الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
[ ص: 69 ] ( كتاب إحياء الموات ) قال ( الموات ما لا ينتفع به من الأراضي لانقطاع الماء عنه أو لغلبة الماء عليه أو ما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة ) سمي بذلك لبطلان الانتفاع به . قال ( فما كان منها عاديا لا مالك له أو كان مملوكا في الإسلام لا يعرف له مالك بعينه وهو بعيد من القرية بحيث إذا وقف إنسان من أقصى العامر فصاح لا يسمع الصوت فيه فهو موات ) قال رضي الله عنه : هكذا ذكره القدوري ، ومعنى العادي ما قدم خرابه .

والمروي عن محمد رحمه الله أنه يشترط أن لا يكون مملوكا لمسلم أو ذمي مع انقطاع الارتفاق بها ليكون ميتة مطلقا ، فأما التي هي مملوكة لمسلم أو ذمي لا تكون مواتا ، وإذا لم يعرف مالكه تكون لجماعة المسلمين ، ولو ظهر له مالك يرد عليه ، ويضمن الزارع نقصانها ، والبعد عن القرية على ما قال شرطه أبو يوسف ; لأن الظاهر أن ما يكون قريبا من القرية لا ينقطع ارتفاق أهلها عنه فيدار الحكم عليه . ومحمد رحمه الله اعتبر انقطاع ارتفاق أهل القرية عنها حقيقة ، وإن كان قريبا من القرية

كذا ذكره الإمام المعروف بخواهر زاده رحمه الله ، وشمس الأئمة السرخسي [ ص: 70 ] رحمه الله اعتمد على ما اختاره أبو يوسف رحمه الله ( ثم من أحياه بإذن الإمام ملكه ، وإن أحياه بغير إذنه لم يملكه عند أبي حنيفة رحمه الله ، وقالا : يملكه ) لقوله عليه الصلاة والسلام { من أحيا أرضا ميتة فهي له } ولأنه مال مباح سبقت يده إليه فيملكه كما في الحطب والصيد . ولأبي حنيفة رحمه الله قوله عليه الصلاة والسلام { ليس للمرء إلا ما طابت نفس إمامه به } وما روياه يحتمل أنه إذن لقوم لا نصب لشرع ، ولأنه مغنوم لوصوله إلى يد المسلمين بإيجاف الخيل والركاب فليس لأحد أن يختص به بدون إذن الإمام كما في سائر [ ص: 71 ] الغنائم . ويجب فيه العشر ; لأن ابتداء توظيف الخراج على المسلم لا يجوز إلا إذا سقاه بماء الخراج ; لأنه حينئذ يكون إبقاء الخراج على اعتبار الماء . فلو أحياها ، ثم تركها فزرعها غيره فقد قيل الثاني أحق بها ; لأن الأول ملك استغلالها لا رقبتها ، فإذا تركها كان الثاني أحق بها . والأصح أن الأول ينزعها من الثاني ; لأنه ملكها بالإحياء على ما نطق به الحديث ، إذ الإضافة فيه فاللام التمليك وملكه لا يزول بالترك . ومن أحيا أرضا ميتة ثم أحاط الإحياء بجوانبها الأربعة من أربعة نفر على التعاقب ; فعن محمد أن طريق الأول في الأرض الرابعة لتعينها لتطرقه وقصد الرابع إبطال حقه .

التالي السابق


( كتاب إحياء الموات ) قال جمهور الشراح : مناسبة هذا الكتاب بكتاب الكراهية يجوز أن تكون من حيث إن في مسائل هذا الكتاب ما يكره وما لا يكره انتهى .

وقال الشارح العيني بعد نقل قولهم المذكور : وهذا ليس بشيء ; لأنه قل كتاب من الكتب يخلو عما يكره وما لا يكره انتهى . أقول : بل ما ذكره نفسه في الرد عليهم ليس بشيء ; لأن ما ذكروا في ترتيب الكتب السابقة واللاحقة من المناسبات ملحوظة فيما ذكروا هاهنا من المناسبة بين هذا الكتاب وكتاب الكراهية ، ولا ريب أن الحيثية المذكورة هاهنا مع ملاحظة تلك المناسبات تقتضي ذكر هذا الكتاب عقيب كتاب الكراهية دون غيره ، إذ لو غير ذلك لفات بعض من المناسبات السابقة [ ص: 69 ] أو اللاحقة ، وليكن هذا المعنى على ذكر منك فإنه ينفعك في مواضع شتى ( قوله الموات ما لا ينتفع به من الأراضي لانقطاع الماء عنه ، أو لغلبة الماء عليه أو ما أشبه ذلك مما يمنع الزراعة ) قال بعض الفضلاء : هذا تعريف بالأعم لصدقه على ما له مالك معروف ، لكن لا ينتفع به لأحد الأمور المذكورة ، ولك أن تقول : هذا تفسير المعنى اللغوي انتهى . أقول : توجيهه الذي ذكره بقوله ولك أن تقول إلى آخره ليس بتام . فإن قيد أن لا يكون له مالك معتبر في معناه اللغوي أيضا . قال في الصحاح : والموات بالفتح ما لا روح فيه ، والموات أيضا الأرض التي لا مالك لها من الآدميين ولا ينتفع بها أحد انتهى .

وقال في القاموس : والموات كغراب الموت وكسحاب ما لا روح فيه ، وأرض لا مالك لها انتهى . فعلى تقدير أن يحمل ما في الكتاب على تفسير المعنى اللغوي يكون تفسيرا بالأعم أيضا . لا يقال : أصل المعنى اللغوي للموات ما لا روح فيه . والذي ذكره في الصحاح والقاموس ثانيا هو معناه العرفي أو الشرعي فلم يكن قيد أن لا يكون له مالك معتبرا في معناه اللغوي . لأنا نقول : الظاهر المتبادر من أن يذكر معنى اللفظ في كتب اللغة بلا إضافة إلى العرف أو الشرع أن يكون ذلك المعنى معناه اللغوي ، سيما من قيد أيضا في قوله في الصحاح : والموات أيضا الأرض التي لا مالك لها ، وإن لم يكن الأمر كذلك فيما نحن فيه بل كان معناه اللغوي هو الذي ذكر أولا . فلا شك أن ما لا روح [ ص: 70 ] فيه أعم من الأرض التي لا ينتفع بها بل من مطلق الأرض ، فعلى تقدير أن يحمل ما في الكتاب على تعريف المعنى اللغوي يكون تعريفا بالأخص ، وهو ليس بأقل قبحا من التعريف بالأعم ، وبهذا الذي ذكرنا يظهر أنه يشكل أيضا ما ذكره تاج الشريعة وصاحب الكفاية في شرح هذا المقام حيث قالا : قوله الموات ما لا ينتفع به من الأرض تحديد لغوي ، وزيد عليه في الشرع أشياء أخر بيانها في قوله فما كان عاديا لا مالك له أو كان مملوكا في الإسلام لا يعرف له مالك بعينه وهو بعيد من القرية ، بحيث إذا وقف إنسان في أقصى العامر فصاح لا يسمع صوته فهو موات انتهى .

تأمل تقف ( قوله ولأبي حنيفة قوله عليه الصلاة والسلام { ليس للمرء إلا ما طابت نفس إمامه به } ) أقول : لقائل أن يقول : إن اعتبر عموم هذا الحديث يلزم أن لا يملك أحد شيئا من الأملاك بغير إذن الإمام مع ظهور خلافه ، إذ لا شك أن كل أحد يستبد في التمليك بالبيع والإجارة والهبة والإرث والوصية ونحوها من أسباب الملك من غير توقف على إذن الإمام ، وإن لم يعتبر عمومه لا يتم المطلوب هاهنا . فإن قلت : عمومه غير معتبر بل هو مختص بما يحتاج فيه إلى رأي الإمام . وما ذكرنا من أسباب الملك لا يحتاج فيه إلى رأي الإمام . بخلاف ما نحن فيه . قلت : كون التمليك فيما نحن فيه مما يحتاج فيه إلى رأي الإمام أول المسألة فيلزم المصادرة على المطلوب .

