الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الجملة الثانية .

في وقت ضمان المبيعات .

واختلفوا في الوقت الذي يتضمن فيه المشتري المبيع أنى تكون خسارته إن هلك منه : فقال أبو حنيفة ، والشافعي : لا يضمن المشتري إلا بعد القبض .

وأما مالك فله في ذلك تفصيل : وذلك أن المبيعات عنده في هذا الباب ثلاثة أقسام :

بيع يجب على البائع فيه حق توفية من وزن ، أو كيل ، وعدد .

وبيع ليس فيه حق توفية ، وهو الجزاف ، أو ما لا يوزن ، ولا يكال ، ولا يعد . فأما ما كان فيه حق توفية فلا يضمن المشتري إلا بعد القبض . وأما ما ليس فيه حق توفية وهو حاضر فلا خلاف في المذهب أن ضمانه من المشتري وإن لم يقبضه .

وأما المبيع الغائب : فعن مالك في ذلك ثلاث روايات :

أشهرها : أن الضمان من البائع إلا أن يشترطه على المبتاع .

والثانية : أنه من المبتاع ، إلا أن يشترطه على البائع .

[ ص: 546 ] والثالثة : الفرق بين ما ليس بمأمون البقاء إلى وقت الاقتضاء كالحيوان والمأكولات ، وبين ما هو مأمون البقاء .

والخلاف في هذه المسألة مبني هل على القبض شرط من شروط العقد ، أو حكم من أحكام العقد ، والعقد لازم دون القبض ؟ فمن قال القبض من شروط صحة العقد ، أو لزومه ، أو كيفما شئت أن تعبر في هذا المعنى كان الضمان عنده من البائع حتى يقبضه المشتري . ومن قال : هو حكم لازم من أحكام المبيع ، والبيع وقد انعقد ، ولزم قال : العقد يدخل في ضمان المشتري .

وتفريق مالك بين الغائب والحاضر; والذي فيه حق توفية ، والذي ليس فيه حق توفية استحسان ، ومعنى الاستحسان في أكثر الأحوال هو التفات إلى المصلحة ، والعدل .

وذهب أهل الظاهر إلى أن بالعقد يدخل في ضمان المشتري وفيما أحسب ، وعمدة من رأى ذلك اتفاقهم على أن الخراج قبل القبض للمشتري ، وقد قال عليه الصلاة والسلام : " الخراج بالضمان " .

وعمدة المخالف : حديث عتاب بن أسيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بعثه إلى مكة قال له : " انههم عن بيع ما لم يقبضوا وربح ما لم يضمنوا " .

وقد تكلمنا في شرط القبض في المبيع فيما سلف ، ولا خلاف بين المسلمين أنه من ضمان المشتري بعد القبض إلا في العهدة ، والجوائح . وإذ قد ذكرنا العهدة فينبغي أن نذكر هاهنا الجوائح .

القول في الجوائح .

اختلف العلماء في وضع الجوائح في الثمار : فقال بالقضاء بها مالك وأصحابه ، ومنعها أبو حنيفة ، والثوري ، والشافعي في قوله الجديد ، والليث .

فعمدة من قال بوضعها : حديث جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من باع ثمرا فأصابته جائحة فلا يأخذ من أخيه شيئا ، على ماذا يأخذ أحدكم مال أخيه ؟ " خرجه مسلم ، عن جابر . وما روي عنه أنه قال : " أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضع الجوائح " . فعمدة من أجاز الجوائح : حديثا جابر هذان ، وقياس الشبه أيضا ، وذلك أنهم قالوا : إنه مبيع بقي على البائع فيه حق توفية ، بدليل ما عليه من سقيه إلى أن يكمل ، فوجب أن يكون ضمانه منه أصله سائر المبيعات التي بقي فيها حق توفية ، والفرق عندهم بين هذا المبيع ، وبين سائر البيوع أن هذا بيع وقع في الشرع ، والمبيع لم يكمل بعد ، فكأنه مستثنى من النهي عن بيع ما لم يخلق ، فوجب أن يكون في ضمانه مخالفا لسائر المبيعات .

وأما عمدة من لم يقل بالقضاء بها : فتشبيه هذا البيع بسائر المبيعات وأن التخلية في هذا المبيع هو القبض .

وقد اتفقوا على أن ضمان المبيعات بعد القبض من المشتري . ومن طريق السماع أيضا حديث أبي سعيد الخدري قال : " أجيح رجل في ثمار ابتاعها وكثر دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : تصدقوا عليه ، فتصدق عليه فلم يبلغ وفاء دينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك " ، قالوا : فلم يحكم بالجائحة .

[ ص: 547 ] فسبب الخلاف في هذه المسألة : هو تعارض الآثار فيهما وتعارض مقاييس الشبه ، وقد رام كل واحد من الفريقين صرف الحديث المعارض للحديث الذي هو الأصل عنده بالتأويل :

فقال من منع الجائحة : يشبه أن يكون الأمر بها إنما ورد من قبل النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها ، قالوا : ويشهد لذلك أنه لما كثر شكواهم بالجوائح أمروا أن لا يبيعوا الثمر إلا بعد أن يبدو صلاحه ، وذلك في حديث زيد بن ثابت المشهور .

وقال من أجازها في حديث أبي سعيد : يمكن أن يكون البائع عديما ، فلم يقض عليه بجائحة ، أو أن يكون المقدار الذي أصيب من الثمر مقدارا لا يلزم فيه جائحة ، أو أن يكون أصيب في غير الوقت الذي تجب فيه الجائحة ، مثل أن يصاب بعد الجذاذ أو بعد الطيب .

وأما الشافعي فروى حديث جابر عن سليمان بن عتيق ، عن جابر ، وكان يضعفه ، ويقول : إنه اضطرب في ذكر وضع الجوائح فيه ، ولكنه قال : إن ثبت الحديث وجب وضعها في القليل والكثير .

ولا خلاف بينهم في القضاء بالجائحة بالعطش ، وقد جعل القائلون بها اتفاقهم في هذا حجة على إثباتها .

والكلام في أصول الجوائح على مذهب مالك ينحصر في أربعة فصول :

الأول : في معرفة الأسباب الفاعلة للجوائح .

الثاني : في محل الجوائح من المبيعات .

الثالث : في مقدار ما يوضع منه فيه .

الرابع : في الوقت الذي توضع فيه .

التالي السابق


الخدمات العلمية