الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                          صفحة جزء
                                                                                                          باب ما جاء في المصافحة

                                                                                                          2727 حدثنا سفيان بن وكيع وإسحق بن منصور قالا حدثنا عبد الله بن نمير عن الأجلح عن أبي إسحق عن البراء بن عازب قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ما من مسلمين يلتقيان فيتصافحان إلا غفر لهما قبل أن يفترقا قال أبو عيسى هذا حديث حسن غريب من حديث أبي إسحق عن البراء وقد روي هذا الحديث عن البراء من غير وجه والأجلح هو ابن عبد الله بن حجية بن عدي الكندي

                                                                                                          التالي السابق


                                                                                                          ( باب ما جاء في المصافحة ) قال في تاج العروس شرح القاموس : الرجل يصافح الرجل إذا وضع صفح كفه في صفح كفه وصفحا كفيهما وجهاهما ، ومنه حديث المصافحة عند اللقاء وهي مفاعلة من إلصاق صفح الكف بالكف ، وإقبال الوجه على الوجه كذا في اللسان والأساس والتهذيب فلا يلتفت إلى من زعم أن المصافحة غير عربي ، انتهى . وقال الجزري في النهاية : ومنه حديث المصافحة عند اللقاء وهي مفاعلة من إلصاق صفح الكف بالكف وإقبال الوجه على الوجه . وقال الحافظ في الفتح : هي مفاعلة من الصفحة والمراد بها الإفضاء بصفحة اليد إلى صفحة اليد ، وكذا قال القاري في المرقاة والطحاوي وغيرهما من العلماء الحنفية .

                                                                                                          قوله : ( ما من مسلمين ) " من " مزيدة لمزيد الاستغراق ( يلتقيان ) أي يتلاقيان ( فيتصافحان ) زاد ابن السني ويتكاشفان بود ونصيحة ( إلا غفر لهما ) بصيغة المجهول ( قبل أن يتفرقا ) بالأبدان أو بالفراغ عن المصافحة وهو أظهر في إرادة المبالغة ، وفي رواية لأبي داود : إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله واستغفراه غفر لهما . وفيه سنية المصافحة عند الملتقى وأنهيستحب عند المصافحة حمد الله تعالى ، والاستغفار وهو قوله : يغفر الله لنا ولكم .

                                                                                                          وأخرج ابن السني عن أنس قال : ما أخذ رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيد رجل ففارقه حتى قال اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار . وفيه عن أنس عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ما من عبدين متحابين في الله يستقبل أحدهما صاحبه فيصافحه فيصليان على النبي -صلى الله عليه وسلم - إلا لم يتفرقا حتى تغفر ذنوبهما مما تقدم منها وما تأخر . وفي الترغيب للمنذري عن حذيفة بن اليمان -رضي الله تعالى عنه- عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : إن المؤمن إذا لقي المؤمن فسلم عليه وأخذ بيده فصافحه تناثرت خطاياهما كما يتناثر ورق الشجر . رواه الطبراني في الأوسط ورواته لا أعلم فيهم مجروحا .

                                                                                                          وعن سلمان الفارسي -رضي الله عنه- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : إن المسلم إذا لقي أخاه فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما يتحات الورق عن الشجرة اليابسة في ريح يوم عاصف ، وإلا غفر لهما ولو كانت ذنوبهما مثل زبد البحر . رواه الطبراني بإسناد حسن ، انتهى .

                                                                                                          قوله : ( هذا حديث حسن غريب ) وأخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه والضياء كذا في الجامع الصغير .

