الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      [ ص: 404 ] قال المصنف رحمه الله تعالى ( ولا يجوز إلا بثمن معلوم القدر ، فإن باع بثمن مجهول كبيع السلعة برقمها ، وبيع السلعة بما باع به فلان سلعته ، وهما لا يعلمان ذلك ، فالبيع باطل لأنه عوض في البيع ، فلم يجز مع الجهل بقدره ، كالمسلم فيه ، فإن باعه بثمن معين جزافا جاز ، لأنه معلوم بالمشاهدة ، ويكره ذلك ، كما قلنا في بيع الصبرة جزافا ، وإن قال : بعتك هذا القطيع ، كل شاة بدرهم ، أو هذه الصبرة كل قفيز بدرهم ، وهما لا يعلمان مبلغ قفزان الصبرة وعدد القطيع صح البيع ، لأن غرر الجهالة ينتفي بالعلم بالتفصيل ، كما ينتفي بالعلم بالجملة ، فإذا جاز بالعلم بالجملة جاز بالعلم بالتفصيل ) .

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) أما مسألة القطيع والصبرة والبيع بدراهم جزاف ، فسبق شرحه واضحا قريبا في مسائل البيع بثمن معلوم القدر ، وذكرنا هناك أن الجزاف يقال - بكسر الجيم وفتحها وضمها - واتفق الأصحاب على أنه يشترط كون الثمن معلوم القدر ، لحديث النهي عن بيع الغرر ، فلو قال : بعتك هذا بدراهم أو بما شئت أو نحو هذه العبارات لم يصح البيع بلا خلاف . ولو قال : بعتك هذه السلعة برقمها أي بالثمن الذي هو مرقوم به عليها ، أو بما باع به فلان فرسه أو ثوبه ، فإن كانا عالمين بقدره صح البيع بلا خلاف ، وإن جهلاه أو أحدهما فطريقان ( أصحهما ) وبه قطع المصنف وسائر العراقيين وجماعات من الخراسانيين لا يصح البيع ، لما ذكره المصنف مع أنه غرر ( والثاني ) حكاه الفوراني وصاحب البيان وغيرهما فيه وجهان ( أصحهما ) هذا ( والثاني ) إن علما ذلك القدر قبل تفرقهما من المجلس صح البيع ، وحكى الرافعي وجها ثالثا أنه يصح مطلقا ، للتمكن من معرفته ، كما لو قال : بعت هذه الصبرة كل صاع بدرهم يصح البيع ، وإن كانت جملة الثمن في الحال مجهولة ، وهذا ضعيف شاذ .



                                      ( فرع ) لو قال : بعتك هذا بمائة دينار إلا عشرة دراهم ، أو بمائة درهم إلا دينارا ، قال المتولي والرافعي : إن علما قيمة الدينار [ ص: 405 ] بالدراهم صح وإلا فلا ، بخلاف ما لو أقر بمائة دينار إلا عشرة دراهم ، فإنه يصح ، وإن لم يعلما قدر القيمة ، لأن الإقرار بالمجهول صحيح ، هذا كلامهما ، وينبغي أن لا يكفي مع علمهما ، بل يشترط مع علمهما بالقيمة قصدهما استثناء القيمة ، وقد ذكر صاحب المستظهري فيما إذا لم يعلما حالة العقد قيمة الدينار بالدراهم ، ثم علما ذلك في الحال طريقتين ( أصحهما ) لا يصح ، كما ذكرناه ( والثاني ) فيه وجهان ، وقال صاحب البيان : إذا باعه بدينار إلا درهما لم يصح على المشهور قال : وحكى الصيمري وجها أنهما إذا كانا يعلمان قيمة الدينار من الدراهم صح البيع ، وهذا الذي ادعى أنه المشهور غريب ( والأصح ) أنهما إذا علما قيمته وقصد استثناء القيمة صح وإلا فلا . قال في البيان : ولو قال بعتك بألف درهم من صرف عشرين بدينار لم يصح ، لأن المسمى هي الدراهم وهي مجهولة ، ولا تصير معلومة بذكر قيمتها ، قال : وإن كان نقد البلد صرف عشرين بدينار لم يصح أيضا ، لأن السعر يختلف ولا يختص ذلك بنقد البلد ، قال ابن الصباغ : وهكذا يفعل الناس اليوم يسمون الدراهم ويبتاعون بالدنانير ، ويكون كل قدر من الدراهم معلوما عندهم دينارا ، قال : وهذا البيع باطل ، لأن الدراهم لا يعبر بها عن الدنانير حقيقة ، ولا مجازا ، ولا يصح البيع بالكناية ، هذا ما نقله صاحب البيان وهو ضعيف ، بل الأصح صحة البيع بالكناية كما سبق أول كتاب البيوع ، وعلى هذا إذا عبر بالدنانير عن الدراهم صح ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) في بيع التلجئة وصورته أن يتفقا على أن لا يظهرا العقد ، إما للخوف من ظالم ونحوه ، وإما لغير ذلك ، ويتفقا على أنهما إذا أظهراه لا يكون بيعا ، ثم يعقد البيع ، فإذا عقداه انعقد عندنا ، ولا أثر للاتفاق السابق ، وكذا لو اتفقا على أن البيع بألف ويظهرا ألفين فعقدا بألفين ، [ ص: 406 ] صح البيع بألفين ، ولا أثر للاتفاق السابق ، هذا مذهبنا ، وكذا رواه أبو يوسف عن أبي حنيفة وروى عنه محمد أنه لا يصح إلا أن يتفقا على أن الثمن ألف درهم فتبايعا بمائة دينار ، فيكون الثمن مائة دينار استحسانا ، وبه قال أبو يوسف ومحمد قالوا : لأنه إذا تقدم الاتفاق صارا كالهازلين ، دليلنا أن الاتفاق السابق ملغي بدليل أنهما لو اتفقا على شرط فاسد ثم عقدا بلا شرط صح العقد ( وأما ) قولهم : كالهازلين فالأصح عندنا انعقاد بيع الهازل .



