الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في كراهية البيع والشراء وإنشاد الضالة والشعر في المسجد

                                                                                                          322 حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن ابن عجلان عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد وعن البيع والاشتراء فيه وأن يتحلق الناس يوم الجمعة قبل الصلاة قال وفي الباب عن بريدة وجابر وأنس قال أبو عيسى حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حديث حسن وعمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص قال محمد بن إسمعيل رأيت أحمد وإسحق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب قال محمد وقد سمع شعيب بن محمد من جده عبد الله بن عمرو قال أبو عيسى ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث عن صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده قال علي بن عبد الله وذكر عن يحيى بن سعيد أنه قال حديث عمرو بن شعيب عندنا واه وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد وبه يقول أحمد وإسحق وقد روي عن بعض أهل العلم من التابعين رخصة في البيع والشراء في المسجد وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث رخصة في إنشاد الشعر في المسجد

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          ( باب ما جاء في كراهية البيع والشراء وإنشاد الضالة والشعر في المسجد )

                                                                                                          قال الجزري في النهاية : الضالة هي الضائعة من كل ما يقتنى من الحيوان وغيره ، ضل الشيء إذا ضاع ، وضل عن الطريق إذا حار ، وهي في الأصل فاعلة ، ثم اتسع فيها فصارت من الصفات الغالبة ، وتقع على الذكر والأنثى والاثنين والجمع وتجمع على الضوال ، انتهى . وقال : يقال نشدت الضالة فأنا ناشد إذا طلبتها وأنشدتها فأنا منشد إذا عرفتها ، انتهى . وفي القاموس : أنشد الضالة عرفها واسترشد عنها ضد ، انتهى . وفي الصراح : تعريف كردن كم شده وشعر خواندن .

                                                                                                          قوله : ( عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ) يأتي تراجم هؤلاء في هذا الباب .

                                                                                                          قوله : ( أنه نهى عن تناشد الأشعار في المسجد ) قال في القاموس : أنشد الشعر قرأه وبهم هجاهم ، وتناشدوا أنشد بعضهم بعضا ، والنشدة بالكسر الصوت ، والنشيد رفع الصوت ، والشعر المتناشد كالأنشودة ، انتهى . وقال في المجمع هو أن ينشد كل واحد صاحبه نشيدا لنفسه أو لغيره افتخارا أو مباهاة وعلى وجه التفكه بما يستطاب منه . وأما ما كان في مدح حق وأهله وذم [ ص: 230 ] باطل أو تمهيد قواعد دينية أو إرغاما للمخالفين فهو حق خارج عن الذم وإن خالطه نشيد ، انتهى . ( وعن البيع والشراء فيه ) أي في المسجد بفتح الشين والمد . قال الشوكاني في النيل : ذهب جمهور العلماء إلى أن النهي محمول على الكراهة . قال العراقي : وقد أجمع العلماء على أن ما عقد من البيع في المسجد لا يجوز نقضه . وهكذا قال الماوردي ، وأنت خبير بأن حمل النهي على الكراهة يحتاج إلى قرينة صارفة عن المعنى الحقيقي الذي هو التحريم عند القائلين بأن النهي حقيقة في التحريم وهو الحق ، وإجماعهم على عدم جواز النقض ، وصحة العقد لا منافاة بينه وبين التحريم فلا يصح جعله قرينة لحمل النهي على الكراهة ، وذهب بعض أصحاب الشافعي إلى أنه لا يكره البيع والشراء في المسجد والأحاديث ترد عليه ، انتهى ( وأن يتحلق الناس فيه يوم الجمعة قبل الصلاة ) أي أن يجلسوا متحلقين حلقة واحدة أو أكثر وإن كان لمذاكرة علم ، وذلك لأنه ربما قطع الصفوف مع كونهم مأمورين بالتبكير يوم الجمعة والتراص في الصفوف ، الأول فالأول ، ولأنه يخالف هيئة اجتماع المصلين ، ولأن الاجتماع للجمعة خطب عظيم لا يسع من حضرها أن يهتم بما سواها حتى يفرغ منها ، والتحلق قبل الصلاة يوهم غفلتهم عن الأمر الذي ندبوا إليه ، ولأن الوقت وقت الاشتغال بالإنصات للخطبة . والتقييد بقبل الصلاة يدل على جوازه بعدها للعلم والذكر والتقييد بيوم الجمعة يدل على جوازه في غيره . والحديث رواه أبو داود وزاد : وأن تنشد فيه ضالة .

