الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في القراءة خلف الإمام

                                                                                                          311 حدثنا هناد حدثنا عبدة بن سليمان عن محمد بن إسحق عن مكحول عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت قال صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة فلما انصرف قال إني أراكم تقرءون وراء إمامكم قال قلنا يا رسول الله إي والله قال فلا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها قال وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأبي قتادة وعبد الله بن عمرو قال أبو عيسى حديث عبادة حديث حسن وروى هذا الحديث الزهري عن محمود بن الربيع عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب قال وهذا أصح والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحق يرون القراءة خلف الإمام

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          قوله : ( عن محمد بن إسحاق ) هو محمد بن إسحاق بن يسار أبو بكر المطلبي مولاهم المدني نزيل العراق إمام المغازي ، وهو ثقة قابل للاحتجاج على ما هو الحق . قال بدر الدين العيني في شرح البخاري : ابن إسحاق من الثقات الكبار عند الجمهور ، انتهى . وقال ابن الهمام في فتح القدير : وأما ابن إسحاق فثقة لا شبهة عندنا في ذلك ولا عند محققي المحدثين ، انتهى . وقال أيضا وهو يعني توثيق ابن إسحاق : الحق الأبلج وما نقل عن مالك فيه لا يثبت ولو صح لم يقبله أهل العلم . كيف وقد قال شعبة هو أمير المؤمنين في الحديث ، وروى عنه مثل الثوري وابن إدريس وحماد بن زيد ويزيد بن زريع وابن علية وعبد الوارث وابن المبارك واحتمله أحمد وابن معين وعامة أهل [ ص: 193 ] الحديث غفر الله لهم . وقد أطال البخاري في توثيقه في كتاب القراءة خلف الإمام ، وذكره ابن حبان في الثقات ، وإن مالكا رجع عن الكلام في ابن إسحاق ، واصطلح معه وبعث إليه هدية ، انتهى كلام ابن الهمام .

                                                                                                          وقال الحافظ ابن حجر في القول المسدد : وأما حمله يعني ابن الجوزي على محمد بن إسحاق فلا طائل فيه ، فإن الأئمة قبلوا حديثه ، وأكثر ما عيب فيه التدليس والرواية عن المجهولين ، وأما هو في نفسه فصدوق ، وهو حجة في المغازي عند الجمهور ، انتهى كلام الحافظ ( عن مكحول ) وفي رواية الدارقطني وأحمد والبيهقي حدثني مكحول . وقال الزيلعي في نصب الراية : ورواه إبراهيم بن سعد عن محمد بن إسحاق فذكر فيه سماع ابن إسحاق عن مكحول ، فصار الحديث موصولا صحيحا ، انتهى . ومكحول هذا هو مكحول الشامي وأبو عبد الله ثقة فقيه كثير الإرسال مشهور من الخامسة ، مات سنة بضع عشرة ومائة كذا في التقريب .

                                                                                                          قوله : ( صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الصبح فثقلت عليه القراءة ) أي شق عليه التلفظ والجهر بالقراءة ، وفي رواية أبي داود : كنا خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلاة الفجر فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فثقلت عليه القراءة ( فلما انصرف ) أي فرغ من الصلاة ( إي والله ) بكسر الهمزة وسكون التحتية أي نعم والله نحن نقرأ ( قال لا تفعلوا إلا بأم القرآن فإنه لا صلاة لمن لم يقرأ بها ) قال الخطابي : هذا الحديث صريح بأن قراءة الفاتحة واجبة على من خلف الإمام سواء جهر الإمام بالقراءة أو خافت بها ، وإسناده جيد لا طعن فيه ، انتهى . قلت : الأمر كما قال الخطابي لا شك في أن هذا الحديث نص صريح في أن قراءة فاتحة الكتاب واجبة على من خلف الإمام في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية ، وهو القول الراجح المنصور عندي .

                                                                                                          قوله : ( وفي الباب عن أبي هريرة وعائشة وأنس وأبي قتادة وعبد الله بن عمرو ) أما حديث أبي هريرة فأخرجه مسلم عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج . ثلاثا غير تمام ، فقيل لأبي هريرة : إنا نكون وراء الإمام ، قال : اقرأ بها في نفسك الحديث . وأما حديث عائشة فأخرجه أحمد وابن ماجه والطحاوي من طريق محمد بن إسحاق عن يحيى بن [ ص: 194 ] عباد بن عبد الله بن الزبير عن أبيه عنها ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خداج ، وإسناده حسن . وجاء في رواية الطحاوي تصريح سماع ابن إسحاق من يحيى بن عباد فزالت شبهة التدليس . وهذان الحديثان بعمومهما شاملان للمأمومين أيضا : وأما حديث أنس فأخرجه البخاري في جزء القراءة ، والبيهقي في كتاب القراءة ، وابن حبان والطبراني في الأوسط ، ولفظ البخاري : إن النبي صلى الله عليه وسلم صلى بأصحابه فلما قضى صلاته أقبل عليهم بوجهه فقال : أتقرءون في صلاتكم والإمام يقرأ ؟ فسكتوا ، فقالها ثلاث مرات ، فقال قائل أو قائلون : إنا لنفعل : قال : فلا تفعلوا وليقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب في نفسه قاله صاحب الجوهر النقي من العلماء الحنفية : أخرجه ابن حبان في صحيحه من حديث أبي قلابة عن أنس ، ثم قال سمعه من أنس وسمعه من ابن أبي عائشة ، فالطريقان محفوظان ، انتهى . وقال البيهقي في كتاب القراءة بعد روايته من طريق ابن علية عن أيوب عن أبي قلابة عن أنس . احتج به البخاري في كتاب القراءة خلف الإمام ، وأما حديث أبي قتادة فأخرجه البيهقي في كتاب القراءة عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : أتقرءون خلفي ؟ قلنا : نعم ، قال : فلا تفعلوا إلا بفاتحة الكتاب . وأما حديث عبد الله بن عمرو فأخرجه البيهقي في كتاب القراءة عنه من طريق عبد العظيم عن النضر بن محمد ، عن عكرمة بن عمار ، عن عمرو بن سعد ، عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أتقرءون خلفي ؟ قالوا : نعم يا رسول الله إنا لنهزه هزا ، قال : فلا تفعلوا إلا بأم القرآن . قال البيهقي : رواه في كتاب القراءة خلف الإمام عن شجاع بن الوليد عن النضر .

                                                                                                          وفي باب أحاديث أخرى ذكرناها في كتابنا تحقيق الكلام في وجوب القراءة خلف الإمام ، وفي كتابنا أبكار المنن في نقد آثار السنن ، وذكرها البيهقي في كتاب القراءة ، فمنها حديث محمد بن أبي عائشة عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وسيأتي لفظه ، قال الحافظ في التلخيص : إسناده حسن ، وقال البيهقي في معرفة السنن بعد روايته : هذا إسناد صحيح ، وقال في كتاب القراءة : هذا حديث صحيح احتج به محمد بن إسحاق بن خزيمة في جملة ما احتج به في هذا الباب .

                                                                                                          قوله : ( حديث عبادة حديث حسن ) قال الحافظ في التلخيص بعد ذكر هذا الحديث : أخرجه أحمد والبخاري في جزء القراءة وصححه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والحاكم والبيهقي من طريق ابن إسحاق ، حدثني مكحول عن محمود بن ربيعة عن عبادة ، وتابعه زيد بن واقد وغيره عن مكحول ، ومن شواهده ما رواه أحمد من طريق خالد الحذاء عن أبي قلابة عن محمد بن أبي عائشة ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لعلكم [ ص: 195 ] تقرءون والإمام يقرأ ؟ قالوا : إنا لنفعل ، قال : لا إلا أن يقرأ أحدكم بفاتحة الكتاب . إسناده حسن ، انتهى كلام الحافظ . وقال في الدراية : أخرجه أبو داود بإسناد رجاله ثقات ، انتهى . وقال في نتائج الأفكار لتخريج أحاديث الأذكار : هذا حديث حسن ، انتهى . وسكت عنه أبو داود . وذكر الحافظ المنذري تحسين الترمذي وأقره . وقال القاري في المرقاة شرح المشكاة قال ميرك نقلا عن الملقن : حديث عبادة بن الصامت رواه أبو داود والترمذي والدارقطني وابن حبان والبيهقي والحاكم ، وقال الترمذي : حسن ، وقال الدارقطني : إسناده حسن ورجاله ثقات ، وقال الخطابي : إسناده جيد لا مطعن فيه ، وقال الحاكم : إسناده مستقيم ، وقال البيهقي : صحيح ، انتهى ما في المرقاة .

                                                                                                          قوله : ( وهذا أصح ) أي من حديث عبادة المذكور في الباب من طريق ابن إسحاق عن مكحول عن محمود بن الربيع عنه وحديث عبادة من طريق الزهري عن محمود أخرجه الأئمة الستة .

                                                                                                          قوله : ( والعمل على هذا الحديث في القراءة خلف الإمام عند أكثر أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم والتابعين ، وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق يرون القراءة خلف الإمام ) وهو قول بعض العلماء الحنفية أيضا . قال العيني في عمدة القاري : بعض أصحابنا يستحسنون ذلك على سبيل الاحتياط في جميع الصلوات ، وبعضهم في السرية فقط ، وعليه فقهاء الحجاز والشام ، انتهى . وقال الملاجيون من العلماء الحنفية في التفسير الأحمدي فإن رأيت الطائفة الصوفية والمشائخين الحنفية تراهم يستحسنون قراءة الفاتحة للمؤتم كما استحسنه محمد رحمه الله أيضا احتياطا فيما روي عنه ، انتهى . وقال صاحب عمدة الرعاية حاشية شرح الوقاية من العلماء الحنفية ، وروي عن محمد أنه استحسن قراءة الفاتحة للمؤتم في السرية ، وروي [ ص: 196 ] مثله عن أبي حنيفة صرح به في الهداية المجتبى شرح مختصر القدوري وغيرهما ، وهذا هو مختار كثير من مشايخنا ، انتهى .

                                                                                                          تنبيه : اعلم أن قول الترمذي ، وهو قول مالك بن أنس وابن المبارك والشافعي وأحمد وإسحاق يرون القراءة خلف الإمام فيه إجمال ، ومقصوده أن هؤلاء الأئمة كلهم يرون القراءة خلف الإمام إما في جميع الصلوات أو في الصلاة السرية فقط ، وإما على سبيل الوجوب أو على سبيل الاستحباب والاستحسان . فأما من قال بوجوب القراءة خلف الإمام في جميع الصلوات سرية كانت أو جهرية فاستدل بأحاديث الباب ، وهو القول الراجح المنصور . وسيأتي تفصيل الأقوال في هذه المسألة .




                                                                                                          الخدمات العلمية