الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 203 ] كتاب الجنايات قال ( القتل على خمسة أوجه : عمد ، وشبه عمد ، وخطأ ، وما أجري مجرى الخطأ ، والقتل بسبب ) [ ص: 204 ] والمراد بيان قتل تتعلق به الأحكام

[ ص: 205 ] قال ( فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح أو ما أجري مجرى السلاح كالمحدد من الخشب وليطة القصب والمروة المحددة والنار ) ; لأن العمد هو القصد ، ولا يوقف عليه إلا بدليله وهو استعمال الآلة القاتلة فكان متعمدا فيه عند ذلك

التالي السابق


( كتاب الجنايات )

أورد الجنايات عقيب الرهن ; لأن كل واحد منهما للوقاية والصيانة ، فإن الرهن وثيقة لصيانة المال ، وحكم الجناية لصيانة النفس ; ألا يرى إلى قوله تعالى { ولكم في القصاص حياة } ولما كان المال وسيلة لبقاء النفس قدم الرهن على الجنايات بناء على تقدم الوسائل على المقاصد ، كذا في أكثر الشروح

قال في غاية البيان : ولكن قدم الرهن ; لأنه مشروع بالكتاب والسنة ، بخلاف الجناية فإنها محظورة ; لأنها عبارة عما ليس للإنسان فعله انتهى

أقول : ليس هذا بشيء ; لأن المقصود بالبيان في كتاب الجنايات إنما هو أحكام الجنايات دون أنفسها ، ولا شك أن أحكامها مشروعة ثابتة بالكتاب والسنة أيضا فلا معنى لتأخيرها من هذه الحيثية

ثم إن الجناية في اللغة اسم لما تجنيه من شر تكسبه

وهي في الأصل مصدر جنى عليه شرا جناية ، وهو عام في كل ما يقبح ويسوء ، إلا أنه في الشرع خص بفعل محرم حل بالنفوس والأطراف ، والأول يسمى قتلا وهو فعل من العباد تزول به الحياة ، والثاني يسمى قطعا وجرحا ، هذا زبدة ما في الكتاب والشروح

( قوله القتل على خمسة أوجه : عمد ، وشبه عمد ، وخطأ ، وما أجري مجرى الخطأ ، والقتل بسبب ) قال صاحب النهاية : وجه الانحصار في هذه الخمسة هو أن القتل إذا صدر عن إنسان لا يخلو إما أن حصل بسلاح أو بغير سلاح ، فإن حصل بسلاح فلا يخلو إما أن يكون به قصد القتل أم لا ، فإن كان فهو عمد ، وإن لم يكن فهو خطأ

وإن لم يكن بسلاح فلا يخلو إما أن يكون معه قصد التأديب والضرب أم لا ، فإن كان فهو شبه العمد ، وإن لم يكن فلا يخلو إما أن يكون جاريا مجرى الخطأ أم لا ، فإن كان فهو هو وإن لم يكن فهو القتل بسبب ، وبهذا [ ص: 204 ] الانحصار يعرف أيضا تفسير كل واحد منها انتهى

أقول : فيه خلل

أما أولا فلأنه جعل القتل الخطأ مخصوصا بما حصل بسلاح وليس كذلك ; إذ لا شك أن القتل الخطأ كما يكون بسلاح يكون أيضا بما ليس بسلاح كالحجر العظيم والخشبة العظيمة

وأما ثانيا فلأن قوله : فإن كان هو هو يشبه تفسير الشيء بنفسه

وأما ثالثا فلأن قوله ، وإن لم يكن جاريا مجرى الخطأ فهو القتل بسبب ليس بتام لأن ما لا يكون جاريا مجرى الخطأ لا يلزم أن يكون القتل بسبب ألبتة ، بل يجوز أن يكون القتل بخطأ محض أيضا فلا يتم الحصر في القتل بسبب

ولما تنبه صاحب العناية لما في وجه الحصر الذي ذكره صاحب النهاية من القصور قال في بيان قول المصنف القتل على خمسة أوجه : وذلك أنا قد استقرينا فوجدنا ما يتعلق به شيء من الأحكام المذكورة أحد هؤلاء الأوجه المذكورة ، ونقل ما ذكره صاحب النهاية من وجه الحصر فقال : وضعفه وركاكته ظاهران من غير تفصيل وبيان ( قوله : والمراد بيان قتل تتعلق به الأحكام ) قال جمهور الشراح : إنما قيد به ; لأن أنواع القتل من حيث هو قتل من غير نظر إلى ضمان القتل وعدم ضمانه أكثر من خمسة : كقتل المرتد ، والقتل قصاصا ، والقتل رجما ، والقتل بقطع الطريق ، وقتل الحربي ، حتى قال بعضهم : ونظير هذا ما قاله محمد في كتاب الأيمان : الأيمان ثلاثة ، ولم يرد به جنس الأيمان ; لأنها أكثر من ثلاثة : يمين الله ، ويمين بالطلاق ، ويمين بالعتاق والحج والعمرة ، وإنما أراد بذلك الأيمان بالله تعالى انتهى

أقول : فيما قالوا نظر ; إذ الظاهر أن شيئا من أنواع القتل لا يخرج من الأوجه الخمسة المذكورة في الكتاب ، بل يدخل كل من ذلك في واحد من تلك الأوجه ، فإن ما ذكروا من قتل المرتد وقتل الحربي والقتل قصاصا أو رجما أو قطع الطريق يكون قتل عمد إن تعمد القاتل ضرب المقتول بسلاح وما أجري مجرى السلاح ، ويكون شبه عمد إن تعمد ضربه بما ليس بسلاح ، ولا ما أجري مجرى السلاح ، ويكون خطأ إن لم يكن بطريق التعمد بل كان بطريق الخطإ إلى غير ذلك من الأوجه المذكورة ، وإنما تكون تلك الأنواع المباحة من القتل خارجة من الأحكام المذكورة لهذه الأوجه الخمسة لا من نفس هذه الأوجه الخمسة فلا معنى للقول بأن أنواع القتل أكثر من خمسة فإن قلت : كيف يتصور خروج تلك الأنواع من الأحكام المذكورة للأوجه الخمسة للقتل لا من نفس هذه الأوجه وحكم الشيء ما يترتب عليه ويلزمه ؟ قلت : قد يكون ترتب الحكم على شيء مشروطا بشروط ; ألا يرى أنهم جعلوا وجوب القود من أحكام القتل العمد مع أن له شرائط كثيرة : منها كون القاتل عاقلا بالغا إذ لا يجب القود على المجنون والصبي أصلا

ومنها أن لا يكون المقتول جزء القاتل حتى لو قتل الأب ولده عمدا لا يجب عليه القصاص ، وكذا لو قتلت الأم ولدها وكذا الجد والجدة

ومنها أن لا يكون المقتول ملك القاتل حتى لا يقتل المولى بعبده

ومنها كون المقتول معصوم الدم مطلقا فلا يقتل مسلم ولا ذمي بالكافر الحربي ، ولا بالمرتد لعدم العصمة أصلا ، ولا بالمستأمن في ظاهر الرواية ; لأن عصمته ما ثبتت مطلقة بل مؤقتة إلى غاية مقامه في دار الإسلام ، صرح بذلك كله في عامة المعتبرات ، فكذا كون القتل بغير حق شرطا لترتب كل من الأحكام المذكورة للأوجه الخمسة من القتل ، وليس شيء مما ذكروا من الأنواع المباحة للقتل بغير حق بل كلها بحق ، فدخولها في نفس أوجه القتل دون الأحكام المذكورة لها بناء على انتفاء شرط تلك الأحكام وهو كون القتيل معصوم الدم ، وكون القتل [ ص: 205 ] بغير حق لا يقدح في شيء