                                                                                                          . قوله ( وفي الباب عن بريدة وجابر وأنس ) أما حديث جابر فأخرجه النسائي ، وأما حديث أنس فأخرجه الطبراني ، قال العراقي : ورجاله ثقات .

                                                                                                          قوله : ( حديث عبد الله بن عمرو بن العاص حديث حسن ) وأخرجه أبو داود والنسائي وابن ماجه ، والحديث صححه ابن خزيمة ، وقال الحافظ في الفتح ص 273 : وإسناده صحيح إلى عمرو بن شعيب فمن يصحح نسخته يصححه ، قال : وفي المعنى عدة أحاديث لكن في أسانيدها مقال ، انتهى . وقال الحافظ في موضع آخر من الفتح ص 51 : ترجمة عمرو بن شعيب قوية على المختار لكن حيث لا تعارض ، انتهى .

                                                                                                          [ ص: 231 ] قوله : ( وعمرو بن شعيب هو ابن محمد بن عبد الله بن عمرو بن العاص ) مرجع هو شعيب فمحمد بن عبد الله هو والد شعيب وجد عمرو ، وعبد الله بن عمرو جد شعيب والد جد عمرو ( قال محمد بن إسماعيل ) هو الإمام البخاري ( رأيت أحمد وإسحاق وذكر غيرهما يحتجون بحديث عمرو بن شعيب ) في شرح ألفية العراقي للمصنف قد اختلف في الاحتجاج برواية عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ، وأصح الأقوال أنها حجة مطلقا إذا صح السند إليه . قال ابن الصلاح : وهو قول أكثر أهل الحديث حملا للجد عند الإطلاق على الصحابي عبد الله بن عمرو دون ابنه محمد والد شعيب لما ظهر لهم من إطلاقه ذلك ، فقد قال البخاري : رأيت أحمد بن حنبل وعلي بن المديني وإسحاق بن راهويه وأبا عبيد وأبا خيثمة وعامة أصحابنا يحتجون بحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده ما تركه أحد منهم وثبتوه فمن الناس بعدهم . وقول ابن حبان هي منقطعة لأن شعيبا لم يلق عبد الله مردودا ، فقد صح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو كما صرح به البخاري في التاريخ ، وأحمد وكما رواه الدارقطني ، والبيهقي في السنن بإسناد صحيح ، وذكر بعضهم أن محمدا مات في حياة أبيه ، وأن أباه كفل شعيبا ورباه ، وقيل لا يحتج به مطلقا ، انتهى كلامه بتلخيص .

                                                                                                          قال ( محمد ) يعني البخاري ( وقد سمع شعيب بن محمد من عبد الله بن عمرو ) وكذلك قد صرح غير واحد بسماعه منه . قال أبو بكر بن زياد : صح سماع عمرو من أبيه وصح سماع شعيب من جده عبد الله بن عمرو كذا في الخلاصة . وقال الجوزجاني : قلت لأحمد : سمع عمرو من أبيه شيئا ؟ قال : يقول حدثني أبي ، قلت : فأبوه سمع من عبد الله بن عمرو ؟ قال : نعم أراه قد سمع منه ، كذا في هامش الخلاصة نقلا عن التهذيب . وقال الحافظ في التقريب : ثبت سماعه من جده ، انتهى . قلت : ويدل على سماعه منه ما رواه الدارقطني والحاكم والبيهقي عنه في إفساد الحج فقالوا عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه أن رجلا أتى عبيد الله بن عمرو يسأله عن المحرم وقع بامرأته ، فأشار إلى عبد الله بن عمر ، فقال : اذهب إلى ذلك فاسأله ، قال شعيب : فلم يعرفه الرجل ، فذهبت [ ص: 232 ] معه فسأل ابن عمر وإسناده صحيح كما عرفت في كلام العراقي ( ومن تكلم في حديث عمرو بن شعيب إنما ضعفه لأنه يحدث عن صحيفة جده كأنهم رأوا أنه لم يسمع هذه الأحاديث من جده ) قد أطال الحافظ الذهبي الكلام في ترجمة عمرو بن شعيب ، وقال في آخره : قد أجبنا عن روايته عن أبيه عن جده بأنها ليست بمرسلة ولا منقطعة ، أما كونها وجادة أو بعضها سماع وبعضها وجادة فهذا محل نظر ، ولسنا نقول إن حديثه من أعلى أقسام الصحيح بل هو من قبيل الحسن ، انتهى كلامه ( قال علي بن عبد الله وذكر عن يحيى بن سعيد أنه قال : حديث عمرو بن شعيب عندنا واه ) أي ضعيف ، وعلي بن عبد الله هو ابن المديني ويحيى بن سعيد هو القطان ، وقد عرفت أن عند أكثر أهل الحديث حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده حجة مطلقا إذا صح السند إليه ، وهو أصح الأقوال والله تعالى أعلم .

                                                                                                          قوله : ( وقد كره قوم من أهل العلم البيع والشراء في المسجد ، وبه يقول أحمد وإسحاق ) وهو قول الجمهور وهو الحق ( وقد روي عن بعض أهل العلم من التابعين رخصة في البيع والشراء في المسجد ) لم يقم على قول هذا البعض دليل صحيح بل ترده أحاديث الباب ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم في غير حديث ( رخصة في إنشاد الشعر في المسجد ) كحديث جابر بن سمرة ، قال : شهدت النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة في المسجد ، وأصحابه يتذاكرون الشعر وأشياء من أمر الجاهلية ، فربما تبسم معهم . رواه أحمد ورواه الترمذي في كتاب الآداب من جامعه ص 463 بلفظ : جالست النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من مائة مرة فكان أصحابه يتناشدون الشعر ، ويذكرون أشياء من أمر الجاهلية ، فربما يتبسم معهم . قال الترمذي هذا حديث حسن صحيح ، وكحديث سعيد بن المسيب قال : مر عمر في المسجد وحسان فيه ينشد ، فلحظ إليه ، فقال : كنت أنشد فيه وفيه من هو خير منك ، ثم التفت إلى أبي هريرة فقال : أنشدك الله أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : أجب عني ، اللهم أيده بروح القدس ؟ قال : نعم ، أخرجه الشيخان .

                                                                                                          وقد جمع بين الأحاديث بوجهين : الأول حمل النهي على التنزيه والرخصة على بيان الجواز .

                                                                                                          [ ص: 233 ] والثاني حمل أحاديث الرخصة على الشعر الحسن المأذون فيه ، كهجاء حسان للمشركين ومدحه صلى الله عليه وسلم وغير ذلك . ويحمل النهي على التفاخر والهجاء ونحو ذلك . ذكر هذين الوجهين العراقي في شرح الترمذي . وقال الحافظ في الفتح : والجمع بين الأحاديث أن يحمل النهي على تناشد الأشعار الجاهلية والمبطلين ، المأذون فيه ما سلم من ذلك ، وقيل المنهي عنه ما إذا كان التناشد غالبا على المسجد حتى يتشاغل به من فيه ، انتهى . وقال ابن العربي : لا بأس بإنشاد الشعر في المسجد إذا كان في مدح الدين وإقامة الشرع ، وإن كان فيه الخمر ممدوحة بصفاتها الخبيثة من طيب رائحة ، وحسن لون ، وغير ذلك مما يذكره من يعرفها ، وقد مدح فيه كعب بن زهير رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :

                                                                                                          بانت سعاد فقلبي اليوم متبول

                                                                                                          .

                                                                                                          إلى قوله في صفة ريقها :


                                                                                                          كأنه منهل بالراح معلول

                                                                                                          .

                                                                                                          قال العراقي : وهذه قصيدة قد رويناها من طرق لا يصح منها شيء ، وذكرها ابن إسحاق بسند منقطع وعلى تقدير ثبوت هذه القصيدة عن كعب ، وإنشاده بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فليس فيها مدح الخمر ، وإنما فيه مدح ريقها وتشبيهه بالراح ، انتهى .




                                                                                                          الخدمات العلمية