الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          [ ص: 315 ]

                          باب اللفظ والنظم - فصل في " إن " ومواقعها

                          فصل

                          خبر الكندي الفيلسوف مع ثعلب وزعمه أن في كلام العرب حشوا

                          371- واعلم أن مما أغمض الطريق إلى معرفة ما نحن بصدده أن هاهنا فروقا خفية تجهلها العامة وكثير من الخاصة، ليس أنهم يجهلونها في موضع ويعرفونها في آخر، بل لا يدرون أنها هي، ولا يعلمونها في جملة ولا تفصيل .

                          روي عن ابن الأنباري أنه قال : ركب الكندي المتفلسف إلى أبي العباس وقال له : إني لأجد في كلام العرب حشوا ! فقال له أبو العباس : في أي موضع وجدت ذلك؟ فقال : أجد العرب يقولون : " عبد الله قائم " . ثم يقولون : " إن عبد الله قائم " ثم يقولون : " إن عبد الله لقائم " فالألفاظ متكررة والمعنى واحد . فقال أبو العباس : بل المعاني مختلفة لاختلاف الألفاظ، فقولهم : " عبد الله قائم " إخبار عن قيامه وقولهم : " إن عبد الله قائم " جواب عن سؤال سائل . وقوله : " إن عبد الله لقائم " جواب عن إنكار منكر قيامه، فقد تكررت الألفاظ لتكرر المعاني . قال : فما أحار المتفلسف جوابا .

                          وإذا كان الكندي يذهب هذا عليه حتى يركب فيه ركوب مستفهم أو معترض، فما ظنك بالعامة، ومن هو في عداد العامة ممن لا يخطر شبه هذا بباله؟

                          دخول " إن " في الكلام وخصائصها

                          372- واعلم أن هاهنا دقائق لو أن الكندي استقرى وتصفح وتتبع مواقع " إن " : ثم ألطف النظر وأكثر التدبر، لعلم علم ضرورة أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل .

                          [ ص: 316 ]

                          فأول ذلك وأعجبه ما قدمت لك ذكره في بيت بشار :


                          بكرا صاحبي قبل الهجير إن ذاك النجاح في التبكير



                          وما أنشدته معه من قول بعض العرب :


                          فغنها وهي لك الفداء     إن غناء الإبل الحداء



                          وذلك أنه هل شيء أبين في الفائدة، وأدل على أن ليس سواء دخولها وأن لا تدخل، أنك ترى الجملة إذا هي دخلت ترتبط بما قبلها وتأتلف معه وتتحد به . حتى كأن الكلامين قد أفرغا إفراغا واحدا وكأن أحدهما قد سبك في الآخر .

                          هذه هي الصورة حتى إذا جئت إلى " إن " فأسقطتها رأيت الثاني منهما قد نبا عن الأول، وتجافى معناه عن معناه، ورأيته لا يتصل به ولا يكون منه بسبيل، حتى تجيء بالفاء فتقول : " بكرا صاحبي قبل الهجير، فذاك النجاح في التبكير " و " غنها وهي لك الفداء، فغناء الإبل الحداء " . ثم لا ترى " الفاء " تعيد الجملتين إلى ما كانتا عليه من الألفة، ولا ترد عليك الذي كنت تجد ب " إن " من المعنى .

                          373- وهذا الضرب كثير في التنزيل جدا من ذلك قوله تعالى : « يا أيها الناس اتقوا ربكم إن زلزلة الساعة شيء عظيم » [ سورة الحج : 1 ] وقوله عز اسمه : « يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر على ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور » [ سورة لقمان : 17 ] [ ص: 317 ] وقوله سبحانه : « خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصل عليهم إن صلاتك سكن لهم » [ سورة التوبة : 103 ] ومن أبين ذلك قوله تعالى : « ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون » [ سورة هود : 37 ، سورة المؤمنون : 27 ] وقد يتكرر في الآية الواحدة كقوله عز اسمه : « وما أبرئ نفسي إن النفس لأمارة بالسوء إلا ما رحم ربي إن ربي غفور رحيم » [ سورة يوسف : 53 ] وهي على الجملة من الكثرة بحيث لا يدركها الإحصاء.

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية