الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      فصل في توقيعات الناظر في المظالم ، وإذا وقع الناظر في المظالم في قصص المتظلمين إليه بالنظر بينهم لم يخل حال الموقع إليه من أحد أمرين إما أن يكون واليا على ما وقع به إليه أو غير وال عليه ، فإن كان واليا عليه كتوقيعه إلى القاضي بالنظر بينهما . فلا يخلو حال ما تضمنه التوقيع من أحد أمرين إما أن يكون إذنا بالحكم أو إذنا بالكشف والوساطة فإن كان إذنا بالحكم جاز له الحكم بينهما بأصل الولاية ويكون التوقيع تأكيدا لا يؤثر فيه قصور معانيه ، وإن كان إذنا بالكشف للصورة أو التوسط بين الخصمين ، فإن كان في التوقيع بذلك نهيه عن الحكم فيه لم يكن له أن يحكم بينهما وكان هذا النهي عزلا له عن الحكم بينهما وهو على عموم ولايته فيما عداها لأنه لما جاز أن تكون الولاية نوعين عامة وخاصة جاز أن يكون العزل نوعين عاما وخاصا ، وإن لم ينهه في التوقيع عن الحكم [ ص: 117 ] بينهما حين أمره بالكشف ، فقد قيل يكون نذره على عمومه في جواز حكمه بينهما لأن أمره ببعض ما إليه لا يكون منعا من خيره ، وقيل بل يكون منعا من غيره ، وقيل بل يكون ممنوعا من الحكم بينهما مقصورا على ما تضمنه التوقيع من الكشف والوساطة ، لأن فحوى التوقيع دليل عليه ثم ينظر ; فإن كان التوقيع بالوساطة لم يلزمه إنهاء الحال إليه بعد الوساطة وإن كان بكشف الصورة لزمه إنهاء حالهما إليه لأنه استخبار منه فلزمه إجابته عنه فهذا حكم توقيعه إلى من له الولاية .

                                      وأما الحالة الثانية : وهو أن يوقع إلى من لا ولاية له كتوقيعه إلى فقيه أو شاهد فلا يخلو حال توقيعه من ثلاثة أحوال : أحدها أن يكون بكشف الصورة .

                                      والثاني : أن يكون بالوساطة .

                                      والثالث : أن يكون بالحكم ، فإن كان التوقيع بكشف الصورة فعليه أن يكشفها وينهي منها ما يصح أن يشهد به ليجوز للموقع أن يحكم به ، فإن أنهى ما لا يجوز أن يشهد به كان خبرا لا يجوز أن يحكم به الموقع ولكن يجعله في نظر المظالم من الأمارات التي يغلب بها حال أحد الخصمين في الإرهاب وفضل الكشف ، فإن كان التوقيع بالوساطة توسط بينهما ولم يقف على ما تضمنه التوقيع من تخصيص الوساطة ، لأن الوساطة لا تفتقر إلى تقليد ولا ولاية وإنما يفيد التوقيع بالوساطة تعيين الوسيط باختيار الموقع وقود الخصمين إليه اختيارا ، فإن أفضت الوساطة إلى صلح الخصمين لم يلزمه إنهاؤها وكان شاهدا فيها متى استدعي للشهادة أداها ، وإن لم تفض الوساطة إلى صلحهما كان شاهدا عليهما فيما اعترفا به عنده يؤديه إلى الناظر في المظالم إن عاد الخصمان إلى التظلم ، ولا يلزمه أداؤه إن لم يعودا وإن كان التوقيع بالحكم بينهما ، فهذه ولاية يراعى فيها معاني التوقيع ليكون نظره محمولا على موجبه .

                                      وإذا كان كذلك فللتوقيع حالان : أحدهما أن يحال به على إجابة الخصم إلى ملتمسه فيعتبر فيه حينئذ ما سأل الخصم في ظلامته ويصير النظر مقصورا عليه ، فإن سأل الوساطة أو الكشف للصورة كان التوقيع موجبا له وكان النظر [ ص: 118 ] مقصورا عليه ، وسواء خرج التوقيع مخرج الأمر كقوله أجبه إلى ملتمسه ، أو خرج مخرج الحكاية كقوله رأيك في إجابته إلى ملتمسه كان موقعا لأنه لا يقتضي ولاية يلزم حكمها فكان أمرها أخف فإن سأل المتظلم في قصته الحكم بينهما فلا بد أن يكون الخصم مسمى والخصومة مذكورة لتصح الولاية عليها ، فإن لم يسم الخصم ولم تذكر الخصومة لم تصح الولاية لأنها ليست ولاية عامة فيحمل على عمومها ولا خاصة للجهل بها وإن سمى رافع القصة خصمه وذكر خصومته نظر في التوقيع بإجابته إلى ملتمسه ، فإن خرج مخرج الأمر فوقع وأجاب إلى ملتمسه وعمل بما التمسه صحت ولايته في الحكم بينهما ، فهذا التوقيع ، وإن خرج مخرج الحكاية للحال فوقع رأيك في إجابته إلى ملتمسه فهذا التوقيع خارج في الأعمال السلطانية مخرج الأمر ، والعرف باستعماله فيها معتاد ، فأما في الأحكام الدينية فقد جوزته طائفة من الفقهاء اعتبارا في العرف فيه وصحت به الولاية ، ومنعت طائفة أخرى من جوازه وانعقاد الولاية به حتى يقترن به أمر تنعقد ولايته به اعتبارا بمعاني الألفاظ ، فلو كان رافع القصة سأل التوقيع بالحكم بينهما فوقع بإجابته إلى ملتمسه من يعتبر العرف المعتاد صحت الولاية بهذا التوقيع ، وإن وقع من يعتبر معاني الألفاظ لم تصح به الولاية لأنه سأل التوقيع بالحكم ولم يسأل الحكم .

                                      والحالة الثانية : في التوقيعات أن يحال فيه على إجابة الخصم إلى ما سأل ويستأنف فيه الأمر بما تضمنه فيصير ما تضمنه التوقيع هو المعتبر في الولاية ، فإن كان كذلك فله ثلاثة أحوال : حال كمال . وحال جواز . وحال يخلو من الأمرين . فأما الحالة التي يكون التوقيع فيها كمالا في صحة الولاية فهو أن يتضمن شيئين : أحدهما الأمر بالنظر .

                                      والثاني الأمر بالحكم فيذكر فيه : انظر بين رافع هذه القصة وبين خصمه واحكم بينهما بالحق وموجب الشرع فإذا كان كذلك جاز لأن الحكم لا يكون إلا بالحق الذي يوجهه حكم الشرع ، وإنما يذكر ذلك في التوقيعات وصفا لا شرطا ، فإن كان هذا التوقيع جامعا لهذين الأمرين من النظر والحكم فهو التوقيع الكامل ويصح به التقليد والولاية وأما الحالة التي يكون فيها التوقيع جائزا مع قصوره عن حال الكمال [ ص: 119 ] فهو أن يتضمن الأمر بالحكم دون النظر فيذكر في توقيعه : احكم بين رافع هذه القصة وبين خصمه ، أو يقول : اقض بينهما فتصح الولاية بذلك لأن الحكم والقضاء بينهما لا يكون إلا بعد تقدم النظر فصار الأمر به متضمنا للنظر لأنه لا يخلو منه .

                                      وأما الحالة التي يكون التوقيع فيها خاليا من كمال وجواز فهو أن يذكر في التوقيع : انظر بينهما ، فلا تنعقد بهذا التوقيع ولاية لأن النظر بينهما قد يحتمل الوساطة الجائزة ويحتمل الحكم اللازم وهما في الاحتمال سواء ، فلم تنعقد به مع الاحتمال في الولاية ، وإن ذكر فيه انظر بينهما بالحق ، فقد قيل إن الولاية به منعقدة ، لأن الحق ما لزم ، وقيل لا تنعقد به ، لأن الصلح والوساطة حق وإن لم يلزمه ، والله أعلم .

                                      التالي السابق


                                      الخدمات العلمية