الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                            صفحة جزء
                                                            كتاب الصلاة عن بريدة بن الحصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بيننا وبينهم ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه الترمذي ، والنسائي وابن ماجه وابن حبان بلفظ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب ولمسلم من حديث جابر بين الرجل وبين الشرك ، والكفر ترك الصلاة

                                                            [ ص: 145 ]

                                                            التالي السابق


                                                            [ ص: 145 ] كتاب الصلاة عن بريدة بن الحصيب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم بيننا وبينهم ترك الصلاة فمن تركها فقد كفر رواه الترمذي ، والنسائي وابن ماجه وابن حبان بلفظ العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة ، وقال الترمذي حديث حسن صحيح غريب فيه فوائد :

                                                            (الأولى) الضمير في قوله وبينهم يعود على الكفار أو المنافقين معناه بين المسلمين ، والكافرين ، والمنافقين ترك الصلاة .

                                                            وأما رواية أصحاب السنن العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فالمراد أنهم ما داموا يصلون فالعهد الذي بينهم وبين المسلمين من حقن الدم باق ؛ ولذلك قال في حديث أم أيمن : من ترك صلاة متعمدا فقد برئت منه ذمة الله ورسوله رواه أحمد في مسنده ، وهو منقطع ورواه الطبراني في المعجم الأوسط من حديث معاذ ولم يقل ورسوله ، وهو كحديث أبي هريرة مرفوعا نهيت عن قتل المصلين رواه أبو داود بإسناد ضعيف ورواه أحمد بإسناد صحيح من حديث رجل من الأنصار أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في مجلس فساره يستأذنه في قتل رجل من المنافقين فجهر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أليس يشهد أن لا إله إلا الله [ ص: 146 ] قال الأنصاري : بلى يا رسول الله ولا شهادة له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أليس يشهد أن محمدا رسول الله ؟ قال : بلى يا رسول الله ولا شهادة له قال : أليس يصلي ؟ قال : بلى يا رسول الله ولا صلاة له فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أولئك الذين نهاني الله عن قتلهم روى الترمذي بسند صحيح من رواية عبد الله بن شقيق قال : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يرون شيئا من الأعمال تركه كفر غير الصلاة .

                                                            (الثانية) فيه حجة لما ذهب إليه عبد الله بن المبارك وأحمد وإسحاق وابن حبيب من المالكية أنه يكفر بترك الصلاة ، وإن لم يكن جاحدا لها ، وهو محكي عن علي بن أبي طالب وابن عباس والحكم بن عيينة وإليه ذهب بعض أصحاب الشافعي ، ومن حجتهم أيضا ما رواه مسلم في صحيحه من حديث جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : بين الرجل وبين الشرك ، والكفر ترك الصلاة .

                                                            وروى ابن ماجه من رواية يزيد الرقاشي عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم ليس بين العبد ، والكفر أو الشرك إلا ترك الصلاة .

                                                            ورواه الطبراني في المعجم الأوسط بلفظ من ترك الصلاة متعمدا فقد كفر .

                                                            وروى محمد بن نصر أيضا من حديث عبادة بن الصامت قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خلال فقال لا تشركوا بالله شيئا ، وإن قطعتم أو حرقتم أو صلبتم ولا تتركوا الصلاة متعمدين فمن تركها متعمدا فقد خرج من الملة الحديث ورواه الطبراني في المعجم الكبير .

                                                            وروى أبو بكر البزار في مسنده من حديث أبي الدرداء قال : أوصاني خليلي صلى الله عليه وسلم أن لا أشرك بالله شيئا ، وإن حرقت ، وأن لا أترك صلاة مكتوبة متعمدا فمن تركها متعمدا فقد كفر وفي إسناده شهر بن حوشب مختلف فيه وقال النووي في الخلاصة : إنه حديث منكر وأخرجه الحاكم في المستدرك من حديث أميمة بنت رقيقة .

                                                            وروى الطبراني في أكبر معاجمه من حديث ابن عباس ولا أعلمه إلا رفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : بني الإسلام على خمس الحديث فذكر منها الصلاة ، ثم قال : فمن ترك واحدة منهن كان كافرا حلال الدم وروى أحمد في مسنده وابن حبان في صحيحه [ ص: 147 ] من حديث عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه ذكر الصلاة يوما فقال : من حافظ عليها كانت له نورا وبرهانا ونجاة إلى يوم القيامة ومن لم يحافظ عليها لم يكن له نور ولا برهان ولا نجاة وكان يوم القيامة مع فرعون وهامان وأبي بن خلف .

                                                            وذهب جمهور أهل العلم إلى أنه لا يكفر بترك الصلاة إذا كان غير جاحد لوجوبها ، وهو قول بقية الأئمة أبي حنيفة ومالك والشافعي ، وهي رواية عن أحمد بن حنبل أيضا وأجابوا عما صح من أحاديث الباب بأجوبة منها : أن معناها أن تارك الصلاة يستحق عقوبة الكافر وهي القتل .

                                                            (والثاني) أنها محمولة على من استحل تركها من غير عذر ، .

                                                            (والثالث) أن ذلك قد يئول بفاعله إلى الكفر كما قيل : المعاصي بريد الكفر .

                                                            (والرابع) أن فعله فعل الكفار ولم يصح من أحاديث الباب غير حديث بريدة وحديث جابر .

                                                            وأما حديث أنس فقال الدارقطني في العلل الأشبه بالصواب عن الربيع بن أنس مرسلا ، وحديث أبي الدرداء تقدم تضعيفه ، وحديث عبادة بن الصامت الذي قال فيه : فقد خرج من الملة فالراوي له عن عبادة سلمة بن شريح ، وهو مجهول قاله صاحب الميزان .

                                                            وقال ابن يونس في تاريخ مصر : ولا يحدث عن سلمة غير يزيد بن قوذ ، وفيه أيضا من يحتاج إلى الكشف عن حاله ، وحديث ابن عباس شك الراوي له عن ابن عباس في رفعه ، وهو أبو الجوزاء الربعي ، وحديث أم أيمن تقدم أنه منقطع وحديث معاذ في إسناده عمرو بن واقد ، وهو الدمشقي منكر الحديث قاله البخاري ، وهو أيضا من رواية أبي إدريس الخولاني عن معاذ ، وقد قال أبو زرعة إنه لم يصح سماعه منه .

                                                            وكذا قال الزهري إنه فاته معاذ وأثبت ابن عبد البر سماعه منه ، وكذا قال الوليد بن مسلم أدركه ، وهو ابن عشر سنين .

                                                            وأما حديث عبد الله بن عمر فهو ، وإن كان صحيحا فلا يلزم من كونه يكون يوم القيامة مع فرعون وهامان وأبي بن خلف أن يكون مخلدا في النار معهم بل قد يعذب معهم في النار ويخرج بالشفاعة أو يغفر له والله أعلم .

                                                            (الثالثة) احتج الجمهور على عدم تكفير تارك الصلاة من غير جحود بقوله تعالى إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء وبأحاديث صحيحة منها حديث عبادة بن الصامت قال : سمعت [ ص: 148 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : خمس صلوات فرضهن الله من أحسن وضوءهن وصلاهن لوقتهن وأتم ركوعهن وخشوعهن كان له عند الله عهد أن يغفر له ومن لم يفعل فليس له عند الله عهد إن شاء غفر له ، وإن شاء عذبه رواه أبو داود ، والنسائي وابن ماجه بإسناد صحيح .

                                                            ومنها حديث عبادة أيضا في الصحيحين من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمدا عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، والجنة ، والنار حق أدخله الله الجنة على ما كان من عمل ، وفي رواية لمسلم من شهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله حرم عليه النار وفي الصحيحين أيضا من حديث عثمان بن مالك لا يشهد أحد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله فيدخل النار أو تطعمه النار وفي الصحيح غير ذلك مما يدل على ذلك



                                                            (الرابعة) الألف ، واللام في الصلاة يحتمل أنها للجنس ويحتمل أنها للعهد ، وهو أظهر ، وإذا كانت للعهد فالمراد الصلاة المعهودة ، وهي الصلوات الخمس ، ثم هل يصدق الترك لها بترك صلاة واحدة أو يتوقف على ترك الخمس وينبني على ذلك ما وقع من الخلاف بين العلماء في أنه هل يقتل بترك صلاة واحدة أو أكثر فذهب الجمهور إلى أنه يقتل بترك صلاة واحدة إذا أخرجها عن آخر وقتها ، وممن حكاه عن الجمهور صاحب المفهم ويدل لهم حديث من ترك صلاة متعمدا فقد كفر .

                                                            وقد تقدم لأصحاب الشافعي فيه اختلاف كثير وحكاه الرافعي خمسة أوجه قال وظاهر المذهب استحقاق القتل بترك صلاة واحدة ، فإذا تضيق وقتها طالبناه بفعلها وقلنا له : إن أخرجتها عن وقتها قتلناك ، فإذا أخرجها عن وقتها فقد استوجب القتل ولا يعتبر بضيق وقت الثانية ، وبهذا قال مالك وعن أبي إسحاق إنه إنما يستوجب القتل إذا ضاق وقت الثانية ، وعن الإصطخري لا يقتل حتى يترك ثلاث صلوات ويضيق وقت الرابعة وعنه أنه إنما يستوجب القتل إذا ترك أربع صلوات وامتنع عن القضاء ، وعنه أن ذلك لا يختص بعدد ولكن إذا ترك من الصلاة قدر ما يظهر لنا اعتياده للترك .

                                                            قال الرافعي : والمذهب الأول . قال : والاعتبار بإخراج الصلاة عن وقت العذر ، والضرورة ، فإذا ترك الظهر لم يقتل حتى تغرب الشمس ، وإذا ترك المغرب لم يقتل حتى يطلع الفجر حكاه الصيدلاني وتابعه الأئمة عليه .



                                                            (الخامسة) فيه حجة على [ ص: 149 ] أبي حنيفة والمزني حيث ذهبا إلى أنه لا يقتل تارك الصلاة بل يحبس ويعزر إلى أن يصلي ؛ لأن الكفر مقتض للقتل ، وإنما لم نقل بالتكفير لما ذكرنا من الأدلة المقتضية لعدم تكفيره فحملنا الكفر على أن عقوبته عقوبة الكافر ، وهو القتل ويدل للقائلين بقتله حديث نهيت عن قتل المصلين ، وقد تقدم في الفائدة الأولى من هذا الحديث .

                                                            (السادسة) قوله : فمن تركها فقد كفر ليس المراد بالترك هنا عموم الترك بل المراد الترك عمدا قطعا على قول من حمله على ظاهره وقول من تأوله أيضا ، وقد صرح في حديث أنس وحديث أبي الدرداء كما تقدم في الفائدة الثانية ويدل عليه قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح ليس في النوم تفريط إنما التفريط على من لم يصل الصلاة حتى يدخل وقت الصلاة الأخرى وقوله رفع عن أمتي الخطأ ، والنسيان ، وقوله : من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها لا وقت لها إلا ذلك .



                                                            (السابعة) اختلف القائلون بقتل تارك الصلاة هل يستتاب أم لا ؟ وفيه قولان للمالكية حكاهما صاحب المفهم وغيره وقال الرافعي : إنه لا بد من الاستتابة قبل القتل وصحح النووي في التحقيق أنه تندب الاستتابة ولا تجب وقيل تجب ، وهذا ليس بجيد ، فإن هذا الخلاف إنما هو في الاستتابة ثلاثة أيام أو في الحال ، فيه قولان .

                                                            وهذا الخلاف في الاستحباب كما صححه الرافعي أما وجوب الاستتابة فلم يحك فيه الرافعي خلافا في الصلاة ، وإن كان في استتابة المرتد وجهان أصحهما الوجوب والله أعلم .

                                                            وقد استشكل بعض مشايخنا سقوط القتل بالتوبة في حق تارك الصلاة ؛ لأنه إنما يقتل حدا لا كفرا ، والتوبة لا تسقط الحدود كمن سرق نصابا ، ثم رده إلى صاحبه ، فإن الحد لا يسقط .



                                                            (الثامنة) الصلاة المتروكة عمدا حتى يخرج وقتها اختلفوا في وجوب قضائها فذهب الأئمة الأربعة إلى وجوب قضائها وذهب ابن حزم إلى أنه لا يجب قضاؤها ؛ لأن القضاء إنما يجب بأمر جديد ، وقد قيد الشارع المأمور بالقضاء بالنائم ، والناسي في قوله في الحديث الصحيح من نام عن صلاة أو نسيها فليصلها إذا ذكرها ، وهذا مفهوم شرط ، وهو حجة على الراجح عند الأصوليين .

                                                            واختار الشيخ عز الدين بن عبد السلام من الشافعية أنه لا يجب القضاء كقول ابن حزم وبالغ ابن حزم في كتاب له سماه الأعراب فادعى فيه الإجماع على أنها [ ص: 150 ] لا تقضى وناقضه ابن عبد البر في الاستذكار فادعى الإجماع على القضاء خلافا لما ذهب إليه هذا الظاهري واستدل على وجوب القضاء بقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : سيكون عليكم أمراء يؤخرون الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها ، ثم اجعلوا صلاتكم معهم نافلة فأمر بالصلاة معهم بعد خروج الوقت فلو كانت غير صحيحة لما أمر بالاقتداء بهم وحمل العلماء حديث من نام عن صلاة أو نسيها على أنه خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له حتى لقد بلغني عن بعض علماء المغرب فيما حكاه لي صاحبنا الشيخ الإمام أبو الطيب المغربي أنه تكلم يوما في ترك الصلاة عمدا ، ثم قال : وهذه المسألة مما فرضها العلماء ولم تقع ؛ لأن أحدا من المسلمين لا يتعمد ترك الصلاة وكان ذلك العالم غير مخالط للناس ونشأ عند أبيه مشتغلا بالعلم من صغره حتى كبر ودرس فقال ذلك في درسه والله أعلم .

                                                            ويحتمل أن يقال في الحديث إنه نبه بالأدنى على الأعلى كقوله فلا تقل لهما أف فإذا أمر المعذور بالقضاء فأولى أن يؤمر به من تعدى بالتأخير كمن أخر حقا عليه عن وقته ودين الله أحق بالقضاء كما ثبت في الحديث الصحيح .

                                                            وقد يقال : إنما قيد القضاء بالنائم ، والناسي في الحديث ؛ لأنه جعل واجبه الإتيان به إذا ذكر ما نسيه أو نام ولا كذلك التارك عمدا ؛ لأنه لا يتجدد له ذكر بعد النسيان فصار كقوله تعالى ولا تكرهوا فتياتكم على البغاء إن أردن تحصنا فإن مفهوم الشرط ليس معمولا به لا نهي إذا لم يردن التحصن فلا إكراه حينئذ بل زناهن اختياري فلا يصح أن تؤمر السادات بصيغة الإكراه إذ لا إكراه حينئذ والله أعلم .




                                                            الخدمات العلمية