( قوله وما روياه يحتمل أنه إذن لقوم لا نصب لشرع ) تقريره : أن المشروعات على نوعين : أحدهما نصب الشرع ، والآخر إذن بالشرع . فالأول كقوله عليه الصلاة والسلام { من قاء أو رعف في صلاته فلينصرف } والآخر كقوله عليه الصلاة والسلام { من قتل قتيلا فله سلبه } أي للإمام ولاية أن يأذن للغازي بهذا القول فكان ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم إذنا لقوم معينين وتحريضا على القتال لا نصب شرع ، فكذلك في يومنا هذا من قتل قتيلا لا يكون سلبه له إلا أن يأذن الإمام به . فيجوز أن يكون قوله عليه الصلاة والسلام { من أحيا أرضا ميتة فهي له } من ذلك القبيل ، وحاصله أن ذلك الحديث يحتمل التأويل . وما ذكره أبو حنيفة رحمه الله مفسر لا يقبل التأويل فكان راجحا ، كذا في العناية وغيرها قال تاج الشريعة : فإن قلت : ما رواه عام خص منه الحطب والحشيش . وما روياه لم يخص فيكون العمل به أولى . قلت : ما ذكر لبيان أنه لا يجوز إلا الافتيات على رأي الإمام والحطب والحشيش لا يحتاج فيهما إلى رأي الإمام فلم يتناولهما عموم الحديث فلم يصر مخصوصا ، والأرض مما يحتاج فيها إلى رأي الإمام ; لأنها صارت من الغنائم بإيجاف الخيل وإيضاع الركاب كسائر الأموال فكان ما قلنا أولى انتهى . واقتفى أثره صاحب الكفاية والعيني . أقول : كل من السؤال والجواب ليس بسديد . أما الأول فلأن كون ما رواه عاما خص منه الحطب والحشيش إنما يقتضي كون العمل بما روياه أولى لكونه مما لم يخص أن لو خص الحطب والحشيش مما رواه بكلام موصول به ، إذ يصير العام الذي خص منه البعض حينئذ ظنيا كما عرف في علم الأصول ، وأما إذا خص الحطب [ ص: 71 ] والحشيش من ذلك بما هو مفصول عنه فلا يلزم أولوية العمل بما روياه ، إذ يصير العام حينئذ منسوخا في القدر الذي تناوله الخاص ويصير قطعيا في الباقي كسائر القطعيات كما تقرر في علم الأصول أيضا ، ولا شك أن تخصيص الحطب والحشيش مما رواه ليس بكلام موصول به ، بل إنما هو دليل آخر مفصول عنه .

وأما الثاني فلأن كون الأرض مطلقا مما يحتاج فيه إلى رأي الإمام أول المسألة لم يقل به الإمامان في الأرض الموات ، فبناء الجواب عليه يؤدي إلى المصادرة . فإن قيل : إنما يؤدي إلى المصادرة لو لم يستدل عليه بقوله لأنها صارت من الغنائم إلخ . قلنا : كونها من الغنائم دليل آخر عقلي لأبي حنيفة مذكور في الكتاب بعده ، والكلام الآن في تمشية الدليل النقلي ، فبالمصير إلى ذلك الدليل العقلي هنا يلزم خلط الدليلين ولا يخفى ما فيه ( قوله يجب فيه العشر ; لأن ابتداء توظيف الخراج على المسلم لا يجوز ) أقول : في هذا التعليل شيء ، وهو أنه سيجيء في الكتاب أن المسلم والذمي مستويان في حكم إحياء الأرض الموات ، والتعليل المذكور إنما يتمشى في حق المسلم دون الذمي فتأمل ( قوله والأصح أن الأول ينزعها من الثاني ; لأنه ملكها بالإحياء على ما نطق به الحديث ، إذ الإضافة فيه فاللام التمليك وملكه لا يزول بالترك ) قال في العناية : ولقائل أن يقول : الاستدلال بهذا الحديث على مذهبهما صحيح . وأما على مذهب أبي حنيفة ففيه نظر ; لأنه حمله على كونه إذنا لا شرعا فكيف يصح الاستدلال به ، والجواب أنه وإن كان إذنا لكنه إذا أذن له الإمام كان شرعا ; ألا يرى أن من قال له الإمام من قتل قتيلا فله سلبه ملك سلب من قتله انتهى .

واعترض بعض الفضلاء على الجواب حيث قال : فيه بحث ، فبينهما فرق لوجود دلالة التمليك في لفظ الإمام هنا ، بخلاف الإذن في الإحياء فإنه لا يلزم أن يكون بلفظ التمليك انتهى . أقول : الفرق الذي ذكره ليس بتام ; لأن لام التمليك مذكورة في كل من الحديثين الواردين في المقامين ، فإذا كان كل منهما محمولا على الإذن فجعل وجود لفظ التمليك [ ص: 72 ] شرطا في إذن الإمام في أحد المقامين دون الآخر تحكم بحت لم يسمع ذلك من أئمة الشرع




الخدمات العلمية