الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                      صفحة جزء
                                      قال المصنف - رحمه الله تعالى - ( وإن جن من له الخيار ، أو أغمي عليه ، انتقل الخيار إلى الناظر في ماله وإن مات ، فإن كان في خيار الشرط انتقل الخيار إلى من ينتقل إليه المال ، لأنه حق ثابت لإصلاح المال ، فلم يسقط بالموت كالرهن وحبس المبيع على الثمن ، فإن لم يعلم الوارث حتى مضت المدة ففيه وجهان ( أحدهما ) يثبت له الخيار في القدر الذي بقي من المدة ، لأنه لما انتقل الخيار إلى غير من شرط له بالموت وجب أن ينتقل إلى غير الزمان الذي شرط فيه ( والثاني ) أنه تسقط المدة ويثبت الخيار للوارث على الفور ، لأن المدة فاتت وبقي الخيار ، فكان على الفور كخيار الرد بالعيب ، وإن كان في خيار المجلس فقد روى المزني أن الخيار للوارث وقال في المكاتب : إذا مات وجب البيع ، فمن أصحابنا من قال : لا يسقط الخيار بالموت في المكاتب وغيره ( وقوله ) وفي المكاتب وجب البيع أراد به أنه لا ينفسخ بالموت كما تنفسخ الكتابة ، ومنهم من قال : يسقط الخيار في بيع المكاتب ولا يسقط في بيع غيره لأن السيد يملك بحق الملك ، فإذا لم يملك في حياة المكاتب لم يملك بعد موته . والوارث يملك بحق الإرث فانتقل إليه بموته . ومنهم من نقل جواب كل واحدة من المسالتين إلى الأخرى وخرجهما على قولين ( أحدهما ) إنه يسقط الخيار لأنه إذا سقط الخيار بالتفرق فلأن يسقط بالموت - والتفرق فيه أعظم أولى ( والثاني ) لا يسقط ، وهو الصحيح لأنه خيار ثابت لفسخ البيع ، فلم يبطل بالموت كخيار الشرط ، فعلى هذا إن كان الذي انتقل إليه الخيار حاضرا ثبت له الخيار إلا أن يتفارقا أو يتخايرا وإن كان غائبا ثبت له الخيار إلى أن يفارق الموضع الذي بلغه فيه )

                                      التالي السابق


                                      ( الشرح ) قوله : حق ثابت لإصلاح المال احتراز ممن أسلم على أكثر من أربع زوجات ، وأسلمن ، ومات قبل الاختيار ، فإن الخيار لا ينتقل إلى الوارث .

                                      ( وقوله : ) خيار ثابت لفسخ البيع احتراز بالفسخ عن خيار [ ص: 246 ] القبول في إيجاب البيع ، وهو إذا قال البائع : بعتك فمات المشتري قبل القبول لم يقبل الوارث عنه . واحترز بالبيع عن فسخ النكاح بالعيب وبعتق الأمة تحت عبده .

                                      ( أما الأحكام ) فاتفقت نصوص الشافعي وطرق الأصحاب على أن خيار الشرط وخيار الرد بالعيب ينتقل إلى الوارث بموت المورث ، وإلى السيد بموت المكاتب في مدته ولا خلاف في هذا ، إلا أن الرافعي حكى أن في خيار الشرط قولا شاذا أنه يسقط بالموت مخرجا من خيار المجلس ، وهذا ضعيف جدا ومردود ، فإذا قلنا بالمذهب فإن كانت المدة باقية عند بلوغ الخبر ثبت للوارث الخيار إلى انقضائها ، وإن كانت قد انقضت فأربعة أوجه ، والوجهان الأولان منها مشهوران ذكرهما المصنف بدليلهما ( أصحهما ) يكون على الفور . قال الروياني وغيره : هذا ظاهر نصه في الأم ( والوجه الثاني ) يثبت في القدر الذي كان بقي عند الموت ( والثالث ) يبقى الخيار ما دام المجلس الذي بلغه فيه الخبر ، حكاه القفال والروياني وآخرون من الخراسانيين ( والوجه الرابع ) يسقط الخيار ، ويلزم البيع بمجرد مضي المدة ، حكاه الروياني ، وبه جزم الماوردي لفوات المدة وهذا شاذ مردود والله أعلم . وأما خيار المجلس فإذا مات أحد المتعاقدين في المجلس نص الشافعي أن الخيار لوارثه وقال في المكاتب : إذا باع ومات في المجلس وجب البيع ، وللأصحاب في المسألتين ثلاث طرق مشهورة ، ذكرها المصنف بدلائلها واضحة ( أحدها ) وهو قول أبي إسحاق المروزي وأكثر أصحابنا المتقدمين وهو أصحها عند الأصحاب : في المسألتين قولان ( أصحهما ) يثبت الخيار للوارث ولسيد المكاتب ، كخيار الشرط والرد بالعيب .

                                      ( والثاني ) لا يثبت ، بل يلزم البيع بمجرد الموت ، لأنه أبلغ في المفارقة من مفارقته بالبدن ( والطريق الثاني ) يثبت لهما قطعا ، وتأويل نص المكاتب بما ذكره المصنف [ ص: 247 ] وبهذا الطريق قال أبو علي بن أبي هريرة .

                                      ( والثالث ) تقرير النصين ، وهو ثبوت الخيار للوارث دون السيد ، والفرق أن الوارث خليفة الميت بخلاف السيد . ولو مات العاقدان في المجلس ففي انتقال الخيار إلى وارثهما وسيد المكاتب الخلاف المذكور في موت أحدهما ، صرح به الدارمي والأصحاب والله أعلم . أما إذا باع العبد المأذون له ، أو اشترى ومات في المجلس ، فكالمكاتب وكذا الوكيل بالشراء إذا مات في المجلس ، هل للموكل الخيار ؟ فيه الخلاف كالمكاتب ، هذا إذا فرعنا على الصحيح أن الاعتبار بمجلس الوكيل ، وفي وجه شاذ ضعيف يعتبر مجلس الموكل ، وهو شاذ ليس بشيء . قال أصحابنا : فإن لم يثبت الخيار للوارث فقد انقطع خيار الميت ( وأما ) العاقد الآخر الحي فذكر البغوي أن خياره لا ينقطع حتى يفارق ذلك المجلس ، وقال إمام الحرمين : يلزم العقد من الجانبين . قال الرافعي : ويجوز تقرير خلاف لما سبق أن هذا الخيار لا يتبعض سقوطه كموته ، وذكر القاضي حسين فيه وجهين ( أحدهما ) يمتد إلى أن يفارق مجلسه ثم ينقطع ( والثاني ) يبقى إلى أن يجتمع هو والوارث الآخر ( والثالث ) يمتد إلى مفارقته مجلس العقد ، وهذا هو الصحيح وهو الذي جزم به البغوي ، وحكى الروياني وجها رابعا أنه ينقطع خياره بموت صاحبه ، فإذا بلغ الخبر إلى وارثه حدث لهذا الحي الخيار معه ، وهذا شاذ ضعيف .

                                      ( فإن قلنا : ) يثبت الخيار للوارث فإن كان حاضرا في المجلس امتد الخيار بينه وبين العاقد الآخر حتى يتفرقا أو يتخايرا ، وإن كان غائبا فله الخيار إذا وصله الخبر ، وهل هو على الفور ؟ أم يمتد امتداد مجلس بلوغ الخبر إليه ؟ فيه وجهان كالوجهين في خيار الشرط إذا ورثه الوارث ، وبلغه الخبر بعد مضي مدة الخيار .

                                      ففي وجه هو على الفور ، وفي وجه [ ص: 248 ] يمتد كما كان يمتد للميت لو بقي ، ومنهم من بناهما على الوجهين في كيفية ثبوته للعاقد الباقي ( أحدهما ) له الخيار ، ما دام في مجلس العقد ، فعلى هذا يكون خيار الوارث ثابتا في المجلس الذي يشاهد فيه المبيع ( والثاني ) يتأخر خياره إلى أن يجتمع هو والوارث في مجلس فحينئذ يثبت الخيار للوارث ، وجمع القاضي حسين في تعليقه هذا الخلاف ، فحكى في المسألة ثلاثة أوجه ( أحدهما ) يثبت له على الفور ( والثاني ) ما لم يفارق مجلس بلوغ الخبر ( والثالث ) ما لم يجتمع هو والعاقد الآخر ، وحكى الروياني وجها رابعا أنه يثبت له الخيار إذا أبصر السلعة ، ولا يتأخر عن ذلك ( والأصح ) أن خيار الوارث يثبت ما دام في مجلس بلوغ الخبر إليه وبه قطع المصنف وشيخه القاضي أبو الطيب والماوردي وآخرون ، وهو قول أبي إسحاق المروزي ( فرع ) إذا ورث خيار المجلس اثنان فصاعدا وكانوا حضورا في مجلس العقد . فلهم الخيار إلى أن يفارقوا العاقد الآخر . ولا ينقطع بمفارقة بعضهم على الأصح المشهور ، وبه جزم الأكثرون . فإن كانوا غائبين عن المجلس - قال المتولي : إن قلنا في الوارث الواحد : يثبت الخيار في مجلس مشاهدة المبيع - فلهم الخيار إذا اجتمعوا في مجلس ( وإن قلنا : ) له الخيار إذا اجتمع هو والعاقد ، وكذا لهم الخيار إذا اجتمعوا هم وهو ، ومتى فسخ بعضهم وأجاز بعضهم فوجهان مشهوران حكاهما ابن القطان والقاضي حسين والمتولي والروياني وغيرهم : ( أحدهما ) لا ينفسخ في شيء ( وأصحهما ) ينفسخ في الجميع كالمورث لو فسخ في حياته في بعضه ، وأجاز في بعض .

                                      قال المتولي : ولا خلاف أنه لا يبعض الفسخ ، لأن فيه إضرارا بالعاقد الآخر ، قال ولو حضر بعضهم وغاب البعض فللحاضر الخيار ، فإن فسخ وقلنا : يغلب الفسخ نفذ الفسخ في الجميع ، وإن أجاز توقفنا حتى يبلغ [ ص: 249 ] الخبر إلى الغائب ، هذا ما نقله المتولي . وقال الماوردي والروياني إن مات البائع فلكل واحد من ورثته أن ينفرد بالفسخ في حصته بلا خلاف وإن مات المشتري فوجهان ( أحدهما ) يثبت الفسخ لكل من ورثته كعكسه ( وأصحهما ) ليس لأحدهم الفسخ ، والفرق أن المشتري يثبت له الخيار بتبعيض الصفقة عليه ، فيزول عنه الضرر ، بخلاف البائع ، والمذهب ما ذكره المتولي .

                                      ( فرع ) لو جن أحد العاقدين أو أغمي عليه لم ينقطع الخيار ، بل يقوم وليه أو الحاكم مقامه ، فيفعل ما فيه الحظ من الفسخ والإجازة . هذا هو المذهب وبه قطع المصنف والأصحاب ، وفيه وجه مخرج من الموت أنه ينقطع حكاه جماعة من الخراسانيين منهم المتولي والروياني ، قال : وليس هو بشيء ، ولو خرس أحدهما في المجلس قال أصحابنا : إن كانت له إشارة مفهومة أو كتابة - فهو على خياره وإلا نصب الحاكم نائبا عنه ، وهذا متفق عليه عند أصحابنا .

                                      ( فرع ) إذا جن أحد العاقدين أو أغمي عليه في مدة الخيار ، وأقام القاضي فيما يقوم مقامه في الخيار ففسخ القيم أو أجاز ، فأفاق العاقد وادعى أن الغبطة خلاف ما فعله القيم ، قال القاضي حسين وغيره : ينظر الحاكم في ذلك فإن وجد الأمر كما يقول المفيق مكنه من الفسخ والإجازة ، ونقض فعل القيم ، وإن لم يكن ما ادعاه المفيق ظاهرا فالقول قول القيم مع يمينه ، لأنه أمين فيما فعله إلا أن يقيم المفيق بينة بما ادعاه



                                      ( فرع ) قال القاضي حسين : حيث أثبتنا خيار المجلس أو الشرط للوارث ، وكان واحدا فإن قال : أجزت انبرم العقد ، وإن قال : فسخت انفسخ ، وإن قال : أجزت وفسخت أو فسخت وأجزت ، فالحكم باللفظ المتقدم منهما ، وإن قال : أجزت في النصف ، غلب [ ص: 250 ] الفسخ ، كما لو فسخ أحد العاقدين وأجاز الآخر ، فإنه يقدم الفسخ كما سبق .



                                      ( فرع ) لو حضر الموكل مجلس العقد ، فحجر على الوكيل في خيار المجلس ، فمنعه الفسخ والإجازة فقد ذكر الغزالي في البسيط والوسيط كلاما معناه أن فيه احتمالين ( أحدهما ) يجب الامتثال فينقطع خيار الوكيل ، قال : وهو مشكل لأنه يلزم منه رجوع الخيار إلى الموكل ، وهو مشكل ( والثاني ) لا يمتثل لأنه من لوازم السبب السابق ، وهو المنع ، لكنه مشكل لأنه مخالف بيان الوكالة التي مقتضاها امتثال قول الموكل ، وهذا الثاني أرجح ، هذا معنى كلام الغزالي وليس في المسألة خلاف ، وإن كانت عبارته موهمة إثبات خلاف ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا كان الخيار لأحدهما دون الآخر فمات من لا خيار له ، بقي الخيار بلا خلاف ، قال المتولي : وهذا كما أن الدين المؤجل لا يحل بموت من له الدين ، وإنما يحل بموت من عليه وتتصور المسألة في الشرط ، وتتصور في خيار المجلس إذا أجاز أحدهما دون الآخر ثم مات المخير في المجلس .



                                      ( فرع ) إذا شرط الخيار لأجنبي ، وصححناه وخصصناه به دون الشارط فمات ، ففي انتقاله إلى الشارط الخلاف المذكور في المكاتب ، ذكره المتولي وغيره ، وسبق بيانه في مسألة شرط الخيار للأجنبي ، قال المتولي : ولا خلاف أنه ينتقل إلى وارث الأجنبي قال : وكذا لو شرط الوكيل الخيار لنفسه حيث يصح ، وخصصناه به فمات ، لا ينتقل إلى وارثه بلا خلاف ، وفي انتقاله إلى الموكل الخلاف كالمكاتب ، وحكى الفوراني وجها أنه ينتقل إلى وارث الوكيل ، وهذا ضعيف أو غلط ، وحكى أيضا [ ص: 251 ] طريقا آخر أنه ينتقل إلى الموكل قطعا وادعى أنه المذهب لأنه نائبه ، وطريقا ثالثا أنه يبطل الخيار قطعا وحكى القاضي حسين هذا الطريق ، والمذهب المشهور أنه كالمكاتب ، والصحيح على الجملة أنه ينتقل إلى الموكل ، قال : وكذا المكاتب إذا شرط الخيار ثم عجز نفسه ، هل ينتقل الخيار إلى سيده ؟ فيه الخلاف ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) قد ذكرنا أن خيار الرد بالعيب يثبت للوارث بلا خلاف إذا مات الوارث قبل التقصير المسقط ، وهذا حكم خيار الخلف فيما إذا شرط أن العبد كاتب فأخلف ونحوه ، قال المتولي : وهكذا الخيار الثابت للبائع عند عجز المشتري عن تسليم الرهن المشروط في البيع ينتقل إلى الوارث ، فأما خيار القبول فلا يورث بلا خلاف ، وصورته إذا قال البائع : بعتكه فمات المشتري ووارثه حاضر فقبل في الحال لا يصح ، هذا هو المذهب وبه قطع الأصحاب . وحكى الروياني وجها أنه إذا قبل وارثه في الحال صح البيع وهو شاذ باطل ، وقد سبقت المسألة بفروعها في مسائل الإيجاب والقبول ، قال المتولي : والفرق بينهما أن خيار القبول ليس بلازم ، لأن من عليه وهو البائع لو قال : رجعت أو أبطلت الإيجاب بطل خيار المشتري بخلاف الخيار في هذه المسألة ، فإنه لازم ، حتى لو قال من عليه الخيار لصاحبه أبطلت عليك خيارك ، لم يبطل حقه ، فما كان جائزا سقط بالموت ، وما كان لازما لم يسقط بالموت كالعقود فإنه يبطل بالموت الجائز منها دون اللازم .



                                      ( فرع ) قال المتولي : لو وهب لولده شيئا فمات الواهب لا ينتقل حق الرجوع فيه إلى الورثة لأنهم لا يرثون العين فلا يرثون الخيار منها ، وكما لا يورث حق النكاح ، قال المتولي : وحد ما يورث وما لا يورث من الحقوق أن كل حق لازم متعلق بالمال يورث بوراثة المال ، هذا كلامه ، وليس هذا الذي قاله حدا صحيحا ، فإنه ترك أشياء كثيرة لم [ ص: 252 ] تدخل في حده ( منها ) : حد القذف ( ومنها ) القصاص ( ومنها ) النجاسات المنتفع بها كالكلب والسرجين وجلد الميتة وغير ذلك ، والله أعلم .



                                      ( فرع ) إذا مات صاحب الخيار - وقلنا : ينتقل إلى الورثة فكانوا أطفالا أو مجانين - قال الروياني وغيره : ينصب القاضي [ قيما يفعل ] ما هو المصلحة من الفسخ والإجازة ، كما لو جن صاحب الخيار ، والله أعلم .




                                      الخدمات العلمية