الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف رحمه الله تعالى ( وإن كان مما لا يكال ولا يوزن وقلنا بقوله الجديد : إنه يحرم فيه الربا ، وجوزنا بيع بعضه ببعض نظرت فإن كان مما لا يمكن كيله كالبقل والقثاء [ ص: 232 ] والبطيخ وما أشبههما - بيع وزنا ، وإن كان مما يمكن كيله ففيه وجهان ( أحدهما ) أنه لا يباع إلا كيلا ، لأن الأصل هو الأعيان الأربعة المنصوص عليها وهي مكيلة ، فوجب رده إلى الأصل ( والثاني ) أنه لا يباع إلا وزنا لأن الوزن أحصر )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله : وإن كان أي المبيع المطعوم مما لا يكال ولا يوزن أي في العادة - وإن كان قد يتأتى كيله أو وزنه على خلاف العادة ، وهذا القسم يندرج تحته القسم الثالث والرابع من التقسيم المتقدم ، لأنه لا فرق في الحكم هنا بين ما عهده في زمنه صلى الله عليه وسلم كذلك وما حدث بعده على ما تقدم التنبيه عليه وعلى كلام ابن يونس فيه ( وأما ) العمراني فإنه في كتاب السؤال عما في المهذب من الإشكال جعل المسألة الأولى التي تقدمت في المطعومات التي لم تكن بأرض الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم والمسألة الثانية وهي هذه التي شرعنا فيها في المطعومات التي كانت في أرض الحجاز في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ما لم تجر العادة فيه بكيل ولا وزن ، والذي قلته أشمل وأحسن فاعلمه . إذا عرف ذلك فإن لنا خلافا قدمه المصنف في أول الفصل من هذا الباب في جريان الربا في هذه الأشياء كالبقل والقثاء والبطيخ والرمان والسفرجل والباذنجان والخيار والجوز وسائر الفواكه التي تباع عددا ، قال بعضهم : وذلك على عادة الشرق ، وإلا فالجوز والقثاء في بلادنا يباعان وزنا والباذنجان وكثير من الخضراوات في بعض البلاد كذلك ضابط ما يطلب فيه ما لم يجر العرف العام بتقديره ، ولا اعتبار بما يتفق في بعض على خلاف العموم ( فالقديم ) لا يجري الربا فيه لعدم التقدير بالكيل أو الوزن وهو جزء العلة في ( القديم ) فعلى هذا يجوز بيع بعضه ببعض عددا وجزافا ومتفاضلا ، ولا تأتي المسألة فيما نحن فيه .

                                      ( وإن قلنا ) بقوله ( الجديد ) فله في الجديد قولان ذكرهما المصنف بعد هذا بفصلين فيما لا يدخر من الفواكه ، ويذكرهما القاضي حسين وجهين فيما يدخر بعد تجفيفه ؟ قال : لا يجوز بيع رطبة برطب ، وبعد الجفاف فيه وجهان لأنه لا يعرف معيار في الشرع وسيأتي شرح ذلك إن شاء الله تعالى ، فحيث قلنا : لا يجوز بيع بعضه ببعض لا تأتي ، المسألة ، وحيث قلنا بالجواز وهو الذي نسبه بعض إلى ابن جريج وابن سريج فعلى هذا إن كان مما [ ص: 233 ] لا يمكن كيله كالبقل والقثاء والبطيخ والرمان . قال الماوردي : والسفرجل الكبار ، قاله الجرجاني : والفجل والسلجم والجزر ، قاله القاضي أبو الطيب ، وما أشبهه بيع وزنا ، قاله الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب ، والماوردي ، والمحاملي ، والمصنف وابن الصباغ والرافعي وغيرهم . وإن كان مما يمكن كيله كالتفاح ، قاله أبو الطيب وابن الصباغ والتين قاله الرافعي : والنبق والعناب قالهما الماوردي ، والخوخ الصغار قاله الشيخ أبو حامد وابن الصباغ ، ففي معياره وجهان حكاهما الشيخ أبو حامد والقاضي أبو الطيب والماوردي والمحاملي وابن الصباغ والمصنف والرافعي وغيرهم ، وحكاهما أبو علي الطبري في تعليقه عن ابن أبي هريرة قولين ( أصحهما ) أنه يباع وزنا لأنه أحصر في حصول حقيقة المساواة وهذا ما صححه الجرجاني في التحرير والشافي ، وممن صحح ذلك القاضي أبو الطيب ، وكذلك الغزالي قال في البسيط بعد ذكر ما يكال ولا يوزن ، وهذا فيما لا قشر له ، أما الجوز والبيض فلا يجوز بيعه وزنا وجها واحدا .

                                      وطرد صاحب التقريب فيه خلافا إذا بيع وزنا وهو بعيد ، لأن الوزن فيه لا يضبط ، وقال هو وابن الصباغ : إنه صرح به في الأم ، وقد رأيته في الأم في باب الآجال في الصرف ، قال بعد أن قرر القول الجديد : وجريان الربا في غير المكيل والموزون من المأكول إذا بيع منه جنس بشيء من جنسه لم يصح عددا ولم يصح إلا وزنا بوزن وهذا مكتوب في غير هذا الموضع بلفظه هذا لفظ الشافعي رحمه الله ، وممن صححه القاضي أبو الطيب والجرجاني والرافعي ، قال الرافعي : ولا بأس على الوجهين بتفاوت العدد ، ونقل إسماعيل الخضري عن الشيخ أبي حامد أن أولى الوجهين الكيل ، قال ابن الصباغ : فإن قيل من شأن الفرع أن يرد إلى الأصل بحكمه ، وهذه الأصول حكمها تحريم التفاضل في الكيل ، فكيف يكون حكم فروعها تحريم التفاضل في الوزن ، قلنا : إنما اعتبر الكيل في المنصوص عليها لأن تقديرها في العادة بالكيل ، والفرع الملحق بها ينبغي أن يعتبر في تساويه بما يقدر به في غالب العادة كيلا كان أو غيره ، يدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم " وكذلك الميزان " وقد بينا أن الوزن ليس بعلة فلم يبق إلا أنه أراد الموزون في المطعومات . [ ص: 234 ] واعلم أن المصنف في التنبيه ذكر الخلاف في بيع هذا القسم بعضه ببعض على الجديد مقصودا ، وهنا أشار إليه في ضمن مسألة المعيار ، وذكر وجها هنا أنه يعتبر فيه الكيل ولم يذكر في التنبيه إلا الوزن فقط ، ومقتضى كلام صاحب الوافي أنها مسألة واحدة وأنه يأتي فيها من مجموع الكتابين ثلاثة أوجه ، ويحتمل أن يكون مراده في التنبيه ما إذا كان لا يمكن كيله الذي هو القسم الأول في كلام المصنف آنفا ، كالبقل والقثاء والبطيخ ، فإنه لا يأتي فيه إلا قولان ( أحدهما ) امتناع بيع بعضه ببعض الذي أشار إليه المصنف هنا ( والثاني ) الجواز إذا تساويا في الوزن .

                                      وأما إذا أمكن كيله ووزنه فلم يذكره في التنبيه ، أو يكون مراده في التنبيه ما يشمل الصورتين ما يمكن كيله وما لا يمكن ، قال في كل منهما قولا أنه لا يجوز بيع بعضه ببعض ، وعلى القول الآخر يباع وزنا ، أما فيما لا يمكن كيله فقطعا ، وأما فيما يمكن كيله فعلى الأصح وسكت عن قول اعتبار الكيل الذي هو خاص بإحدى الصورتين كذلك ولضعفه ، فهذه الاحتمالات الثلاثة شائعة في كلامه كل منها محتمل لا يرد عليه شيء ، والله أعلم . وقد صحح كلامه في التنبيه على جماعة وربما فهم منه خلاف مراده ، واستغرب بعضهم حكايته فيه القول بامتناع مطلقا وهو أعم من القولين الآتيين في المهذب فيما لا يدخر من الفواكه والله أعلم . فإن كلامه في التنبيه شامل لما يدخر ، وقد عرفت أن القاضي حسينا حكى في بيع بعضه ببعض في حالة جفافه وجهين ولما لا يدخر الذي حكي الخلاف فيه في المهذب .



                                      ( فرع ) يجوز بيع الجوز بالجوز مع قشرهما على المذهب . وحكي عن ابن كج أنه نقل عن النص أنه لا يجوز فعلى الأول ما المعيار فيه ؟ قال البندنيجي في تعليقة أبي حامد : قلت له : فالجوز بالجوز ؟ فقال الذي عندي أنه على الوجهين ( أحدهما ) يباع وزنا ( والثاني ) يباع كيلا ، وكذلك حكى الجرجاني فيه وجهين ، وقال في التهذيب والتتمة ، يجوز بيع الجوز بالجوز وزنا ، واللوز باللوز كيلا ، ويجوز بيع البيض بالبيض في قشره وزنا على المذهب . قاله الرافعي وغيره ( قلت ) وكون الجوز موزونا أقرب لما تقدم من الضابط فيما زاد على حد التمر ( وقوله ) إن اللوز مكيل مخالف لما تقدم [ ص: 235 ] عن القاضي حسين أنه موزون ، ولكن ما ذكره البغوي أولى ، فإنه يتجافى في المكيال والله أعلم .

                                      وقال الشافعي في الأم في باب بيع الآجال ما ظاهره إنه لا يجوز بيع بعضه ببعض فإنه قال : " وإذا كان منه شيء مغيب مثل الجوز واللوز وما يكون مأكوله في داخله فلا خير في بعضه ببعض عددا ولا كيلا ولا وزنا فإذا اختلف فلا بأس به من قبل أن مأكوله مغيب وأن قشره يختلف في الثقل والخفة فلا يكون أبدا إلا مجهولا بمجهول فإذا كسر فخرج مأكوله فلا بأس في بعضه ببعض يدا بيد مثلا بمثل ، وإن كان كيلا فكيلا وإن كان وزنا فوزنا ولا يجوز الخبز بعضه ببعض عددا ولا وزنا ولا كيلا من قبل أنه إذا كان رطبا فقد يبس فينقص وإذا انتهى يبسه فلا يستطاع أن يكتال ، وأصله الكيل فلا خير فيه وزنا لأنا لا نحيل الوزن إلى الكيل " هذا لفظ الشافعي رضي الله عنه . وفي المجرد من تعليق أبي حامد حكى عن الشافعي أنه قال في الصرف لا يباع الجوز بعضه ببعض كيلا ولا وزنا ثم قال : قال الشيخ : وهذا بعيد على المذهب وقد حكى الرافعي عن ابن كج أنه حكى عن نص الشافعي أنه لا يجوز ، ولعله أشار إلى النص المذكور ، وقد حكى الماوردي أيضا ذلك عن النص ، ولم يرد عليه وبالجواز جزم القاضي حسين لأن قشره من صلاح اللب ويدخر معه كيلا يفسد فهو كالنوى من التمر إلا أن هناك ما يقيه من الفساد يكون في جوفه وهاهنا ما يقيه من الفساد يكون على ظاهره ومقتضى كلام الإمام أن الجوز والبيض مما لا يكال ولا يوزن ، وأنه أبعد في جواز البيع من القثاء بالقثاء ، فإنه ذكر أن الأصح في القثاء المنع على الجديد ، ثم قال : واتفقت الطرق على منع بيع البيض بالبيض والجوز بالجوز وزنا بوزن من جهة أن المقصود في أجوافها ، وقشورها تتفاوت تفاوتا ظاهرا ، وهذا لا يتحقق في القثاء وما في معناه ، قال : وذكر صاحب التقريب في البيض والجوز : إذا بيع البعض بالبعض منها وزنا بوزن قال : وهذا بعيد .

                                      ( قلت ) وذلك أن الجوز في غالب البلاد يباع بالعدد ، ولم يستمر العرف في وزنه فهو ربوي على الجديد دون القديم ، ولم يثبت للشارع فيه معيار فامتنع بيع بعضه ببعض وهو أولى بذلك من القثاء من جهة استتاره . وذكر [ ص: 236 ] الروياني في البحر أنه حكى عن القفال أنه لا يجوز بيع الجوز بالجوز ولا اللوز باللوز عددا ولا وزنا إلا أن لا ينقص في الكيل فيجوز . وقيل : لا يجوز أصلا لأن المقصود في جوفه ، قال : والصحيح الأول لأن قشره من صلاحه ، ومقتضى كلام بعضهم الفرق بين الجوز واللوز ، فإن الجوز معدود واللوز مكيل



                                      ( فرع ) قال في الإبانة : بيع الأدوية بالأدوية إن كانت لا تتجافى في المكيال فتباع كيلا ، وإلا فوزنا ، وإن كانت معجونة فلا يصح بيع بعضها ببعض ، لأن الأخلاط فيها مجهولة ، هذا إذا كانا من جنس واحد ، وجزم الروياني في البحر بجواز بيع البيض بالبيض وزنا . قال : لأن هذه الحالة حالة كماله فإن كانا مكسورين لم يجز



                                      ( فائدة ) قال الجرجاني في التحرير : وما لا يكال ولا يوزن في مكان لا يباع بعضه ببعض في أحد القولين ويباع في القول الآخر ، وهو الأصح وينظر فإن كان لا يأتي عليه الكيل بيع وزنا ، وإن كان يأتي عليه الكيل بيع كيلا على أحد الوجهين ووزنا على الآخر . ا هـ فاستفيد من قوله : في مكان ما قدمته من أنه ليس المعتبر هنا عدم الكيل والوزن بالحجاز خاصة ، بل مطلقا ، وهو محل كلام صاحب التنبيه فيه والله أعلم .

                                      ( فائدة ) الأصحاب يطلقون الخلاف بين القديم والجديد في المطعوم الذي لا يكال ولا يوزن ولا يصرحون باعتبار العرف أو الشرع ، والمقصود من ذلك ما قدمته وكلام المصنف وغيره إذا أمعنت فيه التأمل يدلك على ذلك ، ولذلك قال أبو محمد بن عبد السلام في الغاية : فصل فيما لا يقدر شرعا ولا عرفا ما لا يقدر على العرف بكيل ولا وزن ، القديم أنه ليس بربوي . فأفاد ذلك ما قلته ، وذلك مستفاد من غضون كلام الإمام في النهاية ومن تلك اللفظة أخذ ابن عبد السلام رحمه الله ذلك ، والله أعلم




                                      الخدمات العلمية