                                                                                                          فائدة في بيان أن السنة في المصافحة أن تكون باليد الواحدة ، اعلم أن السنة أن تكون المصافحة باليد الواحدة أعني اليمنى من الجانبين ، سواء كانت عند اللقاء أو عند البيعة ، وقد صرح به العلماء الحنفية والشافعية والحنبلية ، قال الفقيه الشيخ [ ص: 430 ] محمد أمين المعروف بابن عابدين -رحمه الله- في رد المحتار على الدر المختار : قوله : ( فإن لم يقدر ) أي على تقبيله إلا بالإيذاء أو مطلقا يضع يديه عليه ثم يقبلهما ، أو يضع إحداهما والأولى أن تكون اليمنى ؛ لأنها المستعملة فيما فيه شرف ولما نقل عن البحر العميق من أن الحجر يمين الله يصافح بها عباده والمصافحة باليمنى ، انتهى . وقال الشيخ ضياء الدين الحنفي النقشبندي في كتابه لوامع العقول شرح رموز الحديث في شرح حديث : إذا التقى المسلمان فتصافحا وحمدا الله ، الحديث . ما لفظه : والظاهر من آداب الشريعة تعين اليمنى من الجانبين لحصول السنة كذلك فلا تحصل باليسرى في اليسرى ولا في اليمنى انتهى . وقال الإمام النووي يستحب أن تكون المصافحة باليمنى وهو أفضل ، انتهى .

                                                                                                          ذكره الشيخ عبد الله بن سلمان اليمني الزبيدي في رسالته في المصافحة . وقال الشيخ عبد الرءوف المناوي الشافعي في كتابه الروض النضير شرح الجامع الصغير : ولا تحصل السنة إلا بوضع اليمنى في اليمنى حيث لا عذر ، انتهى . وقال الشيخ علي بن أحمد العزيزي في كتابه السراج المنير شرح الجامع الصغير : إذا لقيت الحاج أي عند قدومه من حجه فسلم عليه وصافحه ، أي ضع يدك اليمنى في يده اليمنى ، انتهى . وقال الشيخ العلقمي -رحمه الله- في كتابه الكوكب المنير شرح الجامع الصغير في شرح حديث : إذا التقى المسلمان فتصافحا إلخ ، قال ابن رسلان : ولا تحصل هذه السنة إلا بأن يقع بشرة أحد الكفين على الآخر ، انتهى . وقال الشيخ العالم الرباني السيد عبد القادر الجيلاني في كتابه غنية الطالبين : فصل فيما يستحب فعله بيمينه وما يستحب فعله بشماله ; يستحب له تناول أشياء بيمينه والأكل والشرب والمصافحة والبداءة بها في الوضوء والانتعال ولبس الثياب إلخ .

                                                                                                          والدليل على ما قلنا من أن السنة في المصافحة أن تكون باليمنى من الجانبين سواء كانت عند اللقاء أو عند البيعة . ما رواه الإمام أحمد في مسنده حدثنا عبد الله ، حدثني أبي ، حدثنا علي بن عياش قال : حدثنا حسان بن نوح . حمصي ، قال : رأيت عبد الله بن بسر يقول : ترون كفي هذه فأشهد أني وضعتها على كف محمد -صلى الله عليه وسلم- الحديث إسناده صحيح ، ورواه الحافظ ابن عبد البر في كتابه التمهيد قال : حدثنا عبد الوارث بن سفيان . قال : حدثنا قاسم بن أصبغ ، حدثنا ابن وضاح قال حدثنا يعقوب بن كعب : قال حدثنا مبشر بن إسماعيل ، عن حسان بن نوح ، عن عبد الله بن بسر قال : ترون يدي هذه صافحت بها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث ، رجاله كلهم ثقات وإسناده متصل .

                                                                                                          أما الحافظ ابن عبد البر فهو ثقة حجة كما في تذكرة الحفاظ ، وأما عبد الوارث بن سفيان فهو من شيوخة الكبار قد أكثر الرواية عنه في معرض الاحتجاج في [ ص: 431 ] التمهيد والاستيعاب وغيرهما ، وأما ابن وضاح فاسمه محمد ، قال في تذكرة الحفاظ : هو الحافظ الكبير أبو عبد الله القرطبي ، قال ابن الفرضي : كان عالما بالحديث بصيرا بطرقه متكلما بعلله ، وكان أحمد بن الحباب لا يقدم عليه أحدا ممن أدركه انتهى . وقد صحح ابن القطان إسنادا لحديث بئر بضاعة وقع فيه محمد بن وضاح هذا حيث قال وله إسناد صحيح من رواية سهل بن سعد . قال قاسم بن أصبغ حدثنا محمد بن وضاح حدثنا أبو علي عبد الصمد بن أبي سكينة حدثنا عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه عن سهل بن سعد قال : قالوا يا رسول الله إنك تتوضأ من بئر بضاعة إلخ . ذكر الحافظ الزيلعي كلام ابن القطان هذا في تخريج الهداية ، وأقره ، وأما يعقوب بن كعب ومبشر بن إسماعيل وحسان بن نوح فهم أيضا ثقات ، فالحديث صحيح ، ورواه الحافظ الدولابي في كتابه الأسماء والكنى .

                                                                                                          قال حدثنا أبو هاشم زياد بن أيوب قال حدثنا مبشر بن إسماعيل الحلبي ، عن أبي معاوية حسان بن نوح قال سمعت عبد الله بن بسر يقول : ترون هذه اليد فإني وضعتها على يد رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الحديث رجاله ثقات إلا الحافظ الدولابي فقال الدارقطني : تكلموا فيه وما يتبين من أمره إلا خير . وقال أبو سعيد بن يونس : كان أبو بشر يعني الدولابي من أهل الصنعة وكان يضعف كذا في تذكرة الحفاظ ويؤيد حديث عبد الله بن بسر هذا حديث أبي أمامة : تمام التحية الأخذ باليد والمصافحة باليمنى ، رواه الحاكم في الكنى كذا في كنز العمال ، ويؤيده أيضا حديث أنس بن مالك قال : صافحت بكفي هذه كف رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، فما مست خزا ولا حريرا ألين من كفه -صلى الله عليه وسلم - ، ذكره الشيخ محمد عابد السندي في حصر الشارد والقاضي الشوكاني في إتحاف الأكابر ، وهذان الحديثان إنما ذكرناهما للتأييد والاستشهاد لأن في أسانيدهما ضعفا وكلاما .

                                                                                                          والدليل الثاني على ما قلنا من أن السنة في المصافحة أن تكون باليمنى ، سواء كانت عند اللقاء أو عند البيعة ; ما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن العاص قال : أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت ابسط يمينك فلأبايعك فبسط يمينه فقبضت يدي ، فقال : ما لك يا عمرو ، قلت : أردت أن أشترط ، قال : تشترط ماذا ؟ قلت : أن يغفر لي ، قال : أما علمت يا عمرو أن الإسلام يهدم ما كان قبله ، الحديث . ورواه أبو عوانة في صحيحه وفيه : فقلت يا رسول الله ابسط يدك لأبايعك ، فبسط يمينه ، قال القاري في المرقاة في شرح هذا الحديث : ابسط يمينك أي افتحها ومدها لأضع يميني عليها كما هو العادة في البيعة انتهى . وهذا الحديث نص صريح في أن السنة في المصافحة عند البيعة باليد اليمنى من الجانبين ، وقد صحت في هذا أحاديث كثيرة ذكرناها في رسالتنا المسماة بالمقالة الحسنى في سنية المصافحة باليد اليمنى . فمنها ما رواه أحمد في مسنده بإسناد [ ص: 432 ] صحيح عن أبي غادية يقول : بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، قال أبو سعيد ، فقلت له : بيمينك قال : نعم ، الحديث . ومنها ما رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن أنس بن مالك يقول : بايعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بيدي هذه يعني اليمنى على السمع والطاعة فيما استطعت . ومنها ما رواه أحمد في مسنده بإسناد صحيح عن زياد بن علاقة قال : سمعت جريرا يقول حين مات المغيرة ، الحديث ، وفيه : أما بعد فإني أتيت رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أبايعه بيدي هذه على الإسلام فاشترط علي النصح . فإن قلت : أحاديث عمرو بن العاص وأبي غادية وأنس بن مالك وجرير -رضي الله تعالى عنهم- إنما تدل على سنية المصافحة باليد اليمنى عند البيعة لا عند اللقاء ، قلت : هذه الأحاديث كما تدل على سنية المصافحة باليد اليمنى عند البيعة كذلك تدل على سنيتها باليد اليمنى عند اللقاء أيضا ; لأن المصافحة عند اللقاء والمصافحة عند البيعة متحدتان في الحقيقة ولم يثبت تخالف حقيقتهما بدليل أصلا .

                                                                                                          والدليل الثالث : أن المصافحة هي إلصاق صفح الكف بصفح الكف ، فالمصافحة المسنونة ، إما أن تكون باليد الواحدة من الجانبين ، أو باليدين وعلى كلا التقديرين المطلوب ثابت ، أما على التقدير الأول فظاهر ، وأما على التقدير الثاني فإن كانت بإلصاق صفح كف اليمنى بصفح كف اليمنى ، وبإلصاق صفح كف اليسرى بصفح كف اليسرى على صورة المقراض ، فعلى هذا تكون مصافحتان ، ونحن مأمورون بمصافحة واحدة لا بمصافحتين وإن كانت بإلصاق صفح كف اليمنى بصفح كف اليمنى ، وإلصاق صفح كف اليسرى بظهر كف اليمنى من الجانبين فالمصافحة هي إلصاق صفح كف اليمنى بصفح كف اليمنى ، ولا عبرة لإلصاق صفح كف اليسرى بظهر كف اليمنى لأنه خارج عن حقيقة المصافحة .

                                                                                                          فإن قيل : قد عرف المصافحة بعض أهل اللغة بأخذ اليد ، قال في القاموس : المصافحة الأخذ باليد كالتصافح انتهى ، والأخذ باليد عام شامل لأخذ اليد واليدين بإلصاق صفح الكف بصفح الكف أو بظهرها ، قلت : هذا تعريف بالأعم لأنه يصدق على أخذ العضد وعلى أخذ المرفق وعلى أخذ الساعد لأن اليد في اللغة الكف ومن أطراف الأصابع إلى الكتف ، وهو ليس بمصافحة بالاتفاق ، والتعريف الصحيح الجامع المانع هو ما فسر به أكثر أهل اللغة ، وعليه يدل لفظ المصافحة والتصافح فبين المصافحة والأخذ باليد عموم وخصوص مطلق . وأما قول ابن مسعود -رضي الله تعالى عنه- : علمني النبي -صلى الله عليه وسلم- وكفي بين كفيه التشهد كما يعلمني السورة من القرآن أخرجه الشيخان ، فليس من المصافحة في شيء بل هو من باب الأخذ باليد عند التعليم لمزيد الاعتناء والاهتمام به .

                                                                                                          قال الفاضل اللكنوي في بعض فتاواه : واتجه در صحيح بخاري أن عبد الله بن مسعود مروي است علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكفي بين كفيه التشهد ، كما يعلمني السورة من القرآن : التحيات لله والصلوات والطيبات ، الحديث ، ليس ظاهر أن است كه مصافحة [ ص: 433 ] متوارثة كه بوقت تلاقي مسنون است نبوده بدكه طريقه تعليميه بوده كه أكابر بوقت اهتمام تعليم جيزي ازهر دودست يايكدست دست اصاغر كرفته تعليم ميسازند . وحاصله أن ما روي في صحيح البخاري عن عبد الله بن مسعود : علمني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وكفي بين كفيه إلخ ، فالظاهر أنه لم يكن من المصافحة المسنونة عند التلاقي بل هو من باب أخذ اليد عند الاهتمام بالتعليم كما يصنعه الأكابر عند تعليم الأصاغر ، فيأخذون باليد الواحدة أو باليدين يد الأصاغر . وقد صرح الفقهاء الحنفية أيضا بأن كون كف ابن مسعود بين كفيه -صلى الله عليه وسلم- كان لمزيد الاعتناء والاهتمام بتعليمه التشهد .

                                                                                                          وقد ثبت عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الأخذ باليد عند التعليم بأحاديث كثيرة منها ما رواه أحمد في مسنده عن أبي قتادة وأبي الدهماء قالا : كانا يكثران السفر نحو هذا البيت ، قالا : أتينا على رجل من أهل البادية فقال البدوي : أخذ رسول الله بيدي فجعل يعلمني مما علمه الله تبارك وتعالى الحديث ، ومنها ما رواه الترمذي عن شكل بن حميد قال : أتيت النبي -صلى الله عليه وسلم- فقلت يا رسول الله علمني تعوذا أتعوذ به ، قال فأخذ بكفي وقال قل : اللهم إني أعوذ بك من شر سمعي الحديث ، ومنها ما رواه أحمد والترمذي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من يأخذ عني هؤلاء الكلمات فيعمل بهن أو يعلم من يعمل بهن قلت أنا يا رسول الله ، فأخذ بيدي فعد خمسا فقال : اتق المحارم تكن أعبد الناس الحديث .




                                                                                                          الخدمات العلمية