الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                    64 - ( فصل )

                    الطريق الثامن ومن طرق الحكم ; الحكم بالرجل الواحد والمرأتين : قال الله تعالى : { واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } .

                    فإن قيل : فظاهر القرآن يدل على أن الشاهد والمرأتين بدل عن الشاهدين ، وأنه لا يقضى بهما إلا عند عدم الشاهدين . قيل : القرآن لا يدل على ذلك ، فإن هذا أمر لأصحاب الحقوق بما يحفظون به حقوقهم ، فهو سبحانه أرشدهم إلى أقوى الطرق ، فإن لم يقدروا على أقواها انتقلوا إلى ما دونها ، فإن شهادة الرجل الواحد أقوى من شهادة المرأتين ، لأن النساء يتعذر غالبا حضورهن مجالس الحكام وحفظهن وضبطهن دون حفظ الرجال وضبطهم ، ولم يقل سبحانه : احكموا بشهادة رجلين ، فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ، وقد جعل سبحانه المرأة على النصف من الرجل في عدة أحكام :

                    أحدها : هذا .

                    والثاني : في الميراث .

                    والثالث : في الدية .

                    والرابع : في العقيقة .

                    والخامس : في العتق ، كما في الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : { من أعتق امرأ مسلما أعتق الله بكل عضو منه عضوا من النار و ومن أعتق [ ص: 127 ] امرأتين مسلمتين أعتق الله بكل عضو منهما عضوا من النار } .

                    وقوله تعالى : { أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ، فيه دليل على أن الشاهد إذا نسي شهادته فذكره بها غيره لم يرجع إلى قوله حتى يذكرها وليس له أن يقلده ، فإنه سبحانه قال : { فتذكر إحداهما الأخرى } ولم يقل : فتخبرها ، وفيها قراءتان : التثقيل والتخفيف ، والصحيح : أنهما بمعنى واحد من " الذكر " وأبعد ممن قال : فيجعلها ذكرا ، لفظا ومعنى ، فإنه سبحانه جعل ذلك علة للضلال الذي هو ضد الذكر ، فإذا ضلت أو نسيت ذكرتها الأخرى فذكرت ، وقوله : { أن تضل } تقديره عند الكوفيين : لئلا تضل إحداهما ، ويطردون ذلك في كل ما جاء من هذا ، كقوله : { يبين الله لكم أن تضلوا } ونحوه . ويرد عليهم نصب قوله : { فتذكر إحداهما الأخرى } إذ يكون تقديره : لئلا تضل ، ولئلا تذكر . وقدره البصريون بمصدر محذوف ، وهو الإرادة والكراهة والحذر ونحوها ، فقالوا : يبين الله لكم أن تضلوا ، أي حذر أن تضلوا ، وكراهة أن تضلوا ونحوه . ويشكل عليهم هذا التقدير في قوله : { أن تضل إحداهما } فإنهم إن قدروه كراهة أن تضل إحداهما : كان حكم المعطوف عليه - وهو فتذكر - حكمه ، فيكون مكروها ، وإن قدروها ، إرادة أن تضل إحداهما كان الضلال مرادا . والجواب عن هذا : أنه كلام محمول على معناه ، والتقدير : أن تذكر إحداهما الأخرى إن ضلت ، وهذا مراد قطعا ، والله أعلم .

                    65 - ( فصل )

                    قال شيخنا ابن تيمية رحمه الله تعالى : قوله تعالى : { فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى } ، فيه دليل على أن استشهاد امرأتين مكان رجل إنما هو لإذكار إحداهما الأخرى إذا ضلت ، وهذا إنما يكون فيما يكون فيه الضلال في العادة ، وهو النسيان وعدم الضبط ، وإلى هذا المعنى أشار النبي صلى الله عليه وسلم حيث قال : " وأما نقصان [ ص: 128 ] عقلهن : فشهادة امرأتين بشهادة رجل " ، فبين أن شطر شهادتهن إنما هو لضعف العقل لا لضعف الدين ، فعلم بذلك أن عدل النساء بمنزلة عدل الرجال ، وإنما عقلها ينقص عنه ، فما كان من الشهادات لا يخاف فيه الضلال في العادة ، لم تكن فيه على نصف رجل ، وما تقبل فيها شهادتهن منفردات ، إنما هي أشياء تراها بعينها ، أو تلمسها بيدها ، أو تسمعها بأذنها من غير توقف على عقل ، كالولادة والاستهلال ، والارتضاع ، والحيض ، والعيوب تحت الثياب ، فإن مثل هذا لا ينسى في العادة ولا تحتاج معرفته إلى إعمال العقل ، كمعاني الأقوال التي تسمعها من الإقرار بالدين وغيره ، فإن هذه معان معقولة ، ويطول العهد بها في الجملة .

                    66 - ( فصل )

                    إذا تقرر هذا ، فإنه تقبل شهادة الرجل والمرأتين في كل موضع تقبل فيه شهادة الرجل ويمين الطالب .

                    وقال عطاء وحماد بن أبي سليمان : تقبل شهادة رجل وامرأتين في الحدود والقصاص ، ويقضى بها عندنا في النكاح والعتاق ، على إحدى الروايتين

                    وروي ذلك عن جابر بن زيد ، وإياس بن معاوية ، والشعبي والثوري ، وأصحاب الرأي ، وكذلك في الجنايات الموجبة للمال على إحدى الروايتين .

                    قال في " المحرر " : من أتى برجل وامرأتين ، أو بشاهد ويمين فيما يوجب القود : لم يثبت به قود ولا مال ، وعنه يثبت المال إذا كان المجني عليه عبدا ، نقلها ابن منصور ، ومن أتى بذلك في سرقة ثبت له المال دون القطع . ا هـ .

                    وقال أبو بكر : لا يثبت مطلقا . ويقضى بالشاهد والمرأتين في الخلع إذا ادعاه الرجل ، فإن ادعته المرأة لم يقبل فيه إلا رجلان ، والفرق بينهما : أنه إذا كان المدعي هو الزوج فهو مدع للمال ، وهو يثبت بشاهد وامرأتين ، وإذا كانت هي المدعية ، فهي مدعية لفسخ النكاح وتحريمها عليه ، ولا يثبت إلا بشاهدين ، ونص أحمد في رواية الجماعة على أنه لا تجوز شهادة النساء في النكاح والطلاق ، وقال في الوكالة : إن كانت مطالبة .

                    التالي السابق


                    الخدمات العلمية