                                      ( فرع ) روى عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النبي صلى الله عليه وسلم { نهى عن بيع العربان } رواه مالك في الموطأ ، قال : أخبرني الثقة عن عمرو بن شعيب فذكره ، ومثل هذا لا يحتج به عند أصحابنا ولا عند جماهير العلماء ورواه أبو داود في سننه عن القعنبي عن مالك أنه بلغه عن عمرو بن شعيب وهذا أيضا منقطع لا يحتج به ، ورواه ابن ماجه عن الفضل بن يعقوب الرخامي عن حبيب بن أبي ثابت كاتب مالك عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمرو بن شعيب ، وحبيب بن أبي ثابت هذا ، وعبد الله بن عامر الأسلمي هذا ضعيفان باتفاق المحدثين ، وذكر البيهقي رواية مالك ، وهي قوله بلغني عن عمرو بن شعيب . ثم قال البيهقي : هكذا روى مالك هذا الحديث في الموطأ ، فلم يسم رواية الذي رواه عنه قال : ورواه حبيب بن أبي ثابت عن مالك عن عبد الله بن عامر الأسلمي عن عمرو بن شعيب ، وقيل : إنما رواه مالك عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب ، كذا قاله أبو أحمد بن عدي الحافظ ، قال ابن عدي : والحديث عن ابن لهيعة عن عمرو بن شعيب مشهور ، قال البيهقي : وقد روى هذا الحديث عن الحارث بن عبد الرحمن بن أبي ذباب [ ص: 407 ] عن عمرو بن شعيب ثم رواه البيهقي بإسناده عن عاصم بن عبد العزيز عن الحارث عن عمرو ، ثم قال البيهقي : عاصم هذا فيه نظر ، وحبيب بن أبي ثابت هذا ضعيف ، وعبد الله بن عامر وابن لهيعة لا يحتج بهما ، والأصل في هذا الحديث أنه مرسل مالك ، وقال البيهقي في كتابه معرفة السنن والآثار : بلغني أن مالكا أخذه عن عبد الله بن عامر ، وقيل : عن ابن لهيعة ، وقيل : عن الحارث بن عبد الرحمن عن عمرو بن شعيب ، قال : وفي الجميع ضعف ، فالحاصل أن هذا الحديث ضعيف ، قال : وإنما بسطت الكلام فيه لشهرته والحاجة إلى معرفته .

                                      قال أهل اللغة : في العربان ست لغات عربان وعربون - بضم العين وإسكان الراء فيهما - وعربون - بفتحهما وأربان وأربون وأربون - بالهمزة بدل العين - والوزن كالوزن ، وقد أوضحتهن في تهذيب الأسماء واللغات ، وفي ألفاظ التنبيه أفصحهن عربون - بفتحهما - [ ص: 408 ] وهو عجمي معرب ، ويقال منه عربت في الشيء وأعربت ، وهو أن يشتري شيئا ويعطي البائع درهما أو دراهم ويقول : إن تم البيع بيننا فهو من الثمن ، وإلا فهو هبة لك ، قال أصحابنا : إن قال هذا الشرط في نفس العقد فالبيع باطل ، وإن قاله قبله ولم يتلفظا به حالة العقد فهو بيع صحيح ، هذا مذهبنا ، وقد ذكر المصنف المسألة في التنبيه ، ولم يذكرها في المهذب ( فرع ) في مذاهب العلماء في بيع العربون . قد ذكرنا أن مذهبنا بطلانه إن كان الشرط في نفس العقد ، وحكاه ابن المنذر عن ابن عباس ، والحسن ومالك وأبي حنيفة ، قال : وهو يشبه قول الشافعي ، قال : وروينا عن ابن عمر وابن سيرين جوازه ، قال : وقد روينا عن نافع بن عبد الحارث أنه اشترى دارا بمكة من صفوان بن أمية بأربعة آلاف ، فإن رضي عمر فالبيع له ، وإن لم يرض فلصفوان أربعمائة ، قال ابن المنذر : وذكر لأحمد بن حنبل حديث عمر فقال : أي شيء أقدر أقول ؟ ، ، هذا ما ذكره ابن المنذر ، وقال الخطابي : اختلف الناس في جواز هذا البيع فأبطله مالك والشافعي للحديث ، ولما فيه من الشرط الفاسد والغرر ، وأكل المال بالباطل ، وأبطله أيضا أصحاب الرأي ، وعن عمر وابن عمر جوازه ، ومال إليه أحمد بن حنبل ، والله سبحانه وتعالى أعلم .




                                      الخدمات العلمية