فالأظهر أن مراد المصنف بقوله والمراد بيان قتل تتعلق به الأحكام هو التنبيه على أن المقصود بالبيان في كتاب الجنايات إنما هو أحوال القتل بغير حق ; إذ هو الذي يكون من الجنايات ، ويترتب عليه أحكامها دون أحوال مطلق القتل ، وإن كان الأوجه الخمسة المذكورة تتناول كل ذلك ( قوله فالعمد ما تعمد ضربه بسلاح أو ما أجري مجرى السلاح ) قال بعض الفضلاء في تفسير قوله ضربه : أي ضرب المقتول ، وقال : فيخرج العمد فيما دون النفس انتهى

أقول : يرد عليه النقض بمسألة ذكرت في المحيط نقلا عن المنتقى ، وهي أنه إذا تعمد أن يضرب يد رجل فأخطأ فأصاب عنق ذلك الرجل فأبان رأسه وقتله فهو عمد وفيه القود ، وإن أصاب عنق غيره فهو خطأ

وجه الورود أنه لم يتعمد في الصورة الأولى ضرب المقتول بل تعمد ضرب يده ، مع أنه جعل ضربه القتل العمد وأجري عليه حكم قتل النفس ، وهو القود تأمل ( قوله : لأن العمد هو القصد ولا يوقف عليه إلا بدليله وهو استعمال الآلة القاتلة فكان متعمدا فيه عند ذلك ) أقول : فيه بحث ، وهو أن هذا القدر من التعليل يشكل بما إذا استعمل الآلة القاتلة في القتل الخطإ ; كما إذا رمى شخصا بسهم أو ضربه بسيف يظنه صيدا فإذا هو آدمي ، أو يظنه حربيا فإذا هو مسلم ، وهذا من نوع الخطإ في القصد ، وكما إذا رمى غرضا بآلة قاتلة فأصاب آدميا وهذا من نوع الخطإ في الفعل ، فإن استعمال الآلة القاتلة الذي جعل دليلا على القصد قد تحقق هناك أيضا مع أنه ليس بعمد بل هو خطأ محض على ما نصوا عليه قاطبة

فإن قلت : المراد باستعمال الآلة القاتلة في التعليل المذكور استعمالها لضرب المقتول لا استعمالها مطلقا ففيما إذا رمى غرضا فأصاب آدميا لم يكن استعمالها لضرب الآدمي بل كان لغرض آخر

قلت : هذا التأويل إنما يفيد في نوع الخطإ في الفعل دون نوع الخطإ في القصد ، فإن استعمالها فيه أيضا لضرب المقتول لكن الخطأ في وصف المقتول

فإن قلت : المراد استعمالها لضرب المقتول من حيث هو آدمي لا استعمالها لضربه مطلقا ، وفي نوع الخطإ في القصد لم تتحقق الحيثية المذكورة قلت : كون الاستعمال من هذه الحيثية أمر مضمر راجع إلى النية والقصد فلا يوقف عليه كما لا يوقف على العمد فلا بد من دليل آخر خارجي لم يذكر في التعليل المزبور

ثم إنه لو كان مدار كون القتل عمدا مجرد استعمال الآلة القاتلة كما هو الظاهر من التعليل المزبور لما كان لقول صاحب الوقاية وكثير من أصحاب المتون : القتل العمد ضربه قصدا بما يفرق الأجزاء كسلاح ومحدد من خشب أو حجر أو ليطة أو نار وجه ; إذ يلزم إذ ذاك أن يكون قيد قصدا زائدا بل لغوا لعدم الوقوف عليه بالغرض إلا باستعمال الآلة القاتلة وهو ضربه مما يفرق الأجزاء فيكفي ذكره ، بل لما كان لقيد تعمد في الكتاب أيضا في قوله فالعمد ما تعمد ضربه وجه ، بل كان ينبغي أن يقال فالعمد ما ضربه بسلاح أو ما أجري مجرى السلاح فتدبر




الخدمات العلمية