الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 500 ] قال المصنف رحمه الله تعالى .

                                      باب المسح على الخفين ( يجوز المسح على الخفين في الوضوء لما روى المغيرة بن شعبة رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين فقلت : يا رسول الله نسيت ؟ فقال : بل أنت نسيت ، بهذا أمرني ربي } ولأن الحاجة تدعو إلى لبسه وتلحق المشقة في نزعه فجاز المسح عليه كالجبائر ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) : في هذه القطعة مسائل ( إحداها ) حديث المغيرة صحيح رواه أبو داود في سننه بهذا اللفظ ورواه البخاري ومسلم في صحيحيهما { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين } وهذا هو المقصود ، قال العلماء : وقوله صلى الله عليه وسلم للمغيرة : بل أنت نسيت ليس معناه الإخبار بنسيانه وإنما هو للمقابلة كما يقول الرجل للرجل : فعلت كذا ولم يكن فعله فيقول : بل أنت فعلته مبالغة في براءته منه كأنه يقول : لم أفعل ذلك كما أنك لم تفعله . وقيل في معناه غير هذا ، والمغيرة ' بضم الميم وكسرها سبق بيانه في أول باب صفة الوضوء .

                                      ( الثانية ) قوله : " يجوز المسح على الخف في الوضوء " فيه احتراز من الجنابة والحيض والنفاس وسائر الأغسال الواجبة والمسنونة ومن إزالة النجاسة ، وسنوضحها كلها إن شاء الله تعالى .

                                      وقوله : " لأن الحاجة تدعو إلى لبسه فجاز المسح عليه كالجبيرة " هكذا قاسه أصحابنا وأرادوا إلزام طائفة خالفت في مسح الخف ووافقت في الجبيرة : فالجبيرة مجمع عليها .

                                      ( الثالثة ) مذهبنا ومذهب العلماء كافة جواز المسح على الخفين في الحضر والسفر وقالت الشيعة والخوارج : لا يجوز ، وحكاه القاضي أبو الطيب عن أبي بكر بن داود وحكى المحاملي في المجموع وغيره من أصحابنا عن مالك ست روايات ( إحداها ) لا يجوز المسح ( الثانية ) يجوز ولكنه يكره ( الثالثة ) يجوز أبدا وهي الأشهر عنه والأرجح عند أصحابه ( الرابعة ) يجوز مؤقتا ( الخامسة ) يجوز للمسافر دون الحاضر ( السادسة ) عكسه . وكل هذا الخلاف باطل مردود وقد نقل ابن المنذر في كتاب الإجماع إجماع [ ص: 501 ] العلماء على جواز المسح على الخف ، ويدل عليه الأحاديث الصحيحة المستفيضة في مسح النبي صلى الله عليه وسلم في الحضر والسفر ، وأمره بذلك وترخيصه فيه واتفاق الصحابة فمن بعدهم عليه . قال الحافظ أبو بكر البيهقي : روينا جواز المسح على الخفين عن عمر وعلي وسعد بن أبي وقاص وعبد الله بن مسعود وعبد الله بن عباس وحذيفة بن اليمان وأبي أيوب الأنصاري وأبي موسى الأشعري وعمار بن ياسر وجابر بن عبد الله وعمرو بن العاص وأنس بن مالك وسهل بن سعد وأبي مسعود الأنصاري والمغيرة بن شعبة والبراء بن عازب وأبي سعيد الخدري وجابر بن سمرة وأبي أمامة الباهلي وعبد الله بن الحارث بن جزء وأبي زيد الأنصاري رضي الله عنه .

                                      ( قلت ) ورواه خلائق من الصحابة غير هؤلاء الذين ذكرهم البيهقي وأحاديثهم معروفة في كتب السنن وغيرها .

                                      قال الترمذي : وفي الباب عن عمر وسلمان وبريدة وعمرو بن أمية ويعلى بن مرة وعبادة بن الصامت وأسامة بن شريك وأسامة بن زيد وصفوان بن عسال وأبي هريرة وعوف بن مالك وابن عمر وأبي بكرة وبلال وخزيمة بن ثابت . قال أبو بكر بن المنذر : روينا عن الحسن البصري ' قال : حدثني سبعون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم { أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يمسح على الخفين } قال : وروينا عن ابن المبارك قال : ليس في المسح على الخفين اختلاف هو جائز ، وقال جماعات من السلف نحو هذا . وثبت في الصحيحين من رواية المغيرة { أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين في غزوة تبوك وهي من آخر أيامه صلى الله عليه وسلم } وقد اتفق العلماء على أن آية الوضوء المذكورة في المائدة نزلت قبل غزوة تبوك بمدد . وثبت في الصحيحين عن جرير البجلي رضي الله عنه قال : { رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح على الخفين } زاد أبو داود في روايته قالوا لجرير : إنما كان هذا قبل نزول المائدة فقال جرير : وما أسلمت إلا بعد نزول المائدة وكان إسلام جرير متأخرا جدا وروينا في سنن البيهقي عن إبراهيم بن أدهم [ ص: 502 ] رحمه الله قال : ما سمعت في المسح على الخفين حديثا أحسن من حديث جرير . وأما الأمر بالغسل في الآية فمحمول على غير لابس الخف ببيان السنة ، وليس للمخالفين شبهة فيها روح وأما ما روي عن علي وابن عباس وعائشة من كراهة المسح فليس بثابت بل ثبت في صحيح مسلم وغيره عن علي رضي الله عنه أنه روى المسح على الخف عن النبي صلى الله عليه وسلم ولو ثبت عن ابن عباس وعائشة ذلك لحمل على أن ذلك قبل بلوغهما جواز المسح عن النبي صلى الله عليه وسلم فلما بلغا رجعا ، وقد روى البيهقي معنى هذا عن ابن عباس . وعلى الجملة المسألة غنية عن الإطناب في بسط أدلتها بكثرتها والله أعلم .

                                      وأما جواز المسح في الحضر ففيه أحاديث كثيرة في الصحيح منها حديث حذيفة قال : { كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فانتهى إلى سباطة قوم فبال قائما فتوضأ فمسح على خفيه } رواه مسلم ، وفي رواية البيهقي : " سباطة قوم بالمدينة " وعن علي رضي الله عنه { أن النبي صلى الله عليه وسلم جعل مسح الخفين ثلاثة أيام ولياليهن للمسافر ، ويوما وليلة للمقيم } رواه مسلم ، ومنها حديث خزيمة بن ثابت وعوف بن مالك وهما صحيحان سيأتي بيانهما قريبا في مسألة التوقيت إن شاء الله تعالى والله أعلم



                                      ( المسألة الرابعة ) قال أصحابنا : مسح الخفين وإن كان جائزا فغسل الرجل أفضل منه بشرط أن لا يترك المسح رغبة عن السنة ، ولا شك في جوازه . وقد صرح جمهور الأصحاب بهذا في باب صلاة المسافر في مسألة تفضيل القصر على الإتمام وفي غيرها ، وقد أشار المصنف إلى هذا بقوله : يجوز المسح ولم يقل يسن أو يستحب ، ودليل تفضيل غسل الرجل أنه الذي واظب عليه النبي صلى الله عليه وسلم في معظم الأوقات ، ولأن غسل الرجل هو الأصل فكان أفضل كالوضوء مع التيمم في موضع جواز التيمم ، وهو إذا وجد في السفر ماء يباع بأكثر من ثمن المثل فله التيمم ، فلو اشتراه وتوضأ كان أفضل ، صرح به البغوي وغيره ، هذا مذهبنا وبه قال أبو حنيفة ومالك . وروى ابن المنذر عن عمر بن الخطاب وابنه رضي الله عنهما تفضيل غسل الرجل أيضا ورواه البيهقي عن أبي أيوب الأنصاري أيضا [ ص: 503 ] وقال الشعبي والحكم وحماد : المسح أفضل وهو أصح الروايتين عن أحمد . والرواية الأخرى عنه أنهما سواء وهو اختيار ابن المنذر ، واحتج لمن فضل المسح بقوله صلى الله عليه وسلم في حديث المغيرة المذكور في الكتاب : { بهذا أمرني ربي } وبحديث صفوان الذي ذكره المصنف بعد هذا : { أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا ننزع خفافنا } الحديث ، والأمر إذا لم يكن للوجوب كان ندبا . ودليلنا ما سبق . والمراد بالأمر في الحديثين أمر إباحة وترخيص بدليل ما ذكرناه ويؤيده أن في رواية من حديث صفوان : { أرخص لنا أن لا ننزع خفافنا } رواه النسائي ، وفي حديث المغيرة تأويل آخر أي : أمرني ببيانه والله أعلم .



                                      ( الخامسة ) أجمع العلماء على أنه لا يجوز المسح على القفازين في اليدين والبرقع في الوجه ، وأما العمامة فمذهبنا أنه لا يجوز المسح عليها وحدها وفيها خلاف للعلماء سبق بيانه بدلائله في فصل مسح الرأس والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية