائيل ، فهو عام من حيث المعنى . وعن محمد بن واسع : بلغني أن ناسا من أهل الجنة اطلعوا على ناس من أهل النار فقالوا لهم : قد كنتم تأمروننا بأشياء عملناها فدخلنا الجنة ، قالوا : كنا نأمركم بها ونخالف إلى غيرها .

التالي السابق


الخدمات